الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كن خير آخد
قام قائم الظهيرة وأصهرت الأرض شمس الصحراء، فنزل الجيش ليقيل، وتفرق الصحابة تحت أشجار البادية يستظلون بها، وانتبذ النبي- صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحابه تحت ظل شجرة وانفرد بها فنزع سلاحه وعلق سيفه في غصن من أغصانها ونام.
كان غورث بن الحرث أحد شجعان العرب وفتاكهم يتتبع الجيش متخفياً، يتحين فرصة انفراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفتك به، وقد واتته تلك الفرصة الآن، فجاء حيث النبي- صلى الله عليه وآله وسلم نائم وسيفه معلق بالشجرة، فاخترط السيف فانتبه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم وغورث قائم على رأسه والسيف صلتا بيده. فصاح الفاتك بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم:"أتخافني؟ " فقال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم: «لا» قال: "ومن يمنعك مني" فقال: «الله» .
الاسم الأعظم ينطق به الرسول الأعظم، وهو أعزل من سلاحه إلا سلاح الإيمان، وقد شهر الباطل سيفه بيد ضال مغرور، يريد أن يصيبه في سيد أنصاره وأعظم أبطاله. فلو كان هذا الفاتك جبلا وقد صدعت كلمة <الله> سمعه لخشع وتصدع ولو كان قلبه من حديد لذاب وسال.
انخلع قاب الفاتك واضطربت يده وسقط السيف منها، فتناول النبي- صلى الله عليه وآله وسلم السيف ورفعه على رأسه وقال لغورث: من يمنعك عني؟ فقال له غورث: كن خير آخذ.
إلتجأ الفاتك إلى حُلم الني- صلى الله عليه وآله وسلم وعفوه
وكرمه ودعاه إلى أن يكون خير آخذ لعدوه، وخير الآخذين هو الذي يعفو بعد القدرة، ويسمح بعد الغلب، وما دعى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم إلى خير إلا أجاب ولا وقع بين أمرين إلا اختار أفضلهما، وما انتقم لنفسه قط، فترك غورثا وعفا عنه فرجع إلى قومه يقول لهم: جئتكم من عند خير الناس.
في هذه القصة تجلت الثقة بالله في أجلى مظاهرها واندحرت قوة السيف أمام قوة الإيمان إيمان من لا يخاف إلا الله ولا يخاف غيره. ولو كان السيف صلتا على رأسه وضرب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم المثل الكامل في العفو والتجاوز وحسن التآلف للناس وجلبهم إلى الإيمان فلهذا العفو ولقول غورث لقومه: جئتكم من عند خير الناس، من الأثر في القلوب ما لا تفعله الجيوش من فتحها للإسلام أو كفها عن أذى المسلمين (1).
رزقنا الله الاقتداء بهذا النبي الكريم ذي القلب الرحيم والخلق العظيم (2).
(1) أصل القصة في الصحيحين والشفاء ومسند أحمد وقد اختلف في إسلام غورث.
(2)
ش: ج 5، م 11، ص 284 - 285 غرة جمادى الأولى 1354ه - أوت 1935م.