الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلها، ولوف قدر له أن عاش منذ نشأته في محيط أوسع كمحيط مصر وخلا من مدافعة المشاكسين والظالمين ورأى شيئا من الطمأنينة وسعة العيش لتضاعف عمله لا محالة وعم نفعه مصر وغير مصر وربما كان ظهوره في الشام والعهد عهد ظلمة وجهل أبرك عليها وأنفع لها لأن ما اضطلع به وحده لا يضطلع به عشرة علماء على شريطة أن يكونوا في درجته من الإخلاص وشدة الشكيمة وعزوف النفس عن المطامع والدنايا.
وبعد فهذه صورة صحيحة من صور الأستاذ الحكيم عجيبة في خطوطها وتقاطيعها، جميلة بألوانها وأشكالها، عرضتها لغرابتها لأنه ندر جدا في المعاصرين من الأحياء ظهور رجل يماثله في أطواره وحركته وسعة حيلته وبسطته في العلوم، اللهم إلا إذا كان ممن لم يبلغنا خبره في البلاد النائية والزمان بخيل بمثل هؤلاء النوابغ في كل عصر وقد لا ينبغ اضرابهم في قرون يفادون بكل ما يتفانى الناس من التهالك عليه من مال وجاه ورفاهية وتنحصر لذائذهم في بث أفكارهم وآرائهم ويسعدون السعادة كلها إذا نهضوا بإنارة عقول أهل جيلهم وقبيلهم.
رسائله الخاصة:
وإلى القارئ الآن جملا من كتب دارت بيني وبين أستاذنا فيها شيء من مبادئه العلمية وروحه السامي ربما ترجمت عنه لقلتها مثل ترجمتنا وزيادة. وكتابة المرء نمامة على علمه وعقل الكاتب في قلمه واختياره قطعة من عقله. وقد صدرت هذه الرسالل من القاهرة المعزية ومن أجمل ما فيها كونها كتبت على البديهة لا كلفة فيها شاْن الشيخ في كتبه ومفكراته. وربما كتب إلى أصحابه كتابا وبعثه في البريد بدون أن يطالعه ثانية، ولذلك رأينا بعض كتبه غفلاً من التاريخ أيضاً.
سالته مرة عن منشأ الشعوبية فأجاب: "وأما الزمن الذي ظهرت
فيه الشعوبية فلا يحضرني فيه شيء والوقوف على أوائل الأشياء من أصعب المسائل وأدقها إلا أن الذي ظهر لي أن ذلك حدث بعيد عصر الخلفاء الراشدين لوجود الداعي إلى ذلك وهو التفاخر بالجنس الذي هو من عادات الجاهلية التي أتى الدين بإبطالها ومن نظر لمنزلة سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي في أوائل الأمة زال عنه الشك في هذه المسألة.
ولا يدخل في هذا الأمر بحث المؤرخ عن خصائص الأجناس مما يقصد به الوقوف على الحقائق فإن هذا نوع آخر. إلا أن من بحث عن أحوال الأمم ووفى النظر حقه تبين له أن العرب في الجملة لا تساميهم أمة البتة.
وأظن أنه لا بد أن تؤلف بعد حين كتب في خصائص الأمم وكتب في خصائص البلاد كما ألفت كتب في خصائص اللغات تجعل من الفنون التي يعني بها وتميز عن غيرها ولا تذكر بطريق العرض إلا أن فن خصائص الأمم تتيسر المشاغبة فيه والمغالطة أكثر من غيره. وكل فن وضعت مقدماته ونقحت مسائله يبدو بسرعة عوار الغالط فيه.
هذا وكما حدث بعض عصر الخلفاء أمر المفاضلة بين العرب والعجم حدث أمر المفاضلة بين العدنانية والقحطانية وهما الفريقان اللذان يجمعهها اسم العرب. ونشأ بسبب ذلك من الفتن ما يعرفه المولع بالأخبار ولم يزل أثر ذلك باقيا في بعض الجهات إلى ما قبيل عصرنا هذا وقد رأيت في بعض بلاد أناسا يقولون إلى الآن نحن قيسية وآخرين يقولون نحن يمانية.
كتبت لك ما كتبت والقلم لا يكاد يجري لما حدث لي من الفترة من نحو ثلاثة أسابيع. وسبب ذلك أني اختبرت أحوال كثير من الولايات فوجدتها منقسمة إلى حزبين كل منهما يباين الآخر في كل شيء ولم يظهر حزب ثالث يكون معتدلا ومعدلا لهما. وإذا دام الحال هكذا
تأخرت البلاد عما كانت عليه من قبل. وقد نصحت كثيرا من المحدثين من الأحرار بأن يعدلوا مشربهم وحذرتهم عواقب الأمر غلبوا أم غلبوا فأبوا إلا الإصرار على فكرهم وما قلت لهم رأيي إلا بعد أن ألحوا علي في بيانه وحضر اناس منهم من مركز جمعيتهم وطلبوا مني التفصيل بعد أن بينت لهم ذلك إجمالا فرأيت أنهم يوافقونني في البدء ويخالفونني في النهاية فامتنعت في إتمام البيان وتشاغلت عنهم.
فإني رأيتهم يظنون أن حلهم لبعض مسائل الجبر والمقابلة يحل لهم مسائل إدارة البلاد. إن كثيراً ممن كنا نزدري برأيهم في السياسة من تلاميذ المدارس في مصر هم أرقى منهم في ذلك.
وقد اجتمع بنا في هذه الليلة أحد المرسلين منهم وسمع منا هذه العبارة وهي ملقاة على صورة تحتمل الجد والهزل فدهش وعرف أنها الى الجد أقرب منها إلى الهزل وكان يتكتم فاضطر إلى الانطلاق فيما يراه من الأخطار التي يصعب تداركها
…
إني متشوق لاخبار كثيرة من الولايات لعلنا نسمع بظهور الحزب الأوسط في واحدة منها فيسري ذلك في غيرها شيئا فشيئا. وهذا الحزب يلحقه في أول الأمر أشد اضطهاد لأن الحزبين المتطرفين يبغضانه أكثر مما يبغض أحدهما الآخر لاعتقادهم بأنه أقرب إلى انضمام كثير من الحزبين إليه.
وقال من كتاب عن القاهرة في 19 صفر سنة 1328:
" وبعد فقد وصلني كتابكم الكريم منبئا بعودكم من بلاد أوربا فسررت بذلك سرورا شديدا وكنت أتمنى لكم هذه الرحلة من زمن قديم لما اتيقنه من الفائدة التامة العامة في ذلك فإن الاقتباس من الأمم المترقية دليل على النباهة لا كما يظن البله من أن في الاقتباس غضاضة ونريد بالاقتباس ما يشعر به هذا اللفط من تلقي الأمور النافعة لا كما يظنه المتكايسون من أن الأمم الراقية ينبغي أن يؤخذ منها كل شيء
حتى أداهم الأمر إلى أن يقلدوهم في الأمور التي يودون هم أن يخلصوا منها.
وأما ما يتعلق بخزائن الكتب في الآستانة فقد خطر في بالي خاطر يرتفع به محذور الامتعاض في جمعها وذلك بأن تبقى كل مكتبة في موضعها لينتفع بها المجاورون لها غير أنه ليؤخذ منها الكتب النادرة وهي في الغالب لا تلزمهم ولا يهمهم أمرها وتوضع في موضع معد لها يكون في وسط البلدة. ومن اطلع على دفاتر مكاتبها وجد إمكان إجراء ذلك بدون اعتراض يعقل. ولما عملت برنامجا لكتبها النادرة رأيت أن بعض المكاتب قد يوجد فيها نسخ متعددة من كتاب نادر فلو أخذ أحد النسخ المكررة لم يكن في ذلك ما يقال. وقد كنت ذاكرت بهذا الأمر بعض أعضاء الجمعية فاستحسنه جدا وذكر لي أنه سيسعى في إبرازه من القول إلى الفعل. ثم عرضت شواغل عاقت عن ذلك.
وأما مصر فقد دخلت في الدور المجهول وسيكون إما لها وإما عليها. وهذا الدور لابد منه لكل أمة تريد النهوض بعد العثرة فإن ساعدها الزمان والمكان والا مكان نالت مناها والا كان لها تعلل بسوء البخت بعد التشبث بالأسباب الظاهرة جعل الله سبحانه العاقبة خيرا".
وكتب ناصحا وواضعا خطة للإصلاح بتاريخ 1 جمادى الأول 1337:
"ومما يهم الأمر فيه إصلاح العادات فإن في الشرق كثيراً من العادات التي ينبغي إبطالها كما أن فيه كثيرا من العادات التي ينبغي المحافظة عليها غير أنه لا نبغي أن يستعمل التنكيت في ذلك بل يستعمل مجرد البيان الدال على حسن الشيء أو قبحه.
ولا يتيسر الإقدام على هذا الأمر إلا لمن لا يهمه أمر المدح والذم العاجلين بل يهمه حسن الأثر.
ومن العادات الرديئة جدا أن الكاتب قد يمكنه أن يكتب في
إصلاح عادة لكنه يرى أن الكلام في ذلك يكفي فيه عشرة أسطر فيرى أن الناس يزدرون بذلك وينسبونه لقلة القدرة على الإنشاء فيترك الكتابة فيه أو يسهب إسهابا لا داعي له من سرد مقدمات معلومة مسلمة لو تركها لكان أقرب إلى الفهم وأبعد من الوهم وما ذلك إلا من تأثير الحشوية فيهم وقولهم أن الناس نسبوك لعدم الاقتدار على الكتابة. فينبغي أن يكون في المجلة ولو مقدار صفحة تبحث في العادات على اختلاف أنواعها وتعليم ذلك للبنين والبنات. هذا ومن جهة رأي الناس في حقكم فإن النبهاء المنصفين منهم يجعلونكم ممن ثبت في حين الشدة ولا تعبأوا بمن يلوم عن جهل وغباوة فإن ذم هؤلاء أقرب إلى المدح من ثنائهم.
وكتب إليَّ يقوي عزيمتي على العمل:
"وأرجو أن يكون ما حصل لكم من المروعات زائدا في نشاطكم في إفادة الأمة، فإنها في احتياج شديد إلى من يبين لها الطريق الأقوم من أرباب الوقوف والإخلاص وأعظم ما تحتاج إليه هو أمر الأخلاق وما يتعلق بها ومعرفة الأمور العمرانية على وجه لا يكون فيه إخلال بمعالي الأمور وتنبيههم على عدم التعويل على المدنية التي كان الغربيون قديماً يفتخرون بها ويزدرون بمن لا يتابعهم عليها مما هو مبني على مجرد مراعاة الأمور المادية دون غيرها وهي التي جلبت هذه المصائب الحاضرة وقد أشرتم بطرف خفي إلى ذلك في محاضرتكم التي ألقيتموها في مصر حين فراركم من دمشق إليها وقد صرحنا في ذلك في قصيدتنا البائية المطبوعة في الجزء الرابع من منتخبات الجوائب. وقد كان أناس يقرؤونها ويعدونها من آراء حشوية الشرق فما زالوا على ذلك حتى صرح فلاسفة الغرب بذلك. ومما ينبغي أن تحثوا عليه تعلم صنعة ما أي صنعة كانت ولا يكون أحد خاليا عنها ويجعل هذا مبدأ جديدا لهذا العصر والتعويل على الرياضة الجسمانية".
وكتب في غرض الأعراض عن المثبطين من رسالة:
"وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم في هذا الوقت الذي تنبه فيه الغافل فضلا عن غيره موهمين الشفقة.
وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع. ولم ير أحد من المثبطين قديما أو حديثا أتى بأمر مهم. وينبغي للجرائد المهمة أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة والتحذير منها ليخلص منها من لم تستحكم فيه وينبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم. وقد ذاكرني منذ ليلتين أحد نجباء الأبناء في هذه المسألة وشكا كثيراً منها وعجب لعدم اكتراث المصلحين ببيانها بياناً كافيا شافيا فقلت له: المأمول أن يكون الأوان قد آن لإصلاح هذه العادة التي تهبط بالأمة إلى الدرك الأسفل أصلح الله الأحوال" (1).
-6 -
وقال من كتاب في غرض التربية:
وأؤكد في هذا الكتاب بأمور:
1 -
إدخال مبادىء الصنائع في المدارس الابتدائية ويمكن تجربة ذلك أولا في مدرسة واحدة.
2 -
إدخال التربية العملية فيها وذلك بتعويد التلميذ على الصدق وأن لا يتكلم في شيء إلا بعد أن يختبره فإن الشرقي اعتاد أن يدعي كل شيء وأن لا يقول في شيء لا أعلم وهذا جعله لا شيء عند الغري.
(1) ش: ج 9، م 5، ص 2 - 29 غرة جمادى الأولى 1348ه - أكتوبر 1929م.
3 -
السعي في مدرسة للقراءات السبع مثل ما كان من قبل.
ولا ينبغي أن توضع هذه الأشياء في المذاكرة وأن يخطب فيها، فإن مثل ذلك ينبغي أن يخطب فيها بعد أن تصير.
وقال في موضوع التعليم وقد رجوته إرشادي برأيه فيها في المدارس ورأيه في البحث في المخطوطات: "ومما زاد فيه سروري شيئان أحدهما الاعتناء بتربية الأنجال، فإن أكثر الآباء يرجون من حيث يدرون ولا يدرون مصلحة أنفسهم وما ذكرتم فهو موافق. والأولى أن يضم إلى ذلك صنعة كالخياطة والتفصيل ونحو ذلك وعرفوني بعد حين البروغرام الذي يظهر لكم. وينبغي أن تتولوا بنفسكم بعض التعليم ولو مدة ربع ساعة على طربق أحد المغاربة فإنه كان يطلب من ولده أن يفيده بعض مسائل بعد أن يشعره بطرف خفي بمظانها فيلقيها الإبن على الأب كأنه يفيده.
واما الذين يريدون أن يخفضوا ما رفع الله شأنه ويرفعوا ما خفضه فعما قليل ليصبحن نادمين والزمان يضحك منهم وكذلك الأئمة الغربيون الذين يمتون إليهم بوسيلة التقليد لهم فلا يكن في صدرك حرج منهم فهم اغرار وينبغي أن تمحو من لوح الفكر لفظ اليأس فإنه أضر شيء، وأثبت ففي الثبات جل الحكمة إن لم نقل كلها.
الثاني استفسارك عن وصف الكتب فإنه دل على أنك قوي حسن الظن بنا حتى تكاد تعتقد أننا لا نقول شيئا جزافا كما أن أناسا يعتقدون أننا لا نقول شيئا إلا جزافا. وهنا أذكر لك حكاية سمعتها مرارا ممن أثق بهم وهي أن أحد (1) من جمع له بين العلم وغيره من الصفات العالية أرسل إلى أحد من يميل إليه من النبهاء وقال له أريد أن تنشر بين جماعتنا العلم الفلاني فقال لا أعرفه وإنما أعرف العلم الفلاني. فأعاد
(1) كذا في الأصل وصوابه: أحداً.
عليه العبارة المسؤول قوله لا أعرفه. فأعاد عليه السائل ما قال أولاً فأراد المسؤول أن يجيبه فأشار إليه بعض الحاضربن إشارة خفية أن يظهر الامتثال ثم قاموا من عنده فقال له المشير: أن فلانا لم يقل لك ما قال إلا وهو يعلم أنه ممكن وإذا تحقق الإمكان فما عليك إلا أن تسعى في إخراج الأمر من القول إلى الفعل فسعى وتم الأمر. وحصلت شائدة عظيمة من إحياء أمر كان دارسا.
ونرجع إلى أصل المسألة فنقول: من أراد وصف كتاب ينبغي له أن ينظر فيما قاله مؤلفه في مقدمته أو في خاتمته أو فيهما معا ويأخذ خلاصة ذلك والوصف عندهم ليس عبارة عن النقد بل بيان موضوع الكتاب والداعي إلى تأليفه. وما في الكتاب من الخصائص وعلى ذلك يتيسر وصف الكتب بأسرها حتى كتب الطب فإذا زاد الواصف فصلا من الفصول ليكون كالنموذج كان أحسن وكثيرا ما يكون وصف الكتاب على هذه الطريقة سبب نشره.
وأكثر وصف المؤلفين لكتبهم إما مطابقة للواقع أو قريب منه.
أما المموهون فقليل في الطبقات القديمة. ومن العجيب أن هذا الأمر لا يشعر به كثير من نبهاء هذا القطر ولفظ الكثير هنا مجاز وجربوا نفسكم في غير التاريخ ونحوه ففي الحديث يمكنكم أن تصفوا هذه الكتب.
"في دار الكتب الظاهرية بدمشق".
نمره 356 اللطائف في علوم المعارف للمديني.
"362 أسماء الضعفاء للعقيلي".
"387 معرفة الرجال لابن معين".
"390 المشتبه للغساني".
"393 الكفاية في علم الرواية".
وهذا أمر يفيد الناس أكثر من كثير من المقالات التي حررها أناس ليس لهم تتبع ولا معرفة بجعل نتيجة للمقالة حتى صار المطالعون يضيق صدرهم من ذلك وقد سألني منذ مدة أرباب المجلات عن أحسن المجلات فقلت أصغرها حجماً.
"في 15 ذي القعدة 1328"
وقال من رسالة:
"مما يهم جدا إدخال مبادئ الصنائع في جميع المكاتب الابتدائية وقد جرب ذلك في بعض المدن فتبين أن ذلك مما يعين على التحصيل أيضا والفائدة في ذلك مهمة.
ومما يهم جدا إدخال التربية العلمية في المدارس لا سيما المدارس الإبتدائية. ومن ذلك أن يعود التلميذ على أن لا يتكلم بما لا يعلم وأن يتفكر قليلا إذا سئل عن شيء لم يسبق له به اختبار. وهذا أمر ممكن قريب الأخذ قد عمله أناس فنجحوا فيه- وأرجو أن لا تقرأ أفكاري على أناس من الحشوية أو الفلاسفة الخياليين فإني أربأ بها عنهم. نعم هؤلاء ينبغي أن يعرفوا ذلك بعد العمل به. ونصيحتي لكل محب أن لا يشتغل بمثل هؤلاء فإنه أنفع.
"في 21 ربيع الأول سنة 1337"
"هذا وقد سرني كثيرا زوال المباينة بينكم وبين الذين نود عدم مباينتهم. وهذا أيضا من أثر النشاط فإن النشاط إذا زال لحق المرء الملل من كل شيء وإذا حصل قويت الهمة ورأى البعيد قريبا وأقام للناس أعذارا ونفعهم وانتفع بهم.
• • •
قد جرى منذ أسبوعين مذاكرة سرية في طريقة ترجمة إحدى دوائر المعارف الفرنسوية فإن الناس في احتياج لذلك. وقد تبين من
المذاكرة أن أمر المال سهل فإن أحد الحاضرين تعهد بذلك وقال أن له أخواناً لا يتوقفون في الإمداد، ولكن المهم وجود مترجمين كافيين يتعهدون بالقيام بذلك إلى النهاية فقلت أن هذه المسألة تحتاج إلى تفكر وبحث شديد. وقد استقر الرأي على أن تدرس في نحو ثلاثة أشهر ووعدت بالكتابة لكم في ذلك فابحثوا في المسألة فيما بينكم وبين نفسكم ثم فيما بينكم وبين إخوانكم الذين يناسب البحث معهم في ذلك على صفة خاطر قد خطر وكان معنا في المذاكرة الفاضل المقدام السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار وهو يأمل أن يوجد بإرشادك نحو سبعة مترجمين. وقد تشبث بهذا الأمر منذ سنين أناس ظنوا أن المال يأتي بكل شيء فتبين لهم غلطهم وأعرضوا عن الأمر وهذا أمر بعيد جدا ولكن هو في درجة الأمكان القريب من الوقوع وإنما يحتاج إلى الهمة ومعرفة الطريق وقد كان بعض الحاضرين يريد أن يجعل زمام الأمر في يد الحكومة، فطلبنا أن يكتم ذلك عنها، فإنه لا يؤمل أن تقدر عليه فإن هذا الأمر محتاج إلى الحكمة أكثر من احتياجه إلى الحكومة.
وقال في رسالة وقد سألته عن التاريخ الهجري وانتقاد بعضهم على استعمالنا له:
عجبت لمن يسعون في أن نهجر التاريخ الهجري ويفاتحوننا في ذلك كأنهم لا يعلمون أنا نعلم ما يرمون إليه عن بعد. لكل أمة شعار إذا تركته طمع فيها واستضعف جانبها وربما صارت بعد مدمجة في غيرها. وقد سعى أناس منذ عهد بعيد في أن يضعفوا ما يقوي أمر الإسلام عموماً والعرب خصوصاً فنجحوا بعض النجاح، فطمعوا في أن يقضوا عليه فلم يجدوا أقرب إلى ذلك من إضعاف أمر اللغة العربية والسعي في تبديل خطها والتزهيد في الكتب التي كتبت به جعلوا ذلك دأبهم وديدنهم حتى أثروا في كثير من أبناء جلدتنا الذين يظنون أنهم
على غاية من الذكاء والوقوف على أسرار الأمم فكان ما كان مما هو معروف ثم زاد الأمر فطمعوا في تبديل التاريخ الهجري وساعدهم على ذلك، جبت مصر ففرحوا فرحاً لا مزيد عليه. وقال بعضهم: الآن شفينا الغليل من هذه الأمة غير أن كثيرا ممن انتبه لهذا الأمر سعى في إعادته على قدر الإمكان فامتعض أولئك القوم وصاروا يلمزون كل من يسعى في ذلك.
وهذه المسألة نظرا لتعلقها بتاريخ تأخر الشرق لا يتيسر أن يكتب فيها أقل من تاريخ نحو ثلاثين صفحة نحو ثلاثين يوما. وليت شعري كيف يلام المسلم على أن يؤرخ كتابه بالتاريخ الهجري فهل انقرض التاريخ الهجري وهل يريدون أن ينقرض وأصحابه أحياء؟ فإن قالوا أن المقصود توحيد التاريخ في الأمم وأوربا هي القوية الآن قيل أن أوروبا لها تاريخان أحدهما شرقي والآخر غربي وكل يؤرخ به قوم منهم فهل أوقف ذلك التجارة أو أثر في المدنية شيئا. ولم لا يكلفون تغيير مكاييلهم وموازينهم وأذرعهم لتتحد المقاييس في الأمم. وتغيير ذلك ليس فيه غضاضة بخلاف التاريخ. وقد رأيتهم يعتذرون عنهم ويعدون ذلك متانة في الأخلاق فانظر ما وصلنا إليه.
وهذا الكتاب يدلنا على أشياء كثيرة من سيرة الشيخ ومرماه ونصاعة حجته وجميل مناقشته لخصوم مشربه.
وكتب: "كان كثير من الحشرية يلومونني في تنبيه المؤلفين والطابعين على ما يلزمهم ويقولون أن هذا لا يفيد غير العداوة وأنت تضرب في حديد بارد وما دروا أني ممن يقول بأن العداوة في محلها أجدى عندي من أن أكسب المحبة من غير وجهها وأن معاداة الغاشين لي مما يسرني كما أن محبتهم لي مما يسوءني غير أن الزمان أبان أن كل نصيحة لا تخلو من تأثير ولو بعد حين فإن كثيرا ممن لحقتهم صدمة منا ومن
إخواننا الذين أعطوا هنا عهدا أن لا يغشوا الأمة قد صاروا يراجعون بعض مراجعة غير أن التأثير في المطابع كان أكثر.
وأما أمر التصحيح فلم يهتد المصلحون إلى طريقة في إصلاحه. بحيث أن بعض الناس طلب إلينا أن نبحث له عن مصحح لكتاب المحكم لابن سيده وهو أكبر من لسان العرب ليشرع في طبعه فبعد بحث كثير تبين أنه لا يقوم بتصحيحه إلا فلان وهو أحد إخواننا الذين لا يساعدهم- نظرهم في أملاكهم الجمة على التفرغ لمثل هذا الأمر. فأرجيء الآن طبع الكتاب لهذا الأمر. فانظر إلى الحال التي وصلت إليه مصر. فما قولك في غيرها إلا أن الذي يسر في مصر انتباهها لنقصها بخلاف الأقطار الأخرى والانتباه للنقصهو نوع من الكمال. أرانا الله سبحانه الكمال على حقيقته بمنه عليكم بالرياضة الجسمانية والرياضة الروحانية. ويدخل في الرياضة الروحانية التباعد عن سماع الأخبار التي أولع بها المرجفون. فإنه لا قيمة للزمان عندهم وهو عند الحكيم أغلى من الجوهر.
"17 رمضان سنة 1326"
وكتب من رسالة:
"قد سرني في مصر في هذه المدة أن العقلاء بدأوا يجتمعون في الفكر والتعاون على صفة يقتضيها الموقع وهو عدم التظاهر من أول الأمر كما يفعله طالبو الشهرة وهذا أمر لا يشعر به إلا من اطمأنوا إليه. وقد كانوا قبل ذلك يقول كل واحد منهم نفسي نفسي. وإذا استنجده أحد لأمر نافع قال ولو بلسان الحال "عليك بخويصة نفسك".
قد اجتمعت في هذا النهار بعالم أورباوي قد حل الخط الثمودي الموجود في مدائن صالح وأخبرني أن كتابه قد تم طبعا وهو الآن يسعى لجمع لغة أهل نجد فإنه وجد أن أكثر الكلمات العربية لم تزل
باقية عندهم وكان قد ساح في تلك الجهات وهو ممن يتعصب للغة الكتاب العزيز أكثر مما يتعصب أهلها لها.
كان قد أسس في أميركا مدرسة يقرأ بها الطالب وهو في بلده، وقد كنت رأيت في سورية أحد طلبتها وهو يدرس فيها فنا دقيقا وأظن أنها تسمى المدرسة الكوتشوكية، وقد كان ترجم قديماً إلى العربية بعض قوانينها وطبعت ثم نفدت النسخ بحيث أني بحثت عنها فلم أجد نسخة بل لم أجد من يعرفها فإن وجدتم كتابا بالفرنسوية يتعلق بها فترجموا منه ما تيسر مما يوافق البلاد.
وقد سعى بعض الواقفين على ذلك من نحو عشر سنين في بث هذا المقصد إلا أنه على وجه خفي حيث كان نشر العلم إذ ذاك يعد من أعظم الإجرام، والآن لم يبق مانع ومجرد نشر أسلوبها وقوانينها يفيد فضلا عن التشبث بشيء من ذلك.
وقال في كتاب:
"وقد وقفت على كثير من الجرائد الجديدة فوجدت جل مباحثها في بيان فوائد الحرية ورأيت الناس قد ملوا هذا البحث لأن الحرية إن كانت على المعنى الذي يقول به الحكماء فهي مما لا يختلف فيه اثنان من ذوي النباهة، وإن كانت على وجه آخر فربما كان ضررها أكثر من نفعها. ولست أعني بالحكماء هنا أمثال الحكيم الذي كان يقال لكم أنه تعلم الحكمة في سويسرة في ثلاثة أشهر لأن مثل تلك الحكمة مما يزيد خبالاً. وما أرى أكثر الفتن التي وقعت في كثير من الولايات إلا من مثل هؤلاء لا سيما أن ضم إلى دعوى الحكمة دعوى الحرية وهو لا يملك نفسه. وقد كان أرباب الحدس يتصورون أنها تكون أشد إلَاّ أن الألطاف الإلهية حفت فخفت ولله الحمد.
"23 شوال سنة 1326"
ذكر في جملة كتاب حوى مسائل كثيرة في نسخ الكتب وأخذها بالتصوير الشمسي والعناية بوضع فهرس لكتب رومية باللغة العربية ثم قال:
"من أغرب ما في القدس امتزاج المسلمين من النصارى على وجه غريب بحيث لم تؤثر فيهم الطريقة التي اتخذها المستبدون في تمشية أمرهم وإن هلك الحرث والنسل. وقد رأى بعض الباحثين أن هذا أمر دبره صلاح الدين الأيوبي برأيه الثاقب منعاً لما حدث من قبل بسبب سوء سياسة الغبيديين الذين كانوا بمصر تغمده الله برضوانه.
خذوا على نفسكم عهداً بأن لا تؤخروا جوابا مكتوباً (1) لأحد وخذوا العهد على من كان على شاكلتكم بذلك فإن في ذلك فوائد جمة والمكتوب يسوغ أن لا يزيد على خمسة أسطر.
"4 شوال سنة 1337"
وقال أيضا:
"وأرجو أن لا تقصروا في كتابة نبذ تتعلق بالتربية وتدبير المنزل وإصلاح العادات وما أشبه ذلك وأؤكد عليكم في أن لا تشتغلوا بشيء من الجدل فإن الجدل يبطيء عن العمل، وخذوا من عنان قلمكم لئلا يجري إلى غير مدى والاعتدال أقرب لحصول ما يبتغى.
وذكر في رسالة أن الكتب التي يجب أن توصف:
1 -
أرجوزة ابن سيده في الأدب وهي من قبيل الملح اللغوية في نمرة 1 من الأدبيات المنظومة مع ديوان أبي العتاهية تزاد فيها نثراً في الآخر الصاحب وما يميل إليه من دواوين الشعر والكتب وما يتقنه من العلوم والصنائع أو ما يتجر به وما يؤثره من الأخلاق ونحو ذلك ويتيسر عمل ذلك في جدول في صفحتين أو أربع.
(1) في الأصل: جواب مكتوب.
2 -
الجمل في اللغة في الظاهرية نسخة منه ناقصة من الطرفين.
3 -
المغرب للمطرزي.
4 -
رد ابن السيد على رد ابن العربي على شرحه لديوان المعري.
5 -
أعتاب الكتاب لابن الابار.
6 -
عروض ابن معطي وبديعيته.
7 -
بغية المؤانس من بهيجة المجالس والأصل لابن عبد البر.
8 -
قانون البلاغة لأبي طاهر محمد بن جبلة البغدادي في الظاهرية.
9 -
مختصر إصلاح المنطق.
10 -
الأربعين السلفية وهي مرتبة على البلدان، وممن سمعها على السلفي الملك الناصر صلاح الدين يوسف ووالده نجم الدين أيوب ابن شادي بقراءة القاضي سناء الملك هبة الله بن جعفر بن سناء الملك محمد بن هبة الله بن محمد الأسدي (1).
ينقل صورة السماع فقط. ا ه.
محمد كرد علي
(1) ش: ج 10، م 5، ص 25 أسفل صفحة 33. غرة جمادى الثانية 1348ه نفامبر 1929م.