الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العظيمة في عشر مدارس تحت قبة الملك الظاهر بيبرس البندقداري ولقي ممن استحلوا أكل الكتب والأوقاف مقاومة شديدة وهددوه بالقتل إن لم يرجع عن قصده فما زادوه إلا مضاء وانكماشا، ولا تزال هذه الدار أثراً من آثاره في الشام وقد أنشأ مثلها في القدس باسم الشيخ راغب الخالدي وسماها "المكتبة الخالدية" وأضاف إليها بعد ذلك آل الخالدي خزائنهم الخاصة.
علمه وعمله:
رأينا منهاج الدروس الواسع الذي أخذ الشيخ نفسه بدراسته منذ حداثته وأنه ليندر في المتأخرين من علماء دور الانحطاط الفكري نبوغ رجل مثله وعى صدره من ضروب المعارف ما وعي وطبق مفاصل الشريعة مع علوم المدنية فقد كان متضلعا من علوم الشريعة وتاريخ الملل والنحل منقطع القرين في تاريخ العرب والإسلام وتراجم رجاله ومناقشات علمائه ومناظراتهم وتآليفهم ومراميهم، ساعده على التبريز في هذا المضمار قوة حافظته التي لا تكاد تنسى ما يمر بها مهما طال العهد. وكان إماماً في علوم الأدب واللغة إذا سألته حل مسألة تظن الشيخ لا يعرف غير هذا العلم وإذا استرشدته في الوقوف على مظان موضوع تريده أطلعك من ذلك في الحال على ما لا يتيسر لغيره الظفر به بعد الكشف عنه أياماً، وهكذا هو في علوم الشريعة ولا سيما التفسير والحديث والأصول. وكان يعرف السياسة وما ينبغي لها وحالة الغرب واجتماعه والشرق وأممه وأمراضه معرفة لا تقل عن معارف عالم أخصائي من علماء الغرب لعهدنا، ولا يكاد جليسه يصدق إذا انكفأ الشيخ يتكلم في هذه الموضوعات خصوصاً إذا كان غربيا أن محدثه شيخ من شيوخ المسلمين يعيش في أمة لا ثقيم وزناً لهذه المعارف.
اتسع صدر الشيخ لجماع علوم المدنية الحديثة إلا الموسيقى والتمثيل فلم يكن له حظ فيهما وربما قاوم سراً المشتغلين بهما مخافة أن تكون سلماً إلى التبذل وخلع ثوب الحياء والوقار، وكان لا يرى فيهما إلا مدرجة اللهو والصبوة. وهذا مما لم يدخله الشيخ في جريدة أعماله ولذلك لا يفتي بالتسامح مع القائمين عليهما مهما أوردوا له من الحجج على نفعهما. وصعب أن يتخلى المرء عن جميع ما أورثه إياه أهله وأساتذته ومحيطه، وصعب على من حلف أن يعيش عيش جد وتبتل أن يتساهل في الصغائر لئلا تؤدي إلى الكبائر. أما الرسم والتصوير والنقش فكانت مما يتسامح فيه لكنه يغمزه عرضاً، وكثيراً ما يقول أن أجيال الفرنجة في هذا العصر أفرطوا في الغرام بالتصوير والتعويل عليه في كل أمر فأضعفوا بذلك قوة التفكير والتصوير.
وسياسة الشيخ في التعليم محصورة في تلقف المسلمين أصول دينهم والاحتفاظ بمقدساتهم وعاداتهم الطيبة وأخلاقهم القديمة القويمة وأن يفتحوا قلوبهم لعامة علوم الأوائل والأواخر من فلسفة وطبيعي واجتماعي على اختلاف ضروبها ويقاوم المتعصبين على هذه العلوم المنكرين غناءها في الجتمع مقاومة حكيم عاقل وذلك بتكثير سواد الدارسين لها وإرشادهم إلى طرقها العملية المنتجة لا الوقوف بها عند حد الأنظار فعمَّ المسلمين في الشام درس علوم نرى اليوم الأخذ بحظ منها من البديهيات اللهم إلا عند بعض الجامدين من المشايخ ممن جهلوها، ومن جهل شيئاً عاداه.
وكانت للشيخ طرق مبتكرة في معنى بث الأفاكار التي تخالف معتقد الجمهور يبثها في الحقول بدون جعجعة ولا مظاهرة ويقرب منالها من المستعدين لأخذ النفس بها وذلك بتلقينهم أمهات مسائلها أثناء الحديث على صورة لا ينفرون منها ولا يخطر لهم أنها بالبدع المنكر. مثال ذلك أنه أولع في صباه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمبة وكانت
جمهرة الفقهاء في عصره تكفر ابن تيمية تعصباً وتقليداً لمشايخهم فلم ير الشيخ لتحبيبهم بابن تيمية إلا نشر كتبه بينهم من حيث لا يدرون. فكان يستنسخ رسائله وكتبه ويرسلها مع من يبيعها في سوق الوراقين بأثمان معتدلة لتسقط في أيدي بعضهم فيطالعونها وبذلك وصل إلى غرضه من نشر آراء شيخ الإسلام التي هي لباب الشريعة.
هذا وليس الشيخ في مذهبه على الحقيقة حنبلياً ولا مالكياً ولا حنفياً بل هو مسلم يأخذ من أصل الشريعة باجتهاده الخاص ويحسن ظنه بأئمة المذاهب المعروفة، ويتجهم لمن يجرأ على النيل من أحدهم. يعمل بما صح له من الدليل في الكتاب والسنة ولطالما أعطى الحق لعلماء الشيعة أو الإباضية أو المعتزلة في مسائل تفردوا بها وضيق فيها أهل السنة. أما الفلسفة أو الحاكمة القديمة والفلسفة الحديثة فكان يعطف فيها عليها وعلى المشتغلين بها وينحي باللائمة على المتأخرين الذين أوصدوا بابها فأظلمت العقول وضعف مستواها.
كان الشيخ ينكر على الظالمين سيرتهم ويقبح الظلم وإن نال عدوه وينصف الناس من نفسه بعض الشيء وكان الحكم معه في بلية يعرفون أنه ينزع إلى القضاء على سلطتهم الغاشمة ولا يستطيعون أن يقلبوا له ظهر المجن ويظهروا العداء له. وكذلك كان المشايخ معه يبغضون أفكاره ولا يجرأون على مقاومته بسلاحه سلاح العلم والبرهان فكان كثيراً ما يقول ما لنا ولأناس ليس لهم من السلطان علينا غير سلاطة ألسنتهم وكلمات ينفسون عنهم بها وهي لا تخرج إلى أبعد من سقوف بيوتهم وحجرهم، وحدث لبعض أغمارهم أن استعانوا غير مرة بالسلطة الزمنية على توقيف تيار أفكاره وأفكار أنصاره فكان الشيخ يصدهم لما له من التأثير في أهل الحل والعقد ممن كانوا يتمثل لهم عقل الرجل وضعف المبغضين له وكان يحسن مخاطبتهم بلسانهم والقائمون عليه لا يحسنون محاورتهم حتى ولا بلغتهم الأصلية،
وسلاحهم دسائس يحوكونها وتعصبات ينفتونها. ولم يزل جهال الناس كما قال ابن المقفع يحدون علماءهم وجبناءهم، شجعانهم ولئامهم كرماءهم وفجارهم، أبرارهم وشرارهم خيارهم، من أجل هذا كان الأستاذ يتفنن في بث أفكاره بين الخاصة والعامة على صور شتى ويتفانى في نشر العلم والتهذيب والأخذ من القديم والحديث، وكم من عامي أصبح بتعاليمه وتلقينه بالعمل مسائل بسيطة من العلم محدوداً من المتعلمين في جلسات قليلة جلسها معه وسمع مذكراته ومن هذه الطبقة أناس ما فتىء على تنشيطهم حتى ألفوا وطبعوا ولم يكونوا قبله في العير ولا في النفير. وكم من جريدة أو مجلة أو كتاب أو رسالة نشرت في مصر والشام بإرشاده وكان له أسلوب جرى عليه خصوصاً في تفتيش المدارس وهو أن يعلم المعلم ولا يشعره بأنه يعلمه بل يوهمه أنه يذاكره في مسائل التربية والتعليم أو أنه يحاول أن يتعلم هو منه.
وكم من أديب أو عالم أرشده إلى السبيل السوي في أدبه وعلمه وعلمه المظان وأساليب المراجعة، وكثير عدد من اشتغلوا بالآداب أو تعلموا التعليم الثانوي أو العالي في القطر الشامي إن لم يكونوا استفادوا منه مباشرة فبالواسطة، وتلاميذه ومريدوه يعدون بالعشرات من المسلمين وأكثرهم اليوم يشغلون مقامات سامية في دور العلم والحكم وفي التجارة والزراعة. ولم يحد المترجم له عن الخطة التي اختطها لنفسه منذ نعومة أظفاره ودعا الناس إلى إنتاجها حتى آخر أيامه. وخطته الإخلاص والعمل على النهوض بالأمة من طريق العلم وبث الملكات الصحيحة في أهل الإسلام، وثورته ثورة فكرية لا مادية ويقول أن هذا الطريق يطول أمرها ولكن يؤمن فيها العثار والسلامة محققة ثابتة. بحق ما قيل في الشيخ أنه معلمة (أنسيكلوبيديا) سيارة وكيف لا يكون كذلك من آتاه خالقه حافظة قوية وذهنا وقاداً وعقلاً
يستعمله على الدوام، فقد قرأ جميع ما طالت يده إليه من الكتب العربية التي طبعت في الشرق والغرب، أما المخطوطات التي طالعها ولخصها في كنانيشه وجزازاته فتعد بالألوف، وقل أن يدانيه أحد في علم الكتب ووصفها ومؤلفيها وحوادثها وأماكن وجودها، ولطالما رحل من بلد إلى بلد بعيد ليطلع على مخطوط حفط في بعض الخزائن الخاصة، وبالنظر لإحاطته بالمظان وتدوينه في الحال كل ما يقع استحسانه عليه من الفوائد، كان يسهل عليه التأليف فيما ترتاح إليه نفسه من الموضوعات، وقد يؤلف الكتاب في بضعة أسابيع على شرط أن يوقن أنه سيطبع.
فهو واسع الرواية واسع الدراية، أو كما قال صديقه العلامة أحمد زكي باشا في برقية أبرقها إلى الشام بالتعزية به:"كنت أرى فيه الأثر الباقي والمثال الحي والصورة الناطقة لما كان عليه سلفنا الصالح من حيث الجمع بين الرواية والدراية في كل المعارف الإسلامية وبين الدأب على نشرها بعد التدقيق والتمحيص واستثارة خباياها وإبراز مفاخرها هذا إلى التفاني في توسيع نطاقها بقبول ما تجدد عند الأمم التي تلقت تراث العرب باليمين والدعوة إلى الإقبال عليه مضموماً إلى آثار الأبناء ومآثر الأجداد. وهكذا قضى الشيخ عمرا أولا وثانيا وثالثا في خدمة العلم والدعوة إليه بالقلم واللسان وبالقدوة الحسنة حتى تم له شيء كثير مما أراد بين الأنداد والتلاميذ والمحبين والمريدين فهم مناط الأمل وفيهم خير خلف لذلك يغتبط قاسيون بضم رفاته والحنو عليها (1) ".
(1) ش: ج 5، م 5، ص 27 - 33 غرة محرم 1348ه - ماي 1926م.