الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ملك العرب
((كان لقصة بناء الكعبة التي نشرناها بالجزء الماضي بمناسبة أشهر الحج أحسن موقع عند القراء، فرأينا أن نتبعها بقصة من نوعها لمثل مناسبتها، هي صفحة من تاريخ الملك العربي السلفي عبد العزيز آل سعود، الذي شرفه الله بخدمة ذلك البيت العظيم في هذا العهد، ومد تعالى بملكه رواق الأمن والعدل والتهذيب والدين الخالص عن ربوع الحجاز أرض الحرمين الشريفين. وأن في نهضة هذا الملك العظيم وفي حياته وصفاته لدرسا عميقا ومجالا واسعا للعبرة والتفكير.
كتب هذه المقالة التاريخية كاتب شهير في عالم الصحافة الألمانية، وهو الأستاذ ليوبولد وايس ألماني، أسلم منذ أعوام وتسمى باسم محمد أسد الله، وهو الآن يقيم بالحجاز، ونشرتها له جريدة ((الشورى)) الغراء فنقلناها عنها)).
ــ
أدعو ملك العرب صديقي، وإن كان ملكا وكنت مجرد صحافي، وليس سبب ذلك أنه مثلا أطلعني على مكنون فؤاده، فهذا ما لا يفعله قط، وليس سببه أيضا أنه أراني قلبا كريما وأبدى نحوي وداً صحيحا في مدى العامين الذين قضيتهما في بلاد العرب، واللذين لم يخلوا من ألم، فإنه يبدي العطف والود نحو الجميع، فليفهم القارىء ما أقوله تمام الفهم، فإني لا أزعم إن عبد العزيز بن السعود يدعوني صديقه، ولكني أعده صديقي، ويغريني بذلك أمر بسيط وهو طيبة الرجل، ولست أقصد أنه طيب القلب فهذا شيء رخيص، ولكنه يوصف بالطيبة
كما يوصف بها مثلا سلاح من صنع ولدف (1) بأنه طيب يعجب به، لأنه جمع كل الصفات التي تنشد في مثله. وعلى هذا المعنى أقول: إن ابن سعود رجل طيب. وهو عميق الغور يميل للوحدة ولا يتبع في أعماله سوى الدوافع المنبعثة من أعماق نفسه، وقد يخطيء فيما يفعله ولكنه لا يخطيء قط الرغبة في الشرف أمام ضميره، فهو ملك على نفسه قبل أن يكون ملكا على العرب.
ولد عبد العزيز بن سعود قبل خمسين سنة تقريبا في الرياض (وسط بلاد العرب) وهو وليد فرع من الأسرة المالكة التي أخضعت لحكمها جزءاً كبيراً من شبه جزيرة العرب، ثم أخذت في الاضمحلال حتى اضطرت في آخر الأمر إلى أن تنزل عن البقية الباقية من ملكها إلى أسرة ابن رشيد التي كانت قديما من اتباعها والتي نشأت في حايل (في شمال بلاد العرب). وكان ابن سعود إذ ذاك في باكورة طفولته ونشأ في كبريائه وتحفظه، وهو يرى أميرا أجنبيا يحكم الرياض مسقط رؤوس آبائه نائبا عن ابن رشيد، ومكث عبد العزيز بن سعود وذووه يعيشون من راتب تفضل به ابن رشيد عليهم، يحتملهم ولا يكاد يخشى من جانبهم ضرا. ولكن ذلك شق على عبد الرحمن والد عبد العزيز رغم ميله إلى السكون، فهاجر مع أولاده وما يملكه إلى الكويت ليقضي بقية حياته في بيت سلطانها. وكانت بينهما مودة ولكنه لم يكن يدري شيئا عن مستقبل ولده والميول التي تجيش في صدره.
ولعل أحداً من الناس لم يتبين قلب عبد العزيز في عاطفته وخفقه، ولم يدرك شيئا من طموح نفسه وعظمة مستقبله إلا عمته العجوز، والظاهر أنها كانت تحبه كثيرا وترعاه وهو صغير فإذا ألفت نفسها في
(1) بلدة بالأندلس مشهورة قديما بصنع أجود السلاح وذلك في أيام العرب.
خلوة معه أحتضنته، وأخذت تحدثه بعظائم الأمور التي يجدر به أن يقوم بها ذات يوم، وكانت لا تفتأ تقول له وهي تدلّله:"ينبغي لك أن تصير رجلا عظيما". وقد مكثت هذه الكلمة في نفس الطفل في حياة ونماء حتى أمست كالنار في رأس العلم.
ثم بدأت وحدته وهو في الكويت، فإنه وهو لا يزال ولداً، نما جسمه سريعا وسبق طوله سنه، وهو مع ذلك رفيع القامة، فجعل أولاد الناحية يسخرون منه ويهزأون منه ويهزأون به، وكان يستحي من طول قامته الذي جعله هدف الأنظار، وكان يخفض من رأسه حتى يبدو أقصر من حقيقته حين يمشي في شوارع الكويت، أو في غرف القصر المكتظة بالناس، وكان يؤلمه أن يكون شاذا في الوسط المحيط به، ولكن لم يجد سبيلا للتوفيق بينه وبين هذا الوسط، لأن اختلافه عنه لم يكن في مظهره وحده، ولقد غلبه القدر وخلق له قلقا واضطرابا.
ولكنه أدرك ذلك تدريجا بما لديه من شعور الشباب، وانبثت كبرياؤه في نفسه، وأخذ ينظر إلى ما فوق ذلك الوسط، وجاء إلى أبيه يقول له:"كيف تصبر على تحكم آل ابن رشيد في وطنك؟ أحمل عليهم وأجلهم عن ديارك فإنك أنت وحدك صاحب الحق في الرياض" ولنذكر هنا أنَّ ابن رشيد كان في ذلك الوقت أقوى عاهل في شبه جزيرة العرب، وكانت دولته تمتد من صحراء سوريا بادية الشام- حماه إلى الربع الخالي: وكانت جميع قبائل البدو ترتعش خوفا من قبضته الحديدية. فلا عجب بعد ذلك إذا رد عبد الرحمن وهو في سنه المتقدمة به، وفي منفاه وضعفه، مطلب ابنه على أنه خيال لا يمكن تحقيقه. وقد مضت أعوام على ذلك، وكانت عاطفة الإبن فيها أشد وأقوى من جمود الوالد. فرضخ عبد الرحمن في آخر الأمر واستعان بصديقه سلطان الكويت على جمع بعض قبائل بدوية باقية على الولاء له وخرج، كعادة العرب في الغزوة بالهجن والأعلام والبنادق، وهاجم
ابن رشيد. ولكنه لم يلبث حتى هزم وارتد إلى الكويت. ولعله كان مرتاحا في قرار نفسه إلى هذه النتيجة، وأنبأ ابنه أنه لا فائدة من أمثال تلك المحاولة، وأنه يريد أن يقضي بقية حياته في سكون ولا يطلب حقه في عرش نجد.
بيد أن ابنه عبد العزيز لم ينزل عن حقه فدعا أصدقاءه إليه، وجمع بعض البدو والذين يعول عليهم. ولما صارت جماعته أربعين رجلا خرجوا من الكويت خفية، كإحدى عصابات اللصوص، ودون اعلام أو أناشيد، وجعلوا يسيرون ليلا مسرعين متجنبين سبل القوافل المطروقة، حتى بلغوا مقربة من الرياض فعسكروا في واد منعزل. وفي ذلك اليوم نفسه اختار ابن سعود خمسة من الأربعين وخطب الباقين قائلا:"لقد وضعنا مصيرنا بين يدي الله، وسنذهب نحن الستة إلى الرياض، فإما استحوذنا عليها وإما فقدناها إلى الأبد، فإذا سمعتم صوب الحرب في المدينة فلتبادروا إلى عوننا. أما إذا لم تسمعوا شيئا منا حتى مغرب الغد فاعلموا أننا متنا إلى رحمة الله، وعودوا إلى الكويت سرا بالطريق الذي أتينا به".
وكذلك سار الستة على أقدامهم حتى بلغوا الرياض عند ابتداء الليل، ودخلوها من منفذ أسوارها كان ابن رشيد قد أمر بثقبه في نشوة انتصاره على المدينة، ومشوا قدما وأسلحتهم مخبأة تحت أرديتهم إلى أن وصلوا لبيت الأمير من قبل آل الرشيد (1)، وكان مغلقاً لأن الأمير اعتاد على قضاء الليل في الحصن المقابل للبيت خوفا من أهالي المدينة التي دانت له، فقرعوا الباب وفتحه أحد العبيد، فتغلبوا عليه دون جلبة وشدوا وثاقه، وكذلك فعلوا بغيره ممن كانوا في البيت إذ ذاك، ولم يكونوا إلا بعض الرقيق والنساء. ثم جعل الستة
(1) اسمه عجلان.
يترقبون انبثاق الفجر وقضوا بقية الليل في قراءة القرآن لكي يبعث في قلوبهم قوة على أداء عملهم.
وفي الصباح فتحت أبواب الحصن وخرج الأمير يحيط به عدد من الخدم والأرقاء مسلحين، فاندفع ابن سعود ورفاقه الخمسة شاهرين سيوفهم هاتفين باسم ابن سعود وباغتوا الأمير وحراسه، ورمى عبد الله بن جلوى ابن عم عبد العزيز (وهو الآن أمير الحسا) بحربته (شلفته) نحو الأمير، ولكن هذا انحنى في اللحظة المناسبة وثقبت حائط الحصن في قوة هائلة ولا تزال عالقة به حتى اليوم. وقد فر الأمير إلى باب الحصن، وبينما يتبعه عبد الله إلى داخله هجم ابن سعود ورفاقه بسيوفهم المشهورة على حاشية الأمير، فلم تكد تدافع عن نفسها رغم تفوقها في العدد، لفرط الذعر الذي استولى عليها من هذه المباغتة.
وهنا بدأ الأمير فوق سطح الحصن صارخا، وقد سد عليه عبد الله بن جلوى المسالك، وكان يطلب منه الرحمة حتى سقط أخيراً عند حافة السقف منهوك القوى، وتلقى طعنة مميتة في عنقه. وكان ابن سعود يصيح في اللحظة نفسها:"إليَّ يا رجال الرياض. ها أنا ذا عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعود أميركم صاحب الحق عليكم".
وكان رجال الرياض يمقتون مرهقيهم من أهل الشمال من أعماق قلوبهم، فلبوا النداء وجاءوا بأسلحتهم وركب رفاق ابن سعود الخمسة والثلاثون فاقتحموا أبواب المدينة يزيحون كل شيء أمامهم كالريح العاتية، وبعد ساعة واحدة صار ابن سعود سيد المدينة دون منازع.
وكان ذلك في سنة 1901م وبه ينتهي دور الشباب من حياة ابن سعود وبدأ الدور الثاني الخاص برجولته وإمارته.
وبعد ذلك شرع ابن سعود في فتوحاته وفق خطة منظمة وقد برهن على أنه لا يشبه غزاة العرب في شيء، فإن اتساع ملكه كان يجري
تبعا لنظام محدود، وكان ثمة أركان حرب وخريطة حربية كما في الغرب. ولكنه شخص ابن سعود كان وحده أركان الحرب، ثم إنه لم يكن قد رأى خريطة حربية من قبل له، وقد اتخذت فتوحاته شكل حركة حلزونية تبدأ من مركز لا يتبدل وهو الرياض. وكان لا يخطو خطوة إلى الأمام إلا بعد أن يؤمن ما سبق فتحه ويوطد فيه موقفه من الوجهة الحربية. وعلى ذلك احتل بالتدريج كل الأقاليم التي في شرق الرياض وشمالها. ثم استولى في سنة 1904 على إقليم القصيم، وبه عنيزة وبريدة، وهو إقليم ذو ثروة وتجارة هامة.
ثم أخضع منطقة الأحراش التي في الغرب، والتي يسكن الجزء الأكبر منها قبائل عتيبة الكثيرة العدد. وفي سنة 1914 أقدم على مهاجمة إقليم الحسا على خليج العجم، وكان في الأيام الماضية تابعا لنجد، ولكنه وقع في أيدي الأتراك منذ خمسين عاما حين اضمحلت أسرة ابن سعود، وقد استحوذ على قاعدته الهفوف بعد قتال قصير، ووطد سلطته فيه. وأرادت الحكومة العثمانية أن تبعث إليه خطبة أدبية ولكن نشوب الحرب العالمية حال دون ذلك. وفي سنة 1921م سقط في يده جبل شمر ومدينة حايل، مهبط أسرة ابن رشيد. وبهذا فقدوا آخر عماد لملكهم ويئسوا من حكم بلاد العرب يأسا قد يكون إلى الأبد. وبين سنتي 1924 و1925م توج فتوحاته بالاستيلاء على الحجاز بما فيه مكة والمدينة وجدة وضمه إلى مملكته الواسعة.
إن ابن سعود ما كان يكتفي بإخضاع الشعوب مثل غزاة الشرق القدماء، ولكنه في فتوحاته يكوِّن (دولة) وينظر إلى جميع أجزائها كأنها أخوة متساوية الحقوق ما دامت تخلص الرغبة في التعاون، وهو يسعى دائما لأن يكسب الود الخالص ممن يقهرهم وأن يرغمهم على محبته، إذ يريهم أنه لا يهتم بمصالحهم أقل من اهتمامه بأهل موطنه. ولم يفعل ذلك حاكم عربي غيره منذ عهد الخليفة العظيم
عمر بن الخطاب. وهو منذ زمن بعيد لا يعد رجلا من الرياض بل تخطى روابط القبائل الضيقة المدى وصار رجل الجميع.
وقد عرف كيف ينمو في داخل نفسه مع نمو سلطانه. وهو لم يخرج قط من بلاد العرب ولا يعرف فوق وطنه غير البحرين والكويت والبصرة، ولا يدري من اللغات غير اللغة العربية، ولم يقرأ من الكتاب إلا الدينية منها وبعض كتب التاريخ العربية. ولكنه رغم كل ذلك يمتد بصره إلى مدى لم يماثله فيه ملك عربي من قبل فهو يعرف أحوال البلاد الإسلامية في العصر الحاضر خير معرفة، يعرف مثلا الأحزاب السياسية في مصر أو جاوه أو الهند، كما يقف على شؤونها والرجال المشتغلين بالسياسة في هذه البلاد. وهو يفهم المستحدثات الهندسية في الغرب كالطيران أو التلغراف اللاسلكي كما يفهمها الغربيون ويستحسنها كذلك وإن كان كثير من العرب ومن المتعلمين فيهم يعدونها من السِّحْر.
ولا يزال ابن سعود مع ذلك مسلما قوي الإيمان، وأساس اعتقاده أن كل ما يحدث من الله، ولذلك يمثل الرأي القائل بأن كل تقدم في الأمور المادية لا فائدة منه إذا لم يصحبه التعمق في العقيدة. فمن الطبيعي أن يبني حكمه على القواعد الدينية. وابن سعود يعتنق معتقدات (الوهابية) وهي حركة إصلاح في الإسلام ترجع إلى العلامة النجدي العظيم (محمد بن عبد الوهاب) الذي عاش في بداءة القرن الثامن عشر.
وترمي إلى تطهير الإسلام من جميع البدع والخرافات التي لصقت به مع مر الزمن والسمو به عن عبادة الأولياء. والوهابية أشد طوائف الإسلام ومبدؤها الأعلى أن على المؤمنين أن يتمثلوا في البساطة والنظام.
والواقع أن الغربيين يجهلون الإسلام لأنهم يحكمون عليه تبعا
لأحوال أكثر البلاد الإسلامية في العصر الحاضر كما تبدو لهم، ولكن الإسلام في تلك البلاد تغير عن أصله، منذ وقت طويل إذ غطته طبقة من الخرافات غير المعقولة، ودخل فيه تقديس الأولياء والقبور الذي يناقض أصل الدين، واعتوره الجمود وعدم الاكتراث اللذان لا تقرهما تعاليم محمد- صلى الله عليه وآله وسلم الأصلية الخالصة كما لا يعرفهما الغربيون الآن. وليس الإسلام هو السبب في انحطاط البلاد الإسلامية بل الحقيقة عكس ذلك تماما، فقد أفسد أهلها أصل الإسلام وهجروه دون أن يستطيعوا الإتيان بخير منه، وهكذا لبسهم الروح الشرقي العتيق. فهو المسؤول عن تدهور الشرق ولا يسأل الإسلام عن ذلك. ولو نفذ الإسلام بتمامه في نظام عملي متبع لأتى بمجتمع إنساني كامل لا احتكاك فيه ولا نقص مما لم يأت به أي نظام اجتماعي آخر. وفي الإمكان تحقيق ذلك من الوجهة العلمية لأن الإسلام يوافق على كل تقدم في المدنية والحضارة، ولأن تعاليمه لا تناقض الحقائق التي دلت عليها العلوم الحديثة.
وهذه الفكرة التي ترمي إلى تكوين دولة إسلامية صحيحة تكون الأولى في نوعها منذ عهد الصحابة، هي الدافع لابن السعود في جميع أعماله، وهو لا يخدم نفسه ولكن يخدم فكرته ولذلك لا ينظر إلى نفسه إلا خلف عمله وهو من هذه الوجهة حاكم عصري يختلف جد الاختلاف عن سلاطين الشرق الذين يعتبرون شعوبهم كلها مجرد خدم لأشخاصهم، ولا شك أن الأجنبي الذي يرى ابن سعود لأول مرة يبتسم لبساطة هذا الملك وعدم تمدنه، إذ يبصره في ثوب عادي في غرفة ذات أثاث غير أنيق، وإذ يشهده يقوم لكل قادم ويمد يده لتحيته، وإن كان بدويا من أفقر البدو، ويأكل طعامه في حضرة وزرائه وكتابه وسائق سياراته ولكن الابتسامة لا تلبث حتى تفارق ثغر الأجنبي حين يدرس رأس هذا الرجل ويدرك العظمة الحقة الماثلة في تلك البساطة.
بدأ ابن سعود عمله في تشديد الأمن العام في بلاده، بواسطة القوانين الصارمة وحملات التأديب القاسية. ومن قبله كانت شبه جزيرة العرب كلها شبكة من اللصوص وكانت قبائل البدو يشن بعضها الغارة على بعض وتنهب القوافل وكانت الطرق غير آمنة، فلما جاء ابن سعود حرم على البدو أن يتقاتلوا وأمر بأن تحل الخلافات بين القبائل بقضائه أو قضاء أمرائه فيها وجعل المجرمين يشعرون بكل ما في الشريعة من شدة، فالقاتل يضرب عنقه والسارق تقطع يده اليمنى، والسارق الذي يستعين بسلاح تقطع يده اليمنى وقدمه اليسرى، وقد أجدى ذلك بعض النفع، غير أن ابن سعود لم يلبث حتى أيقن أن الإكراه وحده لا يكفي ليجعل من الوحوش بشرا، فشرع يبث في نفوس شعبه أخلاق الإسلام وفضائله، وبعث بالمعلمين والوعاظ إلى مختلف القبائل ليعلموا البدو القراءة والكتابة ويحثوهم على التمسك بالدين وآدابه في عزم وإخلاص وكانت ثمرة ذلك صغيرة في السنوات الأولى، ولكنها نمت تدريجا وأينعت وأتت أكلها. وهكذا تمت في بلاد العرب إحدى الغرائب وأصبحت مملكة ابن سعود ومساحتها مثل مساحة ألمانيا وفرانسا وإيطاليا معا، وفيها الأمن العام مستتب بشكل لا يوجد في أية دولة متمدنة من الدول الغربية، والآن يستطيع كل شخص أن يسافر بمفرده في الصحراوات الواسعة وسط بلاد العرب دون أن يحمل سلاحا أصلا وإن كان يحمل الأثقال من الذهب فلا يصيبه ضر أو أذى. وقد كان الناس قبلا لا يقطعون تلك الجهات إلا جماعات مسلحين. وقد هدأت الحروب وامتنعت المعارك بين القبائل التي في مملكة ابن سعود مع أنها كانت من قبل من الحوادث التي تحدث كل يوم ولكنها لم تنقطع في سوريا أو العراق اللذين تحكمهما دول غربية متمدنة.
بيد أن ابن سعود لم يقنع بكل ذلك بل وضع عمله لتحضير البلاد على أساس أكبر، وكان منذ خمس عشرة سنة قد شرع يفكر في
إستيطان البدو إذ اتضح له أن تنقل القبائل من جهة إلى أخرى كل حين يمنع تقدم المدنية بينها ويحول دون ما هو أهم من ذلك عنده وهو تمكين الدين من نفوسها. وعلى ذلك أخذ يبث هذه الفكرة في البدو ولم تكن بلاد العرب تعرفها من قبل. وقد نجح في هذا نجاحا أكبر مما ارتقبه، بدأت القبائل واحدة إثر أخرى تدرك فائدة المعيشة المستقرة في ناحية معلومة، ومنحت أراضي ثابتة الحدود لتسكنها وبنت فيها البيوت وخططت القرى وزرعت النخل، وقد أعانها الملك بكل أنواع العون في دور انتقالها من حياة القرى والرعاة الرحالة إلى حياة الزراع، إذ أعطاها الأموال والغذاء والبذور، ولا يزال يبذل هذا العون للقبائل الأخرى التي تختار الاستقرار. والآن وقد مضت خمس عشرة سنة على هذه الحركة تستطيع أن تقدر على وجه التقريب عدد البدو من أهل نجد الذين استوطنوا الأراضي وتركوا حياة الرحالة بثلث مجموعهم. ولا تزال هذه الحركة سائرة في طريقها في جد وحزم.
ولا شك أن هذا العمل الذي يقوم به ابن سعود سوف تقدر أهميته من وجهة الحضارة وأن التاريخ سوف يفرد لهذا الملك صفحة بين صفحات العظماء الذين خطوا بالإنسانية خطوات إلى الأمام.
وهؤلاء المستقرون الذين كانوا منذ جيل واحد لصوصا لا ضمائر لهم قد شعروا يحسون تدريجا أنهم حاملو علم تقدم عظيم، وقد أثار التعليم الديني الذي أتاهم ابن سعود به عاطفة إطلاق الدين المتغلغلة في نفوس العرب، وأدركوا أن دولة إسلامية في دور النشوء في بلادهم وأن عليهم أن يضعوا لها الأعمدة والأسس، وكذلك أصبحوا أصدق النصراء للإسلام بعد أن كانوا لا يعلمون إلا قشورا منه، وصاروا ينظرون إلى نجد نظرتهم إلى معقل الإسلام، وأنهم لمحقون في ذلك. وقد تركوا اعتبارات العصبية المحدودة وسموا أنفسهم (إخوانا) أي إخوان كل من يسلم قلبه لله دون قيد وشرط، واتخذوا شارتهم العمامة
البيضاء متمثلين بالنبي بعد أن تركوا العقال العربي المتورث من قديم الأزمان.
وللإخوان أهمية عظيمة بالنسبة لدولة ابن سعود لأنهم في حالة الحرب يتطوع منهم كل رجل قادر على القتال ويدخل في جيش ملكهم وملء قلبه النخوة والحماسة. وإذ أنهم يعتبرون أنفسهم الممثلين الصادقين للدين الحق ولا يقاتلون إلا في سبيله. فحربهم إذن هي حرب دينية، ومن تعاليم الإسلام أن خير ميتة يموتها المسلم وسط الجهاد في سبيله، ولذلك لا يرهب الإخوان الموت بل يرحبون به، ولكن دون أن يزدروا الحياة. وهم أكثر جيوش العالم شجاعة وصبرا وسرعة في الحركة. ولو مدوا بالأسلحة الهندسية الحديثة لاستطاعوا أن يفتتحوا دولا عظيمة. وهم في وقت السلم مشتتون في أنحاء البلاد ولكن إذا دعاهم الملك لم ينقض شهر واحد حتى يجتمعوا كلهم في المكان المعين لهم، وكل منهم آت على هجينه مسلحا بالأسلحة الحديثة التي غنمها ابن سعود في حروبه المختلفة وبالخناجر والسيوف. وكل مجاهد يحمل زاده معه وهو عبارة عن قليل من الأرز وحقيبة من البلح، ولا يعطيهم الملك أجرا ولكن يمنحهم الهدايا بين وقت وآخر، وإنما يعتمدون على الغنائم التي يغنمونها من الأعداء، وهذا الجيش المتطوع المتحمس القليل الكلفة يجعل ابن سعود أقوى من أي حاكم عربي قبله.
وهذا كله عمل رجل واحد هو عبد العزيز بن سعود ففي رأسه تنمو جميع الخطط وعلى كتفيه مهمة تنظيم مملكته الكبيرة وتنحصر مساعدة أمرائه- ومنهم رجال ذوو شخصيات كبيرة- في حسن تنفيذهم للخطط التي يضعها فهو وحده الذي يفكر ويعمل وكلهم أيد له وإنه ليحمل عبئا عظيما من العمل.
وهو يشتغل طوال اليوم من باكورة الصباح إلى قسط من الليل،
ما عدا فترات يقضيها في الصلاة وبرهات قصيرة يرتاح فيها بين أهله. وهو يتلقى كل يوم مئات الخطابات والتقارير ويقرأها بنفسه ويملي مئات من أمثالها على كتابه. ويفد عليه كل يوم كثير من البدو والوفود من أنحاء الدولة يعرضون عليه شكاواهم ورغباتهم ويتلقون منه أوامره وجميعهم ينزلون ضيوفا عليه طول مكثهم بالرياض، وهو يولم الولائم لنحو ألف نفس كل يوم، ويعطي كلا منهم عند رحيله ثوبا تبعا لعادة العرب وكذلك قطعة من النقود حسب مكانته. ونفقات الملك الشخصية جد قليلة لأنه لا يعرف الترف في حياته الخاصة وإنما له عدد من السيارات لا بد منها لحسن القيام بشؤون الحكم في هذه المملكة المترامية الأطراف. وابن سعود طويل القامة جدا ذو جمال رجولي وله جبهة عالية وأنف قليل الإنحناء وثغر صغير عليه شفتان ممتلئتان تدلان على الحماسة والذكاء في آن واحد. وكل من يراه دون فكرة سابقة عنه ويشهد ابتسامته العذبة لا بد أن يحبه. وقليل جدا من الناس في مملكته الكبيرة لا يحبونه.
لقد قارن البعض هذا الملك بنابليون ذات مرة. أما أنا فأفضل أن أقارنه بكيروس (1) كما وصفه لنا (كسينوفون)(2) في روايته "كيروبايديا" فإنه مثله حاكما متبصراً حكيماً يعمل لمصلحة شعبه لا لنفسه ويقدر الرجال حق قدرهم ويقرأ ما بقرار نفوسهم قبل أن ينطقوا ببنت شفة ويسعى دائما لإرضاء من يعملون معه فيعطيهم أكثر مما يرتقبونه، إذ يمنحهم الأمن على حياتهم، والهدايا الخالصة من القلب والحب لمن يستحقه. ولكن رغم كل ذلك يبقى ابن سعود وحيداً بينهم لأن له نفسية عالية.
(1) هو كيروس الأكبر ملك العجم ومؤسسها.
(2)
مؤرخ يوناني قديم مشهور من تلاميذ سقراط.
ان ابن سعود في وحدة عميقة وإن كان حوله أناس كثيرون لأنه ليس منهم أحد يستطيع أن يستشف ما وراء ابتساماته الساحرة أو ما وراء حركات يديه حين يتحدث في شؤون الدولة أو في مسائل الدين. ولا يدري أحد ماذا سيفعل غدا بل يحيط الظلام والإبهام بنواياه في المستقبل وإن كان يومه وأمسه شفافين لا سر فيهما.
وتلك وحدة العظماء الذين لا يقودهم في سبيلهم غير أذهانهم المتوقدة (1).
(1) ش: ج 4 م ه، ص 25 - 36 غرة ذي الحجة 7431ه - ماي 1929م.
نقلنا هذا المقال نظرا لتعليق الأستاذ الإمام عليه واهتمامه بالحركة الوهابية.