الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعريف بكتاب العواصم من القواصم
للإمام ابن العربي
ــ
إن العالم لا يكون إماماً في الإسلام حتى يكون إماماً في فقه العربية، إماماً في فقه القرآن، إماماً في فقه السنة، إذ بدون هذه لا يفقه الإسلام، فتلك لغته التي بها أنزل، وذلك كتابه الذي عليه يعول، وتلك (1) بيانه ممن به أرسل. وأن العلماء الذين بلغوا هذه الذروة في الثلاثة في كل عصر ومصر قليلون وفي درجات هاته المنزلة متفاوتون.
إذا نظرنا في آثار ابن العربي التي تركها لنا في كتاب أحكام القرآن وقد نشر. وكتاب المسالك على موطأ مالك ومنه نسخة خطية في المكتبة العمومية بالعاصمة، وكتاب القبس على موطأ مالك بن أنس ومنه نسخة عتيقة أندلسية في خزانتنا- وسننشرها إن شاء الله، وعارضة الأحوذي على جامع الترمذي (2) وكتاب العواصم من القواصم الذي بين أيدينا- إذا نظرنا في هذه الآثار علمنا أن هذا الإمام ممن بلغوا تلك الذروة وأنه جمع إلى الإمامة في تلك الأصول الإمامة في الأصلين، وفي الفقه، وفي علوم الحديث، والتبحر في سائر العلوم الإسلامية المعروفة في عصره ومصره الراقيين المزدهرين والبصر بأقوال الفرق الإسلامية بذلك العهد، والخبرة بأحوال الناس والزمان. وأنه كان في استقلاله العلمي كما قال عن نفسه في هذا الكتاب: "هل
(1) يقصد بذلك السنة.
(2)
طبع بمصر سنة 1350ه.
أنا إلا ناظر من النظار أدين بالاختيار وأتصرف في الأصول بمقتضى الدليل".
قد كتب هذا الإمام في علوم الإسلام الكتب الممتعة الواسعة وسار فيها كلها على خطة البحث والتحقيق والنظر والاستدلال بعلم صحيح وفكر ثاقب وعارضة واسعة وعبارة راقية في البلاغة وأسلوب حلو جذاب في التعبير.
وهذا كتاب (العواصم من القواصم) من آخر ما ألف قد سار فيه على تلك الخطة، وجمع فيه على صغر حجمه بين سائر كتبه العلمية فوائد جمة وعلوماً كثيرة، فتعرض فيه لآراء في العلم باطلة، وعقائد في الدين ضالة، وسماها قواصم، وأعقبها بالآراء الصحيحة والعقائد الحقة مؤيدة بأدلتها النقلية، وبراهينها العقلية المزيفة لتلك الآراء والمبطلة لتلك العقائد وسماها عواصم، فانتظم ذلك مناظرة الفلاسفة السفسطائيين والطبائعيين والإلاهيين، ومناظرة الباطنية والحلولية، وأرباب الإشارات من غلاة الصوفية وظاهرية العقائد، وظاهرية الأحكام، وغلاة الشيعة والفرقة المتعصبة للأشخاص باسم الإسلام واستتبع ذلك ذكر ما وقع في الصدر الأول من الفتن، والكلام على الخلافة والإمامة وبيان فضل ألصحابة واندرج في أثناء ذلك كله تحقيقات تاريخية ومباحث حديثية وتفسيرية ولغوية ونصائح علمية وإرشادات تذكيرية كلها في إفادة وإيجاز حتى لا تخلو صفحة من صفحات الكتاب مما تشد عليه يد الضنين.
سالكاً في سبيل الاحتجاج لعقائد الإسلام، وإبطال العقائد المحدثة عليه من المنتمين إليه السبيل الأقوم الأرشد، سبيل الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي أدلة نقلية في نصوصها عقلية برهانية في مدلولها، وهذه الطريقة التي أرادها بقوله في هذا
الكتاب (وهكذا هي حقيقة الملة من أراد أن يدخل فيها داخلة رد عنها إليها بأدلتها) وهي طريقة القرآن الذي اتضح به كمال الشريعة في عقائدها وأدلتها.
وإذ لم يكن بد من الخطأ لغير المعصوم فليس تفاضل الناس في السلامة منه، وإنما تفاضلهم في قلته وكثرة الصواب التي تغمره. وللإمام ابن العربي في كتابه هذا مما ذكرناه في وصفه من كمال ما يذهب بما قد يكون فيه من بعض خطأ يسير لا يسلم منه بشر، وحسب كتابه هذا أن يكون مورداً معيناً لطلاب العقائد الإسلامية الحقة بأدلتها القاطعة، وأصول الإسلام الخالية مما أحدثه المحدثون من خراب وتدجيل، وأن يكون أنموذجاً راقياً في التحقيق في البحث والتعمق في النظر والاستقلال في الفكر والرجوع إلى الدليل والاعتضاد بانظار الأئمة الكبار. وأن يكون صفحة تاريخ صادق لما كانت عليه الحالة الفكرية للمسلمين بالشرق والغرب في عصر المؤلف وهو القرن الخامس الهجري، وكفى بهذا كله باعثاً لنا على طبعه ونشره وتعميم فائدته.
أول سماعي بهذا الكتاب وفضله كان من العلامة الكبير أستاذنا الشيخ محمد النخلي أحد أساطين جامع الزيتونة المعمور، والنهضة الفكرية بتونس، فاستعرت نسخة من خزانة الجامع وكانت هي النسخة الوحيدة للكتاب بها.
كتبت هذه النسخة بخط أندلسي قديم في القالب الربعي وكتب في آخرها: (تمت العواصم من القواصم بحمد الله وعونه يوم الأربعاء في العشر الأوسط من شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وستمائة).
كانت هذه النسخة في خزانة الجامع كالكنز الدفين، يمنع من الاستفادة التامة منها صعوبة خطها وتخليط أوراقها وأظن أن المسفر لما جمع أوراقها عند التفسير جمع كما اتفق ففككت سفرها وبذلت
الجهد في ترتيبها حتى كملت كما هي بدون أن تنقص منها ورقة ثم بعد سنوات عزمت على نشرها فاستعرت النسخة من خزانة الجامع المذكور واستنسخت منها بنفسي نسخة قدمتها للطبع بالمطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة وأبقيت النسخة الأصلية لأراجعها عند التصحيح وقد بذلت الجهد في النقل والتصحيح رغم صعوبة الخط ومواضع المحو والتخريج ثم راجعت الجزأين بعد تمام طبعهما فألحقت بكل واحد منهما (1) جدول الخطأ والصواب وإذا بقيت بقايا قليلة فإنها لا تخفى على اللبيب.
والله أسأل قبول العمل وغفران الزلل ونفع المستفيدين إنه جواد كريم رؤوف رحيم.
(1) في الأصل منها.