الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النجاة من العطب بقليل من الأدب
خرج الإمام ابن العربي في صغره إلى المشرق مع أبيه وكاد البحر يوما يغرقهم وكاد الجوع والبرد بعد خروجهم من البحر أن يهلكهم لولا أن الله تعالى بسبب طريف أنقذهم. وقد قص الإمام ذلك في كتابه: ((ترتيب الرحلة)) ونقله عنه المقري في ((نفح الطيب)) ونقلناه عنه فيما يلي لما فيه من عجيب لطف الله ونفع المعرفة على كل حال في جميع المواطن قال الإمام:
ــ
"وقد سبق في علم الله أن يعظم علينا البحر بزوله (1)، ويغرقنا في هوله، فخرجنا خروج الميت من القبور، وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب بن سليم. ونحن من السغب، على عطب، ومن العري، في أقبح زي، قد قذف زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها (2)، ودسمت الأدهان وبرها وجلدتها. فاحتزمناها أزرا، واشتملناها ألفافا (3) تمجنا الأنظار، وتخذلنا الأنصار. فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله على يديه وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا - بأمر حقير ضعيفه، وفن من العلم ظريف. وشرحه: أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه (4) فعل السامد (5) اللاه، فدنوت منه
(1) الزول: العجب.
(2)
المنيئة: الجلد أول ما يدبغ.
(3)
الفاف: ج لف بمعنى الحزب والطائفة.
(4)
الشطرنج.
(5)
الغافل الساهي.
في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته (1) إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار (2)، ووقفت بإزائهم، أنظر إلى تصرفهم من ورائهم-. إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة- في خلس البطالة مع غلبة الصبوة والجهالة فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صاحبه. فلمحوني شزرا وعظمت في أعينهم بعد أن كانت نزرا. وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام فاستدناني فدنوت منه وسألني هل لي بما هم فيه خبر، فقلت لي فيه بعض نظر، سيبدو لك ويظهر، حرك تلك القطعة ففعل كما أشرت وعارضه صاحبه كذلك فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى، حتى هزمهم الأمير فقالوا ما أنت بصغير.
وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشداً:
وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه
…
وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي
فقال لعن الله أبا الطيب أويشك الرب، فقلت له في الحال: ليس كما ظن صاحبك أيها الأمير إنما أراد بالرب ههنا الصاحب. يقول: ألذُّ الهوى ما كان المحب فيه من الوصال، وبلوغ الغرض من الآمال، على ريب، فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله، وتقاة لما يقطع به .. كما قال:
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا
…
فأين حلاوات الرسائل والكتب
وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي إبرام وانتقاض، ما حرك منهم إلى جهتي دواعي الانتهاض وأقبلوا يتعجبون مني،
(1) البياذقة الرجالة والمراد خدمه وأتباعه.
(2)
ج غمر غير المجرب.
ويسألونني كم سني، ويستكشفونني عني، فبقرت (1) لهم حديثي، وذكرت لهم نجيتي (2)، وأعلت الأمير أن أبي معي فاستدعاه وأقمنا الثلاثة (3) إلى مثواه فخلع علينا خلعه وأسبل علينا أدمعه (4)، وجاء كل خوان، بأفنان وألوان (5)، فانظر إلى هذا العلم (6) الذي هو إلى الجهل أقرب، مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذا من العطب، وهذا الذكر يرشدكم- إن عقلتم- إلى المطلب (7) اهـ.
(1) فتحته ووسعته.
(2)
ما بطن من أمري.
(3)
هو وأبوه والأمير.
(4)
أسال علينا خراته.
(5)
ذكر هنا صاحب النفح أن الإمام وصف ما نالهم من كرم الأمير ولم يذكره هو.
(6)
علم الشطرنج.
(7)
هو الرغبة في العلم والحرص على تحصيله.
ش ج 2، م 7، ص 112 - 114 غرة شوال 1349ه، مارس 1931م.