الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَاب مِنْ فَضَائِلِ الْخَضِرِ عليه السلام
[2380]
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ- وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ- حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى عليه السلام صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ عليه السلام، فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، سَمِعْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((قَامَ مُوسَى عليه السلام خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ، أي: النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ، قَالَ: فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ مُوسَى، أي: رَبِّ، كَيْفَ لِي بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ، فَانْطَلَقَ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ، وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَحَمَلَ مُوسَى عليه السلام حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ يَمْشِيَانِ، حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَرَقَدَ مُوسَى عليه السلام، وَفَتَاهُ، فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمِكْتَلِ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، قَالَ: وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْمَاءِ، حَتَّى كَانَ مِثْلَ الطَّاقِ، فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا، وَلَيْلَتِهِمَا، وَنَسِيَ صَاحِبُ مُوسَى أَنْ
يُخْبِرَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ مُوسَى عليه السلام قَالَ لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ: وَلَمْ يَنْصَبْ، حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، قَالَ مُوسَى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، قَالَ: يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا، حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَرَأَى رَجُلًا مُسَجًّى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ
عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: أَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ! قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، عَلَّمَكَهُ اللَّهُ، لَا أَعْلَمُهُ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، عَلَّمَنِيهِ، لَا تَعْلَمُهُ، قَالَ لَهُ مُوسَى عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا؟ ! قَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي، فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، قَالَ: نَعَمْ، فَانْطَلَقَ الْخَضِرُ، وَمُوسَى يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمَاهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ، فَنَزَعَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ
إِلَى سَفِينَتِهِمْ، فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا! قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ ! قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ، وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، إِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا! قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ ! قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى، قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، فَأَقَامَهُ- يَقُولُ: مَائِلٌ- قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ هَكَذَا فَأَقَامَهُ، قَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُضَيِّفُونَا، وَلَمْ يُطْعِمُونَا، لَوْ شِئْتَ لَتَخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا! قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا))، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:((يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا)) قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ حَتَّى وَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، ثُمَّ
نَقَرَ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ،
إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ! )).
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَكَانَ يَقْرَأُ: (وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا)، وَكَانَ يَقْرَأُ:(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا).
[خ: 122]
قوله: ((الْبِكَالِيَّ)): بكسر الموحدة وتخفيف الكاف على الراجح، وهو قول المحققين، وهو منسوب إلى بني بكال بطن من حمير، وقيل: من همدان
(1)
.
وقوله: ((بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ)): هي المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية الآن.
وقوله: ((فَهُوَ ثَمَّ)) - بفتح المثلثة-: ظرف مكان بمعنى هناك.
وقوله: ((الْمِكْتَلِ)): ما يكال به.
وقوله: ((نَوْلٍ))، أي: أجرة.
وهذه القصة- قصة موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام- قصها الله علينا في القرآن الكريم في سورة الكهف.
وهذا الحديث فيه من الفوائد:
1 -
بيان وتوضيح لهذه القصة التي قصها الله في القرآن الكريم، والسنة تفسر القرآن وتوضحه، وتبين المشكل، وتوضح المجمل وتفصل، وتخصص العام، وتقيد المطلق، وأحيانًا تأتي بأحكام جديدة مستقلة، إذن فللسنة مع القرآن ثلاث أحوال:
الحال الأولى: أن تأتي بأحكام مثل أحكام القرآن، كأحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج، فقد جاءت في القرآن، وجاءت في السنة.
(1)
إكمال المعلم، للقاضي عياض (7/ 364)، شرح مسلم، للنووي (15/ 136) ، فتح الباري، لابن حجر (8/ 413).
الحال الثانية: أن تأتي بأحكام فتفصل ما في القرآن من الإجمال، وتقيد ما فيه من المطلق، وتوضح المجمل، وتخصص العام.
الحال الثالثة: أن تأتي بأحكام جديدة مستقلة، كتحريم كل ذي ناب من السباع، وتحريم كل ذي مخلب من الطير، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، فإن هذه الأحكام جاءت في السنة ولم تأتِ في القرآن، والسنة هي الوحي الثاني، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ))
(1)
.
ومن أنكر السنة فقد كفر؛ لأنه مكذب لله، قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
لكن جماعة يزعمون أنهم لا يعملون إلا بالقرآن ويسمون أنفسهم: (القرآنيين) يقولون: نحن نعمل بالقرآن لا غير، وهؤلاء كذبة؛ لأنهم لو كانوا يعملون بالقرآن لعملوا بالسنة- أيضًا-؛ لأن الله تعالى يقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقال سبحانه:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} .
ومما جاء في السنة مفصِّلًا وموضِّحًا ما في القرآن: قصة موسى مع الخضر، فقد قصها الله تعالى في القرآن الكريم.
2 -
أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس، وقال: إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى الذي حصلت له القصة مع الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، وإنما هو موسى آخر، فقال ابن عباس: كذب عدو الله، وهذا من باب المبالغة في الزجر، ولا يراد به حقيقته، وليس مقصوده أنه عدو الله حقيقة، بل نوف البكالي تابعي جليل
(2)
لكنه غلط هنا، فظن أن موسى الذي
(1)
أخرجه أحمد (17174)، وأبو داود (4604).
(2)
نَوْف- بفتح النون وسكون الواو بعدها فاء- البِكالي وهو- بكسر الموحدة مخففًا وبعد الألف لام- ويقال: إنه ابن امرأة كعب الأحبار، وقيل: ابن أخيه، وهو تابعي صدوق. فتح الباري، لابن حجر (8/ 412).
جرى له مع الخضر ما قصه القرآن ليس هو موسى بني إسرائيل، ومعنى: كذب، يعني: أخطأ، ويقال لمن أخطأ: كذب، سواء كان عمدًا، أو سهوًا، وهو أخطأ سهوًا؛ لأنه لم يتعمد هذا، والحديث صريح في أن موسى الذي حصلت له القصة مع الخضر هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل، وهو أحد أولي العزم.
وملخص القصة: أن موسى ذهب يتعلم من الخضر واختلف في سبب تسميته بالخضر، والصواب ما جاء في الحديث النبوي:((إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ أنه جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَإذا هى تهْتَزُّ من خلفه خَضْرَاءَ))
(1)
، فسمي من أجل ذلك بالخضر.
3 -
الحث على الرحلة في طلب العلم، فهذا موسى عليه الصلاة والسلام نبي كريم من أولي العزم ارتحل وسافر وركب البحر؛ ليزداد علمًا، والله تعالى قال:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} ، فلا يزال الإنسان يتعلم حتى يموت، والصحابة كذلك كانوا يرحلون، فقد رحل جابر بن عبد الله من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، قال البخاري في صحيحه:((وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ))
(2)
، وهو حديث المظالم، وما زال الصحابة ومن بعدهم العلماء يرحلون في طلب العلم، كما قال الإمام أحمد:((مع المِحبرة إلى المَقْبرة))
(3)
وقد أخذ بذلك العلماء فرحلوا في طلب العلم، وما يزالون يرحلون في هذا الشأن، وفي رواية لهذا الحديث أنه قال:((جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا، قَالَ: أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ، وَأَنَّ الوَحْيَ يَأْتِيكَ يَا مُوسَى))
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (3402).
(2)
صحيح البخاري (1/ 26).
(3)
مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي (ص 37).
(4)
أخرجه البخاري (4726).
4 -
أنه لا ينبغي للإنسان أن يسافر وحده؛ ولهذا سافر موسى مع فتاه، وهذا الفتى ليس غلامًا أو عبدًا له، كما يظنه بعضه الناس، بل هو صاحب له، وهو يوشع بن نون، وقد صار نبيًّا بعد وفاة موسى عليه السلام، وهو الذي سرى ببني إسرائيل، وفتح بيت المقدس، وهو الذي حُبست له الشمس، وقال- يخاطب الشمس-:((إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا))
(1)
فحبست حتى تم له الفتح ليلة السبت ليوافق ما عندهم من الشريعة.
5 -
أنه وضع الحوت في مكتل فأحيا الله الحوت، وهذا من آيات الله العظيمة، حوت مَمَلّح يأكلونه غداء أحياه الله واضطرب ودخل البحر، وقد عادت له الحياة بأمر الله، فأحياه الله فخرج من المكتل، ودخل البحر فأمسك الله جرية الماء عنه، فصار مثل الطاقة في الماء، وهذا من آيات الله العظيمة وهي من الدلائل على قدرة الله على إحياء الموتى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
6 -
اختلف العلماء في الخضر هل هو نبي، أم هو عبد صالح؟ على قولين:
القول الأول- للجمهور-: وهو أنه عبد صالح.
القول الثاني: أنه نبي، وهو الصواب؛ والدليل على ذلك: أن هذه الأفعال التي فعلها لا يمكن أن يفعلها إلا بوحي من الله، فلا يمكن أن يخرق السفينة، ويقتل الغلام، فهذه أمور عظيمة لا يقدم عليها إلا بوحي، ويدل على ذلك قول الخضر لموسى:{وما فعلته عن أمري} ، يعني: ما فعلت هذه إلا بأمر من الله، وبوحي منه.
ولكن الجمهور يرون أنه ولي، وأنه عبد صالح، وأن الله كشف له وألهمه بأن يخرق السفينة، وأن يقتل الغلام، وهو بعيد، وخصوصًا قتل الغلام فأنه
(1)
أخرجه البخاري (3124)، ومسلم (1747).
أمر ليس بالهين أن يأتي إلى غلام ويخلع رقبته ويلقيها هكذا! وقد مات وقُبض، وليس حيًّا الآن، كما يعتقد بعض الصوفية الذين يقولون: إنه موجود الآن، ويجتمع مع النبي، وهذا من خرافاتهم.
7 -
أن الخضر اشترط على موسى عليه السلام أن لا يسأله عن شيء حتى يخبره الخضر، وإن كان مخالفًا لظاهر الشرع، ثم قال له: إنك لن تستطيع معي صبرًا؛ لأنك سترى شيئًا يخالف ظاهر الشرع فلا تستطيع الصبر عليه.
والاستطاعة نوعان:
النوع الأول: استطاعة بمعنى: توفر الأسباب والآلات التي بها يستطيع الإنسان أن يفعل.
النوع الثاني: استطاعة بمعنى: التوفيق للفعل، وهي القدرة المقارنة للفعل، وهي المرادة هنا، أي: استطاعة التوفيق.
فاشترط عليه الخضر ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرًا، فوافق موسى على الشرط، فبينما هما يمشيان على الساحل؛ إذ مرت بهما سفينة فطلبوا من أصحابها أن يحملوهما فعرفوا الخضر فحملوهما بغير أجرة، فلما ركبا لم يتفاجأ موسى إلا والخضر قد أخذ قدومًا وجعل يضرب السفينة ضربًا حتى خرقها، فانزعج موسى لهذا الأمر، فقال له: هذا أمر عظيم {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئًا إمرًا} عظيمًا، فهؤلاء أناس أحسنوا إلينا وحملونا من غير أجرة أنقابلهم بالإساءة؟ ! فذكَّره الخضر بالشرط الذي ضربه بينه وبينه، فقال:{ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا} ، وبهذا استدل العلماء على أنه: إذا اجتمعت مفسدتان لا يمكن درؤهما فإنه تُرتكب المفسدة الصغرى لدفع المفسدة الكبرى، وإذا اجتمعت مصلحتان لا يمكن فعلهما فإنه تُفعل المصلحة العظمى وتُترك المصلحة الصغرى، فالخضر يعلم أن هناك ملكًا ظالمًا يأخذ كل سفينة غصبًا، وهذه مفسدة، والسفينة لمساكين، ففيه: دليل على أن المسكين قد يملك شيئًا؛
لأن المساكين يملكون سفينة، فالمسكين هو الذي لا يملك ما يكفيه لمدة سنة، وقد يملك بعض الشيء، فهؤلاء المساكين لهم سفينة، وهذا الملك الظالم يأخذ السفينة الصالحة والسفينة التي فيها عيب لا يأخذها، فأراد الخضر أن يجعل فيها عيبًا حتى تبقى للمساكين، فارتكب الخضر المفسدة الصغرى تلافيًا للمفسدة الكبرى، فهنا مفسدتان: إما أن لا يخرقها ويتركها صالحة ويترتب عليه أن الملك سيأخذ السفينة كاملة، أو أن يجعل فيها عيبًا، وتبقى للمساكين.
ثم جاءت المسألة الثانية- وهي أعظم وأشد- وذلك أن موسى والخضر نزلا من السفينة وصارا يمشيان على الساحل فمرا على صبيان يلعبون، ومعهم غلام فأخذ برأسه واقتلعها وألقاها كالكرة بين يديه، فانزعج موسى انزعاجًا عظيمًا، فقال:{أقتلت نفسًا زكية بغير نفس لقد جئت شيئًا نُكرًا} ، أي: أمرًا منكرًا عظيمًا، فشدد عليه الخضر، فقال له:{ألم أقل لك} فأكد هنا، وفي الأولى قال:{ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا} وهذه المرة قال: {ألم أقل لك} بزيادة لك، فكان الإنكار أشد.
ثم أخبره بعد ذلك أن الله أوحى إليه أن هذا الغلام طُبع يوم طبع كافرًا، وأنه لو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا، وأن الله أمره بذلك وأن الله سيبدل والديه من هو خير منه؛ ويمنعهما من شره؛ لأنه لو عاش لصار شرًا على والديه، وأرهقهما طغيانًا وكفرًا، فقال له موسى في المرة الثانية:{إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} ، أي: إن عارضتك غير هذه المرة، أو أنكرت عليك غير هذه المرة فأنت معذور في ترك صحبتي.
ثم جاءت المرة الثالثة فنزلوا قرية- يذكر أنها أنطاكية أو غيرها- واستطعما أهلها فأبوا استضافتهم، وكانوا قومًا لئامًا فلم يضيفوهم، فوجدا فيها جدارًا آيلًا للسقوط، فقام الخضر يبنيه ويقيمه، فقال موسى: كيف تبني
هذا الجدار لقوم لئام امتنعوا عن ضيافتنا، فخذ أجرة ما بنيته لهم! فقال له الخضر عند ذلك:{هذا فراق بيني وبينك} ، وأخبره أن هذا الجدار كان تحته كنز ليتيمين في المدينة، والله تعالى قدَّر أنهما سيعيشان، ويبلغان الحلم، ويأخذان هذا الكنز، فأراد أن يبنيه حتى يكون علامة، لأنه لو سقط لاندثر وضاع الكنز، ثم بين له الخضر أن علم الله واسع لا يحيط به أحد، وقال:((يَا مُوسَى: إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لا أَعْلَمُهُ))
(1)
، ((مَا عِلْمُكَ وَعِلْمِي وَعِلْمُ الخَلائِقِ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هَذَا العُصْفُورُ مِنْقَارَهُ))
(2)
وقد جاء عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر، والحرف: الطَّرَف، قال الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ {، يعني: متطرفًا في دينه} فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} فالمتطرف في دينه الذي لم يتمكن الإيمان من قلبه إن أصابه خير اطمأن به، وبقي على إيمانه، وإن أصابته فتنة ارتد عن دينه- نعوذ بالله- عند ذلك عرف موسى عليه السلام أن هذا العبد عنده علم ليس عنده.
وقوله: ((وَكَانَ يَقْرَأُ: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا)): لعل المراد: عن ابن عباس، كما هو في سند الحديث.
وهذه القراءة ليست قراءة سبعية، فتحمل على أنها قراءة تفسيرية، يعني: إن الله قدَّر أن هذا الغلام لو عاش لكان كافرًا، ففيه: دليل على أن الله يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، وهذا كقوله تعالى- عن الكفرة-:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} ، حينما طلبوا أن يُرَدُّوا إلى الدنيا، وقال- عن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك-:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} ، فالله
(1)
أخرجه البخاري (3401)، ومسلم (2380).
(2)
أخرجه البخاري (4727).
سبحانه يعلم ما كان في الماضي، ويعلم ما يكون في الحاضر، ويعلم ما سيكون في المستقبل.
8 -
أنه ينبغي للإنسان أن يكِل العلم إلى الله.
9 -
أن النبي عليه السلام قد يغلط، وقد يفعل خلاف الأولى، ولكن الله يسدده، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يُقَرُّون على الخطأ، بل يُنَبَّهون عليه.
10 -
دليل على أن الإنسان لا يزال يتعلم ولو بلغ من العلم ما بلغ.
11 -
دليل على أن العلم مشاع وأنه قد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل من العلم، فمن المعلوم أن موسى عليه السلام أفضل من الخضر من غير شك؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام من أولي العزم من الرسل، والخضر يُختلف فيه هل هو نبي، أو ولي، وعلى القول بأنه نبي فهو لا يصل إلى مرتبة موسى، ومع ذلك أخذ الفاضل العلم من المفضول؛ ولهذا قال العلماء:((لا يكون الرجل عالمًا حتى يكتب عمن هو فوقه، وعمن هو دونه، وعمن هو مثله))
(1)
.
12 -
دليل على أن الإنسان يتعلم ويُعلِّم في نفس الوقت، فهذا موسى عليه السلام يعلم بني إسرائيل مما علمه الله، ومع ذلك تعلم من الخضر، ففي وقت يتعلم، وفي وقت آخر يعلِّم.
13 -
أن الله يحفظ مال اليتيم بسبب صلاح أبيه؛ لأن الله تعالى هيأ لهذين اليتيمين من يحفظ مالهما، أو يكون سببًا في حفظه، بسبب صلاح أبيهما.
(1)
الجامع لأخلاق الراوي، للخطيب (2/ 216).
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الْقَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَقَبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى الَّذِي ذَهَبَ يَلْتَمِسُ الْعِلْمَ لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: أَسَمِعْتَهُ يَا سَعِيدُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَذَبَ نَوْفٌ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إِنَّهُ بَيْنَمَا مُوسَى عليه السلام فِي قَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ- وَأَيَّامُ اللَّهِ: نَعْمَاؤُهُ وَبَلَاؤُهُ-؛ إِذْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ رَجُلًا خَيْرًا وَأَعْلَمَ مِنِّي! قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي أَعْلَمُ بِالْخَيْرِ مِنْهُ، أَوْ عِنْدَ مَنْ هُوَ إِنَّ فِي الْأَرْضِ رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَدُلَّنِي عَلَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: تَزَوَّدْ حُوتًا مَالِحًا؛ فَإِنَّهُ حَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ، قَالَ: فَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَعُمِّيَ عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ وَتَرَكَ فَتَاهُ، فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمَاءِ، فَجَعَلَ لَا يَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، صَارَ مِثْلَ الْكُوَّةِ، قَالَ: فَقَالَ فَتَاهُ: أَلَا أَلْحَقُ نَبِيَّ اللَّهِ فَأُخْبِرَهُ، قَالَ: فَنُسِّيَ، فَلَمَّا تَجَاوَزَا، قَالَ لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ: وَلَمْ يُصِبْهُمْ نَصَبٌ حَتَّى تَجَاوَزَا، قَالَ: فَتَذَكَّرَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي
الْبَحْرِ عَجَبًا، قَالَ: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَأَرَاهُ مَكَانَ الْحُوتِ، قَالَ: هَاهُنَا وُصِفَ لِي، قَالَ: فَذَهَبَ يَلْتَمِسُ فَإِذَا هُوَ بِالْخَضِرِ، مُسَجًّى ثَوْبًا مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْقَفَا- أَوَ قَالَ: عَلَى حَلَاوَةِ الْقَفَا- قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، قَالَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: وَمَنْ مُوسَى؟ قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: مَجِيءٌ، مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ: {تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا، شَيْءٌ أُمِرْتُ بِهِ أَنْ أَفْعَلَهُ إِذَا رَأَيْتَهُ لَمْ تَصْبِرْ! قَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ: فَإِنِ
اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا، قَالَ: انْتَحَى عَلَيْهَا، قَالَ لَهُ مُوسَى عليه السلام: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا! قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ ! قَالَ: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ، قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَى أَحَدِهِمْ بَادِيَ الرَّأْيِ فَقَتَلَهُ، فَذُعِرَ عِنْدَهَا مُوسَى عليه السلام ذَعْرَةً مُنْكَرَةً: قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا))، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ هَذَا الْمَكَانِ-: ((رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا،
وَعَلَى مُوسَى، لَوْلَا أَنَّهُ عَجَّلَ لَرَأَى الْعَجَبَ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَتْهُ مِنْ صَاحِبِهِ ذَمَامَةٌ، قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، وَلَوْ صَبَرَ لَرَأَى الْعَجَبَ))، قَالَ: وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى أَخِي كَذَا، رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا، ((فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا، فَطَافَا فِي الْمَجَالِسِ فَاسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ، قَالَ: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، وَأَخَذَ بِثَوْبِهِ، قَالَ: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ
…
إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَإِذَا جَاءَ الَّذِي يُسَخِّرُهَا وَجَدَهَا مُنْخَرِقَةً، فَتَجَاوَزَهَا، فَأَصْلَحُوهَا بِخَشَبَةٍ، وَأَمَّا الْغُلامُ فَطُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِرًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ، فَلَوْ أَنَّهُ أَدْرَكَ أَرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً، وَأَقْرَبَ رُحْمًا، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ
…
إِلَى آخِرِ الْآيَةِ)).
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ. ح وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، كِلَاهُمَا عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِإِسْنَادِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، نَحْوَ حَدِيثِهِ.
قوله: ((مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)): فيه: دليل على أن شريعة موسى ليست عامة لأهل الأرض، وإنما هي خاصة ببني إسرائيل، وأما شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهي عامة لجميع أهل الأرض، للثقلين الجن والإنس؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي:
…
وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً))
(1)
.
وقوله: ((ذَعْرَةً مُنْكَرَةً))، أي: أصابه ذعر ورعب شديد.
وقوله: ((وَلَكِنَّهُ أَخَذَتْهُ مِنْ صَاحِبِهِ ذَمَامَةٌ))، يعني: أخذه الاستحياء منه، من كثرة اعتراضه عليه، وقيل: ملامة.
وقوله: ((شَيْءٌ أُمِرْتُ بِهِ)) يدل على أن الخضر نبي يوحى إليه، ويدل عليه- أيضًا- قوله- لموسى في آخر القصة-:{وما فعلته عن أمري} ، وهذا قول بعض العلماء، وذهب الأكثرون إلى أنه عبد صالح، وأن الله ألهمه وكشف له عن حال الغلام، واليتيمين والسفينة، ولكنه قول مرجوح، وإن كان قول الأكثرين.
هذا الحديث فيه: أن الخضر له شريعة غير شريعة موسى عليه السلام، فهو خارج عن شريعته؛ لأن الخضر لم يؤمر باتباع موسى عليه السلام، وموسى لم يرسل إلى الخضر؛ ولهذا قال العلماء: إن من نواقض الإسلام الزعم بأنه يجوز الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما وسِع الخضر الخروج عن شريعة موسى، فهذا يكفر صاحبه لوجود فرق بين شريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وشريعة موسى عليه السلام، فإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين، يعني: لأهل الأرض كلهم إنسهم وجنهم، وشريعة موسى خاصة وليست عامة.
فمن زعم أنه يجوز له الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فقد ارتدَّ عن دين الإسلام، يقول الشيخ محمد
(1)
أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521).
ابن عبد الوهاب رحمه الله: ((من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر))
(1)
.
وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ:(لَتَّخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).
حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى عليه السلام، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخَضِرُ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا الطُّفَيْلِ، هَلُمَّ إِلَيْنَا، فَإِنِّي قَدْ تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ فَقَالَ أُبَيٌّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى: بَلْ عَبْدُنَا الْخَضِرُ، قَالَ: فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا افْتَقَدْتَ الْحُوتَ، فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَسَارَ مُوسَى مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسِيرَ، ثُمَّ قَالَ لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا، فَقَالَ فَتَى مُوسَى- حِينَ سَأَلَهُ الْغَدَاءَ-: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، فَقَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، إِلَّا أَنَّ يُونُسَ قَالَ: فَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي
الْبَحْرِ)).
قوله: ((يَا أَبَا الطُّفَيْلِ)) أبو الطفيل هي كنية أبي بن كعب رضي الله عنه، ويكنى
(1)
الدرر السنية في الأجوبة النجدية (2/ 362).
كذلك بأبي المنذر، وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم:((وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ))
(1)
لما سأله: أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} .
وقوله: ((تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي))، يعني: تجادلا وتحاورا واختلفا في صاحب موسى؛ هل هو موسى بني إسرائيل عليه السلام، أو غيره؟ فبين له أبي بن كعب رضي الله عنه أنه موسى نبي بني إسرائيل عليه الصلاة والسلام.
وقوله: ((فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الحُوتَ آيَةً))، يعني: علامةً إذا فقدها يجدون الخضر، وهو من الحديث المرفوع من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من كلام أُبي، ولا ابن عباس، وأن موسى هو موسى بني إسرائيل وليس غيره.
* * *
(1)
أخرجه مسلم (810).