المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌الْمقَدِّمَة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب - رد الجميل في الذب عن إرواء الغليل

[عبد الله العبيلان]

فهرس الكتاب

- ‌الْمقَدِّمَة

- ‌ ومن أمثلة اختلاف النقَّاد في الحكم على رواة الحديث:

- ‌ حجية الحديث المرسل إذا اعتضد:

- ‌ أمثلة على احتجاج الأئمة بالمرسل إذا اعتضد:

- ‌ تقوية الحديث بالأثر:

- ‌ اختلاف المحدِّثين في الحُكْمِ على الرجال:

- ‌ طبقات المحدِّثين وطريقتهم في الجرح والتعديل:

- ‌علم الحديث مبناه على الاجتهاد لا على التقليد

- ‌ أمثلة في اختلاف اجتهادهم في الوصل والانقطاع:

- ‌ اختلافهم في حد الجهالة:

- ‌ فائدة عزيزة في تحرير حد الجهالة:

- ‌ لزوم التحري في فهم عبارات الأئمة:

- ‌ علم صناعة الحديث لا ينفك عن الفقه لأنه الغاية:

- ‌أهل الحديث قد ينقلون الحديث من طريق صحيحة ثم من طريق ضعيفة فيطلقون عدم الصحة ويريدون ما نقل بالطريق الضعيف

- ‌رأي مؤلف "مستدرك التعليل" في علم شيخ الإسلام بالحديث

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الثالث

- ‌الحديث الرابع

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث الثامن

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الحديتّ الخامس عشر

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌الحديث الحادي والعشرون

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌الحديث الرابع والعشرون

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌الحديث الحادي والثلاثون

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌الحديث الحادى والأربعون

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌الحديث التاسع والأربعون

- ‌الحديث الحادى والخمسون

- ‌الحديث الثاني والخمسون

- ‌الحديث الخامس والخمسون

- ‌الحديث السادس والخمسون

- ‌الحديث السابع والخمسون

- ‌الحديث التاسع والخمسون

- ‌الحديث الستون

- ‌الحديث الحادي والستون

- ‌الحديث الثاني والستون

- ‌الحديث الثالث والستون

- ‌الحديث الرابع والستون

- ‌الحديث الخامس والستون

- ‌الحديث السادس والستون

- ‌الحديث السابع والستون

- ‌الحديث الثامن والستون

- ‌الحديث التاسع والستون

- ‌الحديث السبعون

- ‌الحديث الحادى والسبعون

- ‌الحديث الثاني والسبعون

- ‌الحديث الثالث والسبعون

- ‌الحديث الرابع والسبعون

- ‌الحديث الخامس والسبعون

- ‌الحديث السادس والسبعون

- ‌الحديث السابع والسبعون

- ‌الحديث الثامن والسبعون

- ‌الحديث التاسع والسبعون

- ‌الحديث الحادي والثمانون

- ‌الحديث الثاني والثمانون

- ‌الحديث الثالث والثمانون

- ‌الحديث الثامن والثمانون

- ‌الحديث التسعون

- ‌الحديث الحادى والتسعون

- ‌الحديث الثاني والتسعون

- ‌الحديث الرابع والتسعون

- ‌الحديث الخامس والتسعون

- ‌الحديث السادس والتسعون

- ‌الحديث التاسع والتسعون

- ‌الحديث المئة

- ‌الحديث الواحد بعد المئة

- ‌الحديث الثاني بعد المئة

- ‌الحديث الثالث بعد المئة

- ‌الحديث السادس بعد المئة

- ‌الحديث السابع بعد المئة

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم   ‌ ‌الْمقَدِّمَة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب

بسم الله الرحمن الرحيم

‌الْمقَدِّمَة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.

أما بعد: فقد أطلعني أحد طلبة العلم على كتاب بعنوان "مستدرك التعليل على إرواء الغليل" للدكتور أحمد الخليل، فرأيته جانب الصواب في معظم تعقباته على "إرواء الغليل"، وليس هذا الأهم؛ بل المنهج الذي سلكه في تعقُّباته منهج خلا من التحقيق العلمي الدقيق المبني على الدراسة الواسعة للحديث من حيث الصناعة الحديثية ومعرفة مقاصد الشريعة والفقه في معانيها، وهذه سمة كثير ممن يشتغلون بعلم الحديث في هذا العصر!

واعتمد الدكتور أحمد على التقليد؛ وكأن أقوال أهل العلم في الرجال وعلل الحديث وَحْيٌ منزل من السماء لا تجوز مخالفته، وكأنهم لم يختلفوا في ذلك، ونتج من ذلك وغيره -كما سيتضح لك- تضعيف أحاديث هي عمدة أهل العلم وأصولهم في كثير من مسائل الفقه.

ورحم الله ابن القيم حيث قال: "وقد احتَجَّ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ وَالْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً بصحيفة عَمْرِو بن شُعَيْبِ عن أبيه عن جَدِّهِ، وَلا يُعْرَفُ في أَئِمَّةِ الْفَتْوَى إلَاّ من احْتَاجَ إلَيْهَا وَاحْتَجَّ، بهَا وَإِنَّمَا طَعَنَ فيها من لم يَتَحَمَّلْ أَعْبَاءَ الْفِقْهِ وَالفَتْوَى".

ص: 5

وقبل الجواب على تعقُّبات الدكتور الخليل أنبِّه على قواعد ومسائل فى علوم الحديث، نصيحة لطلبة العلم الراغبين فى البحث والدراسة فى هذا العلم الشريف، وأُبَيِّنُ لجملة من طلبة العلم الذين يتقفّرون هذا الفن أنهم علموا أشياء وفاتهم الأكثر، وأن زمن الرواية انتهى، ولا ينبغى لأحد أن يتشبع بما لم يُعْطَ، وأن أقدر الناس فى الحكم على الأحاديث في هذا العصر -وخصوصًا المختلف فيها- هم أهل العلم بمعانيه والاطلاع الواسع على متونه وآثار الصحابة، فهم حملته الأوَّلون، فإن السنة يصدِّقُ بعضها بعضًا، وعمل الصحابة أعظم برهان على صدق الحديث أو كذبه وخطئه من صوابه، قال تعالى:- {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] الآية، فحديث لا يعرفه الصحابة رضي الله عنه ليس بحديتْ، ويأتي مؤيد بيان وتفصيل.

فأقول وبالله التوفيق:

أول هذه القواعد: أن أهل الحديث ليسوا على درجة واحدة في الفقه، كما قال عليه السلام "نضَّرَ اللهُ عبدًا سَمِعَ مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها إلى من لم يسمعها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ لا فِقْهَ له، ورُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى من هو أفقهُ منه" وهو حديث متواتر.

قال شيخ الإسلام: "وأهل العلم المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الناس قيامًا مًا بهذه الأصول، لا تأخذ أحدهم في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن سبيل الله العظائم؛ بل يتكلم أحدهم بالحق الذي عليه، ويتكلم في أحب الناس إليه عملاً بقوله تعالى:({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} [النساء: 135] وقوله تعالى: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

ص: 6

ولهم من التعديل والتجريح، والتضعيف والتصحيح، من السعي المشكور والعط المبرور؛ ما كان من أسباب حفظ الدين وصيانته عن إحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات: منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية، ومنهم أهل المعرفة الحديث والدراية، ومنهم أهل الفقه فيه والمعرفة بمعانيه" (1).

وأعلى هذه الدرجات كما لا يخفى، وأقدرهم في الحكم على الأحاديث الدرجة الثالثة.

ثانيها: ما قرَّره الأئمة في مصنفاتهم: أن الضعيف إذا تعدَّدت طرقه يصير حسنًا.

قال شيخ الإسلام: "وذلك أن الحديث إنما يخاف فيه من شيئين: إما تعمُّد الكذب، وإما خطأ الراوي، فإذا كان من وجهين لم يأخذه أحدهما في الفقه عن الآخر، وليس مما جرت العادة بأن يتفق تساوي الكذب فيه؛ عُلِمَ أنه ليس بكذب، لا سيما إذا كان الرواة ليسوا من أهل الكذب.

وأما الخطأ؛ فإنه مع التعدد يضعف؛ ولهذا كان أبو بكر وعمر رضي الله عنها يطلبان مع المحدث الواحد من يوافقه خشية الغلط، ولهذا قال تعالى في المرأتين:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282]. هذا لو كانا عن صاحب واحد، فكيف وهذا قد رواه عن صاحب وذلك عن آخر وفي لفظ أحدهما زيادة على لفظ الآخر؟ فهذا كله ونحوه مما يبين أن الحديث في الأصل معروف".

وفي مسائل إسحاق بن منصور للإمام أحمد: "قُلْت: متى يتركُ حديث الرجلِ؟ قَالَ: إذا كان الغالب عليه الخطأ. قُلْتُ: الكذب من قليلٍ أو كثير؟ قَالَ: نعم"(2).

وقال ابن الصلاح: "فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئًا من

(1) انظر "مجموع الفتاوى"(1/ 10).

(2)

انظر "مسائل الإمام أحمد بن حنبل وابن راهويه"(2/ 562).

ص: 7

ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختل فيه ضبطه له" (1).

وقال الحافظ ابن حجر: "ومتى توبع السيئ الحفظ بمعتبر كأن يكون فوقه أو مثله لا دونه، وكذا المستور والمرسل والمدلس؛ صار حديثهم حسنًا؛ لا لذاته؛ بل باعتبار المجموع من المُتابَع والمتابع"(2).

وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله:

"وهذه الروايات الواردة بذكر اليدين إلى المرفقين تدل على السنية، وإن كانت لا يخلو شيء منها من مقال، فإن بعضها يشدُّ بعضًا؛ لما تقرر في علوم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يقوى بعضها بعضًا حتى يصلح مجموعها للاحتجاج، لا تخاصم بواحد أهل بيت، فضعيفان يغلبان قويًّا، وتعتضد أيضًا بالموقوفات المذكورة"(3).

وقال الحافظ ابن حجر في كلامه على ما سكت عليه أبو داود:

"ومن هنا يتبين أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي، بل هو على أقسام:

1 -

منه ما هو في الصحيحين، أو على شرط الصحة.

2 -

ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته.

3 -

ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد.

وهذان القسمان كثير في كتابه جدًّا.

4 -

ومنه ما هو ضعيف، لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالبًا، وكل

(1) انظر "مقدمة ابن الصلاح"(ص 34).

(2)

انظر "نخبة الفكر"(ص 230).

(3)

انظر "أضواء البيان"(1/ 363).

ص: 8

هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها، كما نقل ابن منده عنه أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وأنه أقوى عنده من رأي الرجال" (1).

وقال الحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله:

"قلت: فقد وفي رحمه الله بذلك بحسب اجتهاده، وبيَّن ما ضعفه شديد ووهنه غير محتمل وكاسر (2) عن ما ضعفه خفيف محتمل، فلا يلزم من سكوته والحالة هذه عن الحديث أن يكون حسنًا عنده، ولا سيما إذا حكمنا على حد الحسن باصطلاحنا المولَّد الحادث، الذي هو في عرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح الذي يجب العمل به عند جمهور العلماء، أو الذي يرغب عنه أبو عبد الله البخاري ويمشِّيه مسلم، وبالعكس؛ فهو داخل في أداني مراتب الصحة، فإنه لو انحطَّ عن ذلك لخرج عن الاحتجاج ولبقي متجاذبًا بين الضعف والحسن، فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان، وذلك نحو من شطر الكتاب، ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين ورغب عنه الآخر، ثم يليه ما رَغِبَا عنه وكان إسناده جيِّدًا سالمًا من عِلّةٍ وشذوذٍ، ثم يليه ما كان إسناده صالحًا، وقَبِلَهُ العلماءُ لمجيئه من وجهين ليِّنين فصاعدًا؛ يعضد كل إسناد منهما الآخر، ثم يليه ما ضعف إسناده لنقص حفظ راويه، فمثل هذا يُمَشِّيه أبو داود ويسكت عنه غالبًا، ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة راويه؛ فهذا لا يسكت عنه؛ بل يوهنه غالبًا، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته، والله أعلم"(3).

وقال العلامة المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله:

"الأَصْلُ الرابع من أصول أحمد: الأَخْذُ بِالْمُرْسَلِ وَالْحَدِيثِ الضعيف إذَا

(1) انظر "النكت على ابن الصلاح": (1/ 435).

(2)

أي: غضَّ الطرفَ والنظر.

(3)

انظر "سير أعلام النبلاء "(13/ 214).

ص: 9

لم يَكُنْ في الْبَابِ شَيْءّ يَدْفَعُهُ، وهو الذي رَجَّحَهُ على الْقِيَاسِ، وَلَيسَ المُرَادُ بالضَّعِيفِ عِنْدَهُ الْبَاطِل وَلا الْمُنْكَر، وَلَا ما في رِوَايَتِهِ مُتَّهَمٌ بِحَيثُ لا يَسوغُ الذَّهَابُ إلَيْهِ فَالْعَمَلُ بِهِ؛ بَلْ الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ عنده قَسِيمُ الصَّحِيحِ، وقِسْمٌ من أَقْسَامِ الْحَسَنِ، ولم يَكُنْ يقسم الحديث إلَى صحِيحٍ وَحَسَنٍ وَضَعِيفٍ بَلْ إلَى صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ، وَلِلضعِيفِ عنده مَرَاتِبُ، فإذا لم يَجِدُ في الْبَابِ أَثَرًا يَدْفَعُهُ وَلا قَوْلَ صَاحِبٍ، وَلا إجماعًا على خِلَافِه، كان الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَهُ أَوْلَى من الْقِيَاسِ.

وَلَيْسَ أحدٌ من الأَئِمَّةِ إلَاّ وهو مُوَافِقة على هذا الأَصلِ من حَيْثُ الجملَة، فإنه ما منهم أَحَد إلَاّ وقد قَدَّمَ الحديث الضعِيفَ على الْقِيَاسِ" (1).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"والضعيفُ عندهم نوعان: ضعيف ضعفًا لا يمتنعُ العملُ به؛ وهو يشبِهُ الحسن في اصطلاح الترمذي، وضعيف ضعفًا يُوجِبُ تركه؛ وهو الواهِ؛ وهذا بمنزلة مرض المريض قد يكون قاطعًا بصاحبه، فيجعل التبرع من الثلث، وقد لا يكون قاطعًا بصاحبه، وهذا موجود في كلام الإمام أحمد وغيره، ولهذا يقولون: هذا فيه لين، فيه ضعف، وهذا عندهم موجود في الحديث، ومن العلماء المحدِّثين أهل الإتقان، مثل: شعبة، ومالك، والثوري، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي؛ هم في غاية الإتقان والحفظ؛ بخلاف من هو دون هؤلاء.

وقد يكون الرجل عندهم ضعيفًا لكثرة الغلط في حديثه، ويكون حديثه إذًا الغالب عليه الصحة لأجل الاعتبار به والاعتضاد به، فإن تعدُّدَ الطُّرقِ وكثرتَها يقوِّي بعضَها بعضًا، حتى قد يحصل العلم بها، ولو كان الناقلون فُجَّارا فُسَّاقًا؛ فكيف إذا كانوا علماء عدولاً، ولكن كثر في حديثهم الغلط؟

(1) انظر "إعلام الموقعين"(1/ 31).

ص: 10

ومثل هذا: عبد الله بن لهيعة؛ فإنه من أكابر علماء المسلمين، وكان قاضيًا بمصر كثير الحديث، لكن احترقت كتبه، فصار يُحَدِّثُ من حِفْظِهِ، فوقع في حديثه غلطٌ كثيرٌ، مع أن الغالب على حديثه الصحة، قال أحمد: قد أكتبُ حديثَ الرجلِ للاعتبار به، مثل: ابن لهيعة.

وأما مَن عُرِفَ منه أنه يتعمَّد الكذبَ؛ فمنهم من لا يروي عن هذا شيئًا، وهذه طريقة أحمد بن حنبل وغيره؛ لم يروِ في "مسنده" عمَّن يُعرَف أنه يتعمَّدُ الكذبَ، لكن يروي عمَّن عُرِفَ منه الغلط، للاعتبار به والاعتضاد.

ومن العلماء من كان يسمعُ حديث من يكذبُ، ويقول: إنه يميِّزُ بين ما يكذبه وبين ما لا يكذبه، ويُذْكَر عن الثوريّ أنه كان يأخذُ عن الكلبي وينهى عن الأخذ عنه، ويذكر أنه يعرف.

ومثل هذا قد يقع لمن كان خبيرًا بشخص إذا حدَّثه بأشياء يميِّزُ بين ما صَدَقَ فيه وما كذَبَ فيه؛ بقرائن لا يمكنُ ضبطُها.

وخبر الواحد قد يقترن به قرائن تدل على أنه صدقٌ، أو تقترنُ به القرائن تدل على أنه كذب" (1).

وقال ابن رجب: "وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني: إذا انضمت إلى غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قوتها.

وقال الشافعي في المرسل: إنه إذا استند من وجه آخر وأرسله من يأخذ العلم عن غير من يأخذ عنه المرسل الأول؛ فإنه يقبل.

وقال الجوزجاني: إذا كان الحديث المسند من رجل غير مقنع -يعني لا يقنع برواياته- وشد أركانه المراسيل بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار استعمل واكتفي به.

(1)"مجموع الفتاوى"(18/ 25 - 27).

ص: 11

وهذا إذا لم يعارض بالمسند الذي هو أقوى منه، وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث، وقال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"(1). وقال أبو عمرو ابن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها يقوِّي الحديث ويحسِّنه، وقد تقبَّله جماهير أهل العلم واحتجوا به، وقول أبي داود إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها؛ يشعر بكونه غير ضعيف، والله أعلم (2).

وقيل: (3) ينبغي أن يجعل الحديث الضعيف في هذا الباب أربعة أقسام:

1 -

الضعيف المنجبر الضعف بمتابعة أو شاهد، وهو ما يقال في أحد رواته: لين الحديث أو فيه لين، وهو الحديث الملقب بالمشبه؛ أي المشبه بالحسن من وجه، وبالضعيف من وجه آخر، وهو إلى الحسن أقرب.

2 -

الضعيف المتوسط الضعف، وهو ما يقال في راويه: ضعيف الحديث، أو: مردود الحديث، أو: منكر الحديث

3 -

الضعيف الشديد الضعف، وهو ما فيه مُتَّهَمٌ، أو متروك.

4 -

الموضوع.

- الأمثلة:

قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين أنه لعن زوَّارات القبور، فعن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور" رواه الإمام أحمد (4)، وابن ماجة (5)، والترمذي (6)، وصححه.

(1) أخرجه أحمد في "مسنده"(1/ 313)، وابن ماجه في "سننه":(2/ 784).

(2)

انظر: "جامع العلوم والحكم"(1/ 304).

(3)

انظر: "مجموع الفتاوى"(24/ 350).

(4)

في "مسنده"(2/ 337، 356).

(5)

في "سننه"(1576).

(6)

في "جامعه"(1056).

ص: 12

وعن ابن عباس رضي الله عنها:"أن النبي- صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرج"، رواه الإمام أحمد (1)، وأبو داود (2)، والنسائي (3)، والترمذي وحسنه (4)، وفي نسخ تصحيحه، ورواه بن ماجه (5) من دون ذكر الزيارة.

فإن قيل: الحديث الأول رواه عمر بن أبي سلمة، وقد قال فيه علي بن المديني: تركه شعبة، وليس بذاك. وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه. وقال السَّعدي، والنسائي: ليس بقوي الحديث.

والثاني: فيه أبو صالح باذام مولى أم هانئ، وقد ضعفوه، قال أحمد: كان ابن مهدي ترك حديث أبي صالح، وكان أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه تفسير، وما أقل ما له في "المسند"، ولم أعلم أحدًا من المتقدِّمين رَضِيَهُ.

قلت: الجواب على هذا من وجوه:

أحدها: أن يقال: كلٌّ من الرجلين قد عدَّله طائفة من العلماء كما جرَّحه آخرون، أما عمر؛ فقد قال فيه أحمد بن عبد الله العجلي: ليس به بأس. وكذلك قال يحيى بن معين: ليس به بأس. وابن معين وأبو حاتم من أصعب الناس تزكية.

وأما قول من قال: تركه شعبة، فمعناه: أنه لم يرو عنه، كما قال أحمد

ابن حنبل: لم يسمع شعبة من عمر بن أبي سلمة شيئًا. وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي ومالك ونحوهم، قد كانوا يتركون الحديث عن أناس لنوع شبهة بلغتهم لا توجب رد أخبارهم، فهم إذا رووا عن شخص كانت

(1) في "مسنده"(1/ 229، 287، 4 32، 337).

(2)

في "السنن"(3236).

(3)

في "السنن الكبرى"(2170) وفي "المجتبى"(4/ 94 - 95).

(4)

في "جامعه"(320).

(5)

في "السنن"(1575).

ص: 13

روايتهم تعديلا له، وأما ترك الرواية فقد يكون لشبهة لا توجب الجرح، وهذا معروف في غير واحد قد خُرِّجَ له في الصحيح.

وكذلك قول من قال: ليس بقوي في الحديث، عبارة لينة تقتضى أنه ربما كان في حفظه بعض التغير، ومثل هذه العبارة لا تقتضي عندهم تعمُّد الكذب ولا مبالغة في الغلط.

وأما أبو صالح؛ فقد قال يحيى بن سعيد القطان: لم أر أحدًا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ، وما سمعتُ أحدًا من الناس يقول فيه شيئًا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة (1). فهذه رواية شعبة عنه تعديل له كما عرف من عادة شعبة، وترك ابن مهدي له لا يعارض ذلك، فإن يحيى بن سعيد أعلم بالعلل والرجال من ابن مهدي، فإن أهل الحديث متفقون على أن شعبة ويحيى بن سعيد أعلم بالرجال من ابن مهدي وأمثاله.

وأما قول أبي حاتم: يكتب حديثُه ولا يحتجُّ به. فأبو حاتم يقول مثل هذا في كثير من رجال الصحيحين، وذلك أن شرطه في التعديل صعب، والحجَّة في اصطلاحه ليس هو الحجة في جمهور أهل العلم.

وهذا كقول من قال: لا أعلم أنهم رضوه. وهذا يقتضى أنه ليس عندهم من الطبقة العالية، ولهذا لم يخرج البخاري ومسلم له ولأمثاله، لكن مجرد عدم تخريجهما للشخص لا يوجب رد حديثه، وإذا كان كذلك، فيقال: إذا كان الجارح والمعدل من الأئمة لم يقبل الجرح إلا مفسَّرًا؛ فيكون التعديل مقدَّمًا على الجرح المطلق".

وقال شيخ الإسلام رحمه الله:

"وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزنى، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال: "الصُّلحُ جائزٌ بين المسلمين

(1) انظر "الكامل في ضعفاء الرجال"(2/ 69)، و"ميزان الاعتدال في نقد الرجال"(2/ 3).

ص: 14

إلا صُلحًا حرَّمَ حلالاً، أو أحلَّ حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرَّم حلالاً أو أحلَّ حرامًا" (1)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وروى ابن ماجه منه اللفظ الأول، لكن كثير بن عمرو ضعَّفه الجماعة، وضرب أحمد على حديثه في "المسند"، فلم يحدِّث به (2)، فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه.

وقد روى أبو بكر البزار أيضًا: عن محمد بن عبد الرحمن بن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس على شروطهم، ما وافقت الحق"(3)، وهذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفًا؛ فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا" (4).

"وقال الإمام أحمد: أحاديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" (5)، "لا نكاح إلا بولي" (6)، أحاديث يشد بعضها بعضًا، وأنا أذهب إليها"(7).

وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبرز فحْذك، ولا تنظر إلى

(1) أخرجه الترمذي (1352) وابن ماجه (2353) والحاكم (4/ 113) وغيرهم، وانظر:"إرواء الغليل"(5/ 250).

(2)

انظر: "المحرر" لابن عبد الهادي (1/ 495).

(3)

أخرج أيضًا ابن الجارود في "المنتقى" ج 1/ ص1 16، برقم 637 - حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ مَالِكِ ابن حمزة الأَسْلَمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي سُفْيَانُ يَعنِي ابْنَ حَمْزَةَ عَمَّه عَن كَثِيرٍ يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ عَنِ الْوَلِيدِ بن رَبَاحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِم مَا وافق الْحَقَّ مِنْهَا"، وفي سنن الدارقطني:(3/ 28) وعن خصيف عن عطاء بن أبي رباح عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون على شروطهم ما وافق الحق من ذلك". وأورده الهيثمي عن ابن عمر في مجمع الزوائد: (4/ 86) من مسند البزار.

(4)

انظر "مجموع الفتاوى": (29/ 147).

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه: ج 2/ ص 685: (وَيُروَى عن الْحَسَنِ عن غَيرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا قال: أفطر الْحَاجِم والمَحْجُومُ).

(6)

وأخرجه البخاري في صحيحه: (5/ 1970) بَاب من قال: لا نِكَاحَ إلا بِوَلِيٍّ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:(فَلا تَعْضُلوهنَّ).

(7)

انظر "تحفة الطالب"(ص/353).

ص: 15

فخذ حي ولا ميت" (1)، رواه أبو داود وابن ماجه.

وعن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وفخذه خارجة فقال: "غط فخذك فإن فخذ الرجل من عورته"(2)، رواه أحمد، وروى الترمذي قوله:"الفخذ عورة"، وقال: حديث حسن غريب.

وروي ذلك من وجوه أخرى يشد بعضها بعضًا (3).

وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله عند تفسير قول الله عز وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى الناس حِجُّ اَلبَيتِ مَنِ اَستَطَاعَ إِلَيةِ سَبِيلاً)، وذكر حديث:"السبيل: الزاد والراحلة" وطرقه، قال: "هذا هو حاصل روايات الأحاديث الواردة بتفسير السبيل في الآية: بالزاد، والراحلة. وقال غير واحد: إن هذا الحديث لا يثبت مسندًا، وأنه ليس له طريق صحيحة، إلا الطريق التي أرسلها الحسن.

قال مقيدُه -عفا الله عنه وغفر له-: الذي يظهر لي والله تعالى أعلم: أن حديث الزاد والراحلة المذكور، ثابت لا يقل عن درجة الاحتجاج، لأن الطريقين اللتين أخرجهما به الحاكم في "المستدرك" عن أنس قال: كلتاهما صحيحة الإسناد، وأقرَّ تصحيحهما الحافظ الذهبي، ولم يتعقَّبْهُ بشيءٍ، والدعوى على سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة في روايتهما الحديث عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها غلط، وأن الصحيح: عن قتادة، عن الحسن مرسلاً، دعوى لا مُستند لها؛ بل هي تغليطٌ وتوهيم للعدول المشهورين من غير استناد إلى دليل.

والصحيح عند المحقّقين من الأصوليين والمحدِّثينْ أن الحديثَ إذا جاء من طريق صحيحة، وجاء من طرق أخرى غير صحيحة، فلا تكون تلك الطرق

(1) أخرجه أحمد في مسنده: (1/ 146) وأخرجه أبو داود في سننه: (3/ 196)، وأيضًا:(4/ 40)، وابن ماجه:(1/ 469) والحاكم (4/ 200).

(2)

أخرجه أحمد في مسنده: (1/ 275)، والترمذي في سننه:(5/ 111).

(3)

انظر "شرح العمدة"(4/ 262).

ص: 16

علة في الصحيحة، إذا كان رواتها لم يخالفوا جميع الحفاظ؛ بل انفراد الثقة العدل بما لم يخالف فيه غيره مقبول عند المحققين.

فرواية سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة الحديث المذكور عن قتادة عن أنس مرفوعًا؛ لم يخالفوا فيها غيرهم؛ بل حفظوا ما لم يحفظه غيرهم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، فادِّعاء الغلط عليهما بلا دليل؛ غلط، وقول النووي في "شرح المهذب": وروى الحاكم حديث أنس، وقال: وهو صحيح، ولكن الحاكم متساهل كما سبق بيانه مرات، والله أعلم.

يجاب عنه: بأنا لو سلَّمنا أن الحاكم متساهل في التصحيح؛ لا يلزم من ذلك أنه لا يُقْبَلُ له تصحيح مطلقًا. ورُبَّ تصحيح للحاكم مطابق للواقع في نفس الأمر، وتصحيحه لحديث أنس المذكور لم يتساهل فيه، ولذا لم يُبْدِ النوويُّ وجهًا لتساهله فيه، ولم يتكلم في أحد من رواته؛ بل هو تصحيح مطابق.

فإن قيل: متابعة حماد بن سلمة لسعيد بن أبي عروبة المذكورة راويها عن حماد، هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحرَّاني، وهو متروك، لا يحتجُّ بحديثه، كما جزم به غير واحد من العلماء بالرجال. وقال فيه ابن حجر في "التقريب": متروك.

فقد تساهل الحاكم في قوله: إن هذه الطريق على شرط مسلم. مع أن في إسنادها أبا قتادة المذكور!

فالجواب: أن أبا قتادة المذكور وإن ضعفه الأكثرون فقد وثقه الإمام أحمد وأثنى عليه، وناهيك بتوثيق الإمام أحمد وثنائه، وذكر ابن حجر والذهبي أن عبد الله بن أحمد قال لأبيه: إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة المذكور كان يكذب، فعَظُمَ ذلك عنده جدًّا، وأثنى عليه، وقال: إنه يتحرَّى الصدق. قال: ولقد رأيته يشبه أصحاب الحديث.

وقال أحمد في موضع آخر: ما به بأس، رجل صالح يشبه أهل النسك،

ص: 17

ربما أخطأ. وفي إحدى الروايتين عن ابن معين أنه قال: أبو قتادة الحراني ثقة. ذكرها عنه ابن حجر والذهبي. وقول من قال: لعله كبر فاختلط. تخمين وظن، لا يثبت به اختلاطه، ومعلوم أن المقرر في الأصول وعلوم الحديث: أن الصحيح أن التعديل يُقْبَلُ مُجُمَلاً، والتجريح لا يُقْبَلُ إلا مفصَّلاً، مع أن رواية سعيد بن أبي عروبة عن أنس ليس في أحد من رواتها كلام.

ومما يؤيد ذلك: موافقة الحافظ النقادة الذهبي للحاكم على تصحيح متابعة حماد، مع أن حديث أنس الصحيح المذكور معتضد بمرسل الحسن، ولا سيِّما على قول من يقول إن مراسيله صحاح إذا روتها عنه الثقات؛ كابن المديني وغيره، كما قدمناه، ويؤيد ذلك: أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد الاحتجاج بالمرسل، كما قدمناه مرارًا، ويؤيده أيضًا: الأحاديث المتعددة التي ذكرنا، وإن كانت ضعافًا لأنها تقوي غيرها، ولا سيما حديث ابن عباس فإنا قد ذكرنا سنده وبيَّنا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج.

وقال الشوكاني في "نيل الأوطار": ولا يخفى أن هذه الطرق يقوِّي بعضها بعضًا، فتصلح للاحتجاج.

ومما يؤيد الحديث المذكور: أن أكثر أهل العلم على العمل به كما قدمنا عن أبي عيسى الترمذي أنه قال في حديث الزاد والراحلة: والعمل عليه عند أهل العلم" (1).

ومن المستقر عند علماء الحديث: أن التصحيحَ والتضعيف من الأمور الاجتهادية، ولا يلزم الأخذ بحكم فريق من العلماء دون آخر لأجل أنهم متقدّمون أو متأخّرون! بل لأجل الدليل وحجة الاجتهاد.

قال الإمام الشنقيطي: " .... والحاصل أن لزوم الكفارة في نذر المعصية جاءت فيه أحاديث متعددة لا يخلو شيء منها من كلام، وقد يقوِّي بعضها بعضًا.

(1) انظر "أضواء البيان"(4/ 317).

ص: 18

وقال الشوكاني: قال النووي في الروضة: حديث: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين"(1)، ضعيف باتفاق المحدثين.

قال الحافظ: قلت: قد صححه الطحاوي وأبو علي ابن السكن، فأين الاتفاق؟! انتهى" (2).

قال الحافظ ابن حجر:

"

عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه"(3)، لكن إسناده ضعمف.

وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء: "وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق"(4)، وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعًا:"ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه". فهذه الأحاديث يقوِّي بعضها بعضًا" (5).

وقال الحافظ:

"وروى البيهقي من طريق عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن عثمان: "أنه أتم بمنى ثم خطب فقال: إن القصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ولكنه حدث طَغام -يعني بفتح الطاء والمعجمة- فخفتُ أن يستنوا" (6).

وعن ابن جريج: "أن أعرابيًّا ناداه في مني: يا أمير المؤمنين؛ ما زلت

(1) أخرجه أحمد (4/ 443) وأبو داود (3/ 232) والترمذي (4/ 103) وابن ما جه (1/ 686).

(2)

أضواء البيان ج 5/ ص240.

(3)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (1/ 56)، وأخرجه الدارقطني في سننه:(1/ 83).

(4)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: (22/ 50).

(5)

"فتح الباري: (1/ 292).

(6)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (3/ 144).

ص: 19

أصليها منذ رأيتك عام أول ركعتين" (1). وهذه طرق يقوِّي بعضُها بعضًا"(2).

وقال ابن عبد الهادي:

"قال الدارقطني: ثنا الحسين بن إسماعيل ثنا عبد الله بن منيب ثنا يحيى بن إبراهيم بن أبي قتيلة قال: ثنا الحارث بن محمد الفهري، عن يحيى بن سعيد، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه" (3).

وهذا الإسناد ضعيف، لم يخرجه أحد من أهل السنن، ولا هو مخرج في الكتب الستة، وفي رجاله الحارث بن محمد الفهري: لا يعرف مجهول.

وفيه أيضًا: عبد الله بن منيب الربعي، قال الرازي: يحل ضرب عنقه!

لكنه مروي من وجوه عن ابن عمر بأسانيد يقوي بعضها بعضًا" (4).

وقال الإمام ابن قيم الجوزية:

"وأما جمهور العلماء: كمالك وأحمد وأبي حنيفة والشافعي وأصحابهم فقالوا: إن اضطرت إلى الكحل بالإثمد، تداويًا لا زينة، فلها أن تكتحل به ليلا، وتمسحه نهارًا، وحجتهم حديث أم سلمة المتقدم رضي الله عنها، فإنها قالت في كحل الجلاء: "لا تكتحل إلا لما لا بد منه، يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار". ومن حجتهم حديث أم سلمة رضي الله عنها الآخر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها، وقد جعلت عليها صبرًا، فقال: "ما هذا يا أم سلمة؟ " فقلت: صبرِّ يا رسول الله، ليس فيه طيب. فقال: "إنه يشب الوجه". فقال: "لا تجعليه إلا

(1) انظر "التمهيد لابن عبد البر: (16/ 303).

(2)

انظر "فتح الباري: (2/ 571).

(3)

أخرجه الدارقطني في سننه: (3/ 26).

(4)

انظر تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (3/ 50).

ص: 20

بالليل، وتنزعيه بالنهار" (1). وهما حديث واحد فرَّقه الرُّواة، وأدخل مالك هذا القدر منه في "موطئه" بلاغًا، وذكر أبو عمر في "التمهيد" (2) له طرقًا يشدُّ بعضُها بعضًا، ويكفي احتجاج مالك به، وأدخله أهل السنن في كتبهم، واحتجَّ به الأئمة، وأقل درجاته أن يكون حسنًا"(3).

وقال أيضًا:

"وقد رويت أحاديث الامتحان في الآخرة من حديث الأسود بن سريع، صححه عبد الحق، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، وأنس، ومعاذ، وأبي سعيد.

فأما حديث الأسود؛ فرواه معاذ، عن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم

وقال معاذ: وحدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة.

ورواه أحمد وإسحاق عن معاذ، ورواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان، عن رافع، عن أبي هريرة.

ورواه معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة موقوفًا عليه، وهذا لا يضرُّ الحديثَ؛ فإنه إن سلك طريق ترجيح الزائد لزيادته؛ فواضح، وإن سلك طريقَ المعارضة؛ فغايتها تحقق الوقف، ومثل هذا لا يقدم عليه بالرأي إذ لا مجال له، فيقبل بجزمٍ بأن هذا توقيف لا عن رأي.

(1) أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(3/ 396) وأبو داود (4292)، وأخرجه البيهقى في السنن الكبرى:(7/ 440)، وانظر التمهيد لابن عبد البر:(24/ 363).

(2)

(24/ 362).

(3)

انظر: "زاد المعاد"(5/ 703).

ص: 21

وأما حديث أنس؛ فرواه جرير بن عبد الحميد، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الوارث، عن أنس، عن النبي- صلى الله عليه وسلم:"يُؤتَى يومَ القيامةِ بأربعة: بالمولود، وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة، وبالشيخ الفاني. كلهم يتكلَّمُ بحجَّتِهِ، فيقول الرب سبحانه لعنق من جهنم: ابرزي. ويقول لهم: إني كنتُ أبعثُ إلى عبادي رسولاً من أنفسهم وإني رسولُ نفسي إليكم. قال: ويقول لهم: ادخلوا هذه. ويقول من كتب عليه الشقاء: أَنَّى نَدْخُلُهَا ومنها كنَّا نفرُّ؟! فيقول الله: فأنتم لِرُسُلِي أشدُّ تكذيبًا. قال: وأما من كُتِبَ عليهم السعادة، فيمضي فيقتحم فيها، فيدخل هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار"(1).

وهذا وإن لم يعتمد عليه بمجرده، لمكان ليث بن أبي سليم عن عبد الوارث عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما حديث معاذ؛ فتقدم الكلام عليه.

وأما حديث أبي سعيد؛ فرواه محمد بن يحيى الذهلي: أخبرنا سعيد بن سليمان، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الهالك في الفترة، والمعتوه، والمولود؛ يقول الهالك في الفترة: لم يأتني كتاب. ويقول المعتوه: ربِّ لم تجعل لي عقلًا أعقلُ به خيرًا ولا شرًّا. ويقول المولود: ربِّ لم أُدرك العقل! فيرفعُ لهم نارًا، فيقول: رِدُّوها (2). قال: فيَرِدُّها من كان في علم الله سعيدًا لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان في علم الله شقيًّا لو أدرك العمل. فيقول: إياي عصيتم فكيف لو رسلي أتتكم؟ "(3).

(1) أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(4112)، وصححه الشيخ الألباني بطرقه في "الصحيحة"(2468).

(2)

أي: ادخلوها.

(3)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(16989) وفي "الأوسط"(1646).

ص: 22

تابعه الحسن بن موسى عن فضيل، ورواه أبو نعيم عن فضيل بن مروزق فوقه، فهذا وإن كان فيه عطية؛ فهو ممن يُعْتَبر بحديثه ويُسْتَشْهَدُ به، وإن لم يكن حُجَّة.

وأما الوقف؛ فقد تقدم نظيره من حديث أبي هريرة؛ فهذه الأحاديث يشدُّ بعضُها بعضًا، وتشهدُ لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة، نقله عنهم الأشعري رحمه الله في "المقالات" وغيرها".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"مسألة: ولمس المرأة بشهوة:

ظاهرُ المذهب: أن الرجل متى وقع شيء من بشرته على بشرة أنثى بشهوة انتقض وضوؤه. وإن كان لغير شهوة، مثل أن يقبلها رحمة لها، أو يعالجها وهي مريضة، أو تقع بشرته عليها سهوا وما أشبه ذلك؛ لم ينقض. وعنه: ينقض اللمس مطلقًا، لعموم قوله:(أَوْ لامَستُم النِّسَاءَ) وقراءة حمزة والكسائي: "أو لمستم النساء". وحقيقة الملامسة: التقاء البشرتين، لا سيما اللمس؛ فإنه باليد أغلب، كما قال:

لمست بكفي كـ ـفه أطلب الغنى

ولهذا قال عمر وابن مسعود رضي الله عنها: "القبلة من اللمس وفيها الوضوء".

وقال عبد الله بن عمر: "قبلة الرجل امرأته وجسّها بيده من الملامسة".

ولأنه مس ينقض، فلم تعتبر فيه الشهوة كمس الذكر، ولأن مس النساء في الجملة مظنَّة خروج الخارج، وأسباب الطهارة مما نيط الحكم فيها بالمظان بدليل الإيلاج والنوم ومس الذكر.

وعنه: أن مس النساء لا ينقض بحال، لما روى حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقَبِّلُ بعض نسائه ثم يصلِّي ولا

ص: 23

يتوضأ". رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه (1).

ورواه إبراهيم التيمي عن عائشة؛ أخرجه أبو داود والنسائي.

وقد احتجَّ به أحمد في رواية حنبل، وقد تكلَّم هو وغيره في الطريق الأولى؛ بأن عروة المذكور هو عروة المزني، كذلك قال سفيان الثوري: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني.

وعروة هذا لم يدرك عائشة، وإن كان عروة بن الزبير؛ فإن حبيبًا لم يدركه، قال إسحاق بن راهويه: لا تظنوا أن حبيبًا لقي عروة.

وفي الثاني: بأن إبراهيم التيمي لا يصح سماعه من عائشة.

وجواب هذا: أن عامة ما في الإسناد نوع إرسال، وإذا أرسل الحديث من وجهين مختلفين، اعتضد أحدهما بالآخر، لا سيما وقد رواه البزار بإسناد جيد، عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها مثله".

وقال الحافظ في "الفتح"(1/ 292):

"ويمكن أن يستدل لدخولهما بفعله صلى الله عليه وسلم، ففي الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان في صفة الوضوء: "فغسل يديه إلى المرفقين حتى مسَّ أطراف العضدين" (2)، وفيه عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه"، لكن إسناده ضعيف، وفي البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر في صفة الوضوء: "وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق". وفي الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعًا: "ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه". فهذه الأحاديث يقوِّي بعضها بعضًا".

قال الحافظ: "روى سعيد بن منصور من حديث ابن عمر مرفوعًا: "سفر

(1) أخرجه أبو داود (2382) والترمذي (727) وابن ماجه (811).

(2)

أخرجه الدارقطني في سننه: (1/ 83).

ص: 24