الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني
حديث الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة"(1).
ــ
قال المستدرك:
"وله علل كما يلي:
1 -
الوقف.
2 -
مخالفة الأحاديث الصحيحة.
3 -
الحديث يدور على أبي حاجب، وقد ضعفه بعضهم.
ثم قال: وقال الإمام أحمد: "حديث الحكم قد روي أيضًا غير مرفوع".
* قلت:
أما الحديث السابق فقد ظننتُ معه أن لك خبرة بهذا الفن! ثم لما رأيتُ، تعليقك على هذا الحديث تبيَّن لي غير ذلك، وأيضاً تنقل من كتب وتقول بعدها انتهى، ولا تبين من أين نقلتها، وهذا من قبيل التدليس.
(1) أخرجه الترمذي في سننه: (1/ 92 - 93)، وابن أبي شيبة في مصنفه:(1/ 38)، وفي مسنده أيضًا:(2/ 414)، نحوه.
فقولُكَ -لمَّا أقررتَ أن الذين رووه مرفوعًا: عاصم الأحول، وسليمان التيمي أوثق من الذين وقفوه-:"أن هذا صحيح، إلا أنه اعتراه ما يضعفه، وهو ما يدل على أن الرافعين لم يضبطوا الحديث، للقرائن التي دلَّت على ذلك، وهي العلل المذكورة".
فهذا ليس من أساليب أهل العلم بالحديث أن ترمي بالكلام على عواهنه، وليس لديك إلا التقليد! فلم تذكر في كلامك شيئًا يدل على علمك بصناعة الحديث، بدليل أنك نقلتَ عن ابن حبان أنه قال في أبي حاجب: ربما أخطأ. ثم ادَّعَيْتَ أن هذا مما أخطأ فيه، وهل هذا إلا ضرب من الخرص؟! فأنت لمَّا اعتقدتَ استدللتَ، فما وجه قولك: الحديث يدور على أبي حاجب؟ وأنت تقر بأنه ثقة! وما وجه قولك: مخالفته للأحاديث الصحيحة؟! ومن أين أخذت هذه العلة، أو أنه حلال لكم أن تُعَلِّلوا بغير ما علل به المتقدمون، حرام على غيركم؟! ثم ما هي هذه الأحاديث الصحيحة المخالفة لهذا الحديث؟!
ثم وقعت في خطأ آخر، وقلت: إن الحديث مخالف للآثار! ونقلت عن الإمام أحمد قوله: "إذا خلت به فلا يتوضأ منه، إنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضئا جميعًا".
ثم قلت: وهذا لا يدل على تصحيح حديث الحكم مرفوعًا، فإن الإمام أحمد معروف بالأخذ بأقوال الصحابة.
ثم خطَّأت الإمام أحمد، وقلت:"فإن فهم منها تصحيح المرفوع، وأنه لا يعارض الأحاديث الصحيحة الدالة على الجواز، باعتبار وجود الفرق بين أن يتوضَّئا جميعًا، وبين ما خلت به؛ فإن هذا ليس بصحيح فيما يظهر لي"!
ثم استدللتَ على ذلك بحديث ابن عباس عند مسلم "أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم اغتسل بفضل ميمونة"(1) وهذا مما يؤكد أنك تجمع ولكن لا تحقق، عفا الله عنك.
(1) انظر صحيح الإمام مسلم: (1/ 257).
وكنتَ قد اكتفيتَ بتقليد البيهقي، فقلتَ: أورد البيهقي حديث رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين، وفيه النهي عن الاغتسال بفضل المرأة (1) وقال بعد ذلك:"إلا أنه مرسل جيد، لولا مخالفة الأحاديث الثابتة الموصولة".
وغفلتَ أن جهالة الصحابي لا تضر، وخفيت عليك طريقة البيهقي في رد الأحاديث التي تخالفُ مذهبه، كما حكاه غير واحد من المحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
فاعلم أن الحديث جاء عن ثلاثة من الصحابة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
الأول: قال أبو داود: حدثنا بن بَشَّارٍ ثنا أبو دَاوُدَ -يَعْنِي الطَّيَالِسِيَّ- ثنا شُعْبَةُ عن عَاصِمٍ عن أبي حَاجِبِ عن الْحَكَمِ بن عَمْرٍو -وهو الأَقْرَعُ- أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى أَنْ يَتَوَضَّأ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ"(2)، الحديث رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان في "صحيحه"(4/ 71).
الثاني: قال أبو داود: حدثنا أَحْمَدُ بن يُونُسَ ثنا زُهَيْرٌ عن دَاوُدَ بن عبد اللَّهِ ح وثنا مُسَدَّد ثنا أبو عَوَانَةَ عن دَاوُدَ بن عبد اللَّهِ عن حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ قال: لَقِيتُ رَجُلاً صَحِبَ النبي صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ سِنِينَ كما صَحِبَهُ أبو هُرَيْرَةَ، قال:"نهى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ أو يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ" زَادَ مُسَدَّد: "وَلْيَغْتَرِفَا جميعًا"(3)، ورواه النسائي عن قتيبة عن أبي عوانة.
وزهير هو ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي الكوفي الحافظ أحد الأثبات.
قال معاذ بن معاذ: والله ما كان سفيان أثبت من زهير.
وقال أحمد: كان من معادن الصدق.
(1) انظر سنن البيهقي الكبرى: (1/ 190).
(2)
أخرجه أحمد (4/ 213) و (5/ 66) أبو داود في "سننه"(82)، والترمذي في "جامعه"(64)، والنسائي في "المجتبى"(1/ 179)، وابن ماجه في "سننه"(373).
(3)
أخرجه أبو داود: (1/ 21)، والنسائي في السنن الكبرى:(1/ 117)، وفي (المجتبى):(1/ 130)، وأحمد في مسنده:(4/ 111).
وداود بن عبد الله الأودي وثقَّه أحمد، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال إسحاق بن منصور عن يحيى: ثقة.
كذا ذكر غير واحد من المصنفين رواية عباس عن يحيى في ترجمة داود هذا، والظاهر أن كلام يحيى إنما هو في داود بن يزيد الأودي عم عبد الله بن إدريس، فإنه المشهور بالضعف.
وحميد الحميري هو ابن عبد الرحمن.
قال العجلي: بصري تابعي ثقة، كان ابن سيرين يقول: هو أفقه أهل البصرة.
وحميد الرؤاسي: ثقة ثبت.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: قلَّ من رأيت مثله.
وقال البيهقي في هذا الحديث: "رواته ثقات، إلا أن حميدًا لم يُسَمِّ الصحابىَّ الذي حدَّثه، فهو بمعنى المرسل، إلا أنه مرسل جيد لولا مخالفته الأحاديث الثابتة الموصولة قبله.
وداود بن عبد الله الأودي؛ لم يحتج به الشيخان البخاري ومسلم -رحمهما الله-" انتهى كلامه.
وهذا الحديث ليس بمرسل، وجهالة الصحابي لا تضر.
وقيل: إن هذا الرجل الذي لم يسم: عبد الله بن سرجس.
وقيل: عبد الله بن مغفل.
وقيل: الحكم بن عمرو الغفاري.
وقد تكلم على هذا الحديث ابن حزم بكلام أخطأ فيه، ورد عليه ابن مفوز وابن القطان وغيرهما. وقد كتب الحميدي إلى ابن حزم من العراق يخبره بصحة هذا الحديث (1).
(1) انظر تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (1/ 34).
وقال الحافظ ابن حجر (1): "رجاله ثقات، ولم أقف لمن أعلَّه على حجة قوية، ودعوى البيهقي أنه في معنى المرسل؛ مردودة، لأن إبهام الصحابي لا يضر، وقد صرح التابعي بأنه لقيه، ودعوى ابن حزم أن داود راويه عن حميد بن عبد الرحمن هو ابن يزيد الأودي وهو ضعيف؛ مردودة، فإنه ابن عبد الله الأودي وهو ثقة، وقد صرح باسم أبيه أبو داود وغيره" انتهى.
وقال الحافظ في "بلوغ المرام": إسناده صحيح.
الحديث الثالث: قال الدارقطني في "سننه"(1/ 116): حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد المقري قال: حدثنا أبو حاتم الرازي قال: حدثنا معلى بن أسد قال: حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان جميعًا". ورواه ابن ماجه (1/ 133).
وقال الدارقطني: هو وهم -يعني أن الصواب حديث الحكم بن عمرو-.
ورواه الدارقطني وقال: خالفه شعبة فرواه من رواية شعبة عن عاصم عن عبد الله بن سرجس قال: "تتوضأ المرأة وتغتسل من فضل غسل الرجل وطهوره، ولا يتوضأ الرجل بفضل غسل المرأة، ولا طهورها".
قال: هذا موقوف، وهو أولى.
وقال البيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 192): "وبلغني عن أبي عيسى الترمذي عن محمد بن إسماعيل البخاري أنه قال: حديث عبد الله بن سرجس في هذا الباب الصحيح هو موقوف، ومن رفعه فهو خطأ".
أما الآثار:
فقد روى عبد الرزاق عن معمر عن عاصم بن سليمان سمعت عبد الله بن
(1) فتح الباري (1/ 300).
سرجس قال: "لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد، فإذا خلت به فلا تقربه"(1).
وروى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "لا بأس بالوضوء من فضل شراب المرأة وفضل وضوئها، ما لم تكن جنبًا أو حائضًا، فإذا خلت به فلا تقربه"(2).
وطريقة الإمام أحمد: ما ذكره عنه ابنه عبد الله: قال: "قلت لأبي: إذا لم يكن عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء مشروع يخبر فيه عن خصوص أو عموم؟
قال أبي: ينظر ما عمل به الصحابة، فيكون ذلك معنى الآية، فإن اختلفوا ينظر أي القولين أشبه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يكون العمل عليه" (3).
فأنتَ ترى أن هذا الكلام يؤكد ما نقلتَ عن أحمد -أعني قوله: "إذا خلت به فلا يتوضَّئا منه، إنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضئا جميعًا"- أنه يعتمد على الحديث، ففتوى ابن عمر وابن سرجس هي الموافقة عنده للحديث، بخلاف فتوى ابن عباس؛ على تفصيل يأتي في الحديث القادم.
وفتاوى الصحابة رضي الله عنه دليل على أن الحديث معروف عندهم، وهم الأولى بوصف المتقدِّمين، فكل حديث لم ينقل عنهم الفتوى بمقتضاه فلا ينبغي أن يُعَدَّ حديثًا.
وأما استدلالك بحديث ابن عباس رضي الله عنه عند مسلم، وقد رواه الإمام أحمد في "مسنده"؛ فهل تظنه خفي على الإمام أحمد؟
ولكن فيه علة لم تعلمها؛ قال الحافظ ابن حجر: "وأما حديث ميمونة؛ فأخرجه مسلم، لكن أعله قوم لتردد وقع في رواية عمرو بن دينار حيث قال:
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (1/ 107) رقم (385).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (1/ 108) رقم (386).
(3)
مسائل أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله: (ص 443).
علمي والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني. فذكر الحديث وقد ورد من طريق أخرى بلا تردد، لكن راويها غير ضابط، وقد خولف، والمحفوظ ما أخرجه الشيخان بلفظ:"أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد"(1).
قلت: قال مسلم: وحدثنا قُتَيْبَةُ بن سَعِيدٍ وأبو بَكْرِ بن أبي شَيْبَةَ جميعًا عن بن عيينة: قال قُتَيْبَةُ حدثنا سُفْيَانُ عن عَمْرٍو عن أبي الشَّعْثَاءِ عن ابن عَبَّاسٍ قال: "أَخْبَرَتْنِي مَيْمُونَةُ أنها كانت تَغْتَسِلُ هِيَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في إِنَاءٍ وَاحِدٍ".
ثم قال: وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وَمُحَمَّدُ بن حَاتِمِ قال إسحاق: أخبرنا وقال ابن حَاتِمِ: حدثنا محمد بن بَكْرٍ أخبرنا ابن جُرَيْجٍ أخَبرني عَمْرُو بن دِينَارٍ قال: "أَكْبَرُ عِلمِي وَالَّذِي يَخْطِرُ على بَالِي أَنَّ أَبَا الشَّعْثَاءِ أخبرني: أَنَّ ابن عَبَّاسِ أخبره: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ" (2).
وتأخير مسلم لرواية ابن جريج قد يشير إلى ما نقلته عن الحافظ من أنها معلولة، ويأتي مزيد بحث في الحديث القادم إن شاء الله.
والمقصود: أن استدراك الدكتور الخليل لم يكن على طريقة المتقدِّمين ولا المتأخرين! لا من حيث الصناعة، ولا من حيث الفقه، فإن حديث ابن عمر في البخاري وغيره:"كان الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يتوضَّؤون في زَمَان رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جميعًا"(3) لا يتعارض مع حديث الحكم والذي بعده وآثار الصحابة، فإنهم قيَّدوه فيما إذا خلت به، كيف وابن عمر هو راوي الحديث؟ والله ولي التوفيق.
* * *
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: (1/ 101)، وانظر "فتح الباري لابن حجر:(1/ 300).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه: (1/ 257)، وابن خزيمة في صحيحه:(1/ 57)، وأخرجه أحمد في مسنده:(1/ 366).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه: (1/ 82)، وابن خزيمة في صحيحه:(1/ 102)، والنسائي في السنن الكبرى:(1/ 78)، وأبو داود في سننه:(1/ 20).