الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع عشر
حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من غسَّل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ".
ــ
قال المستدرك:
"الحديث ضعيف مرفوعًا، ولا يصح في هذا الباب حديث، كما قاله الإمام أحمد وعلي بن المديني، وغيرهما من الحفَّاظ".
* قلت:
قال ابن الملقّن في " البدر المنير": (2/ 524 - 536):
"هذا الحديث له طرق كثيرة يدور -فيما حصرنا منها- على ستة من الصحابة: أبي هريرة، وعائشة، وعلي، وأبي سعيد الخدري، وحذيفة بن اليمان: والمغيرة رضي الله عنهم.
أما حديث أبي هريرة؛ فيحضرنا من طرقه ثلاثة عشر طريقًا:
الأول: عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه مرفوعًا: "من غسله الغسل، ومن حمله الوضوء -يعني الميت-"، رواه الترمذي (1)، واللفظ له، وابن
(1) في "الجامع"(993).
ماجه (1)، ولفظه كلفظ الرافعي سواء، روياه من حديث عبد العزيز بن المختار عن سهيل به.
الثاني: عن سهيل أيضاً عن أبيه، عن إسحاق مولى زائدة، عن أبي هريرة مرفوعًا بمعناه. رواه أبو داود (2) عن حامد بن يحيى عن سفيان عن سهيل به.
الثالث: عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة مرفوعًا:"من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ"، رواه أحمد في "مسنده"(3)، والبيهقي في "سننه"(4).
الرابع: عن عمرو بن عمير عن أبى هريرة مرفوعًا: "من غسل الميت فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ"، رواه أبو داود (5) من حديث ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن عمرو به.
الخامس: عن زهير عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، بمثل الذي قبله، رواه البيهقي في "سننه".
السادس: عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه مرفوعاً: "من غسل جنازة -يعني ميتًا- فليغتسل، ومن حملها فليتوضأ"، رواه البزار في "مسنده".
السابع: عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة مرفوعًا: "من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ"، رواه البزار أيضاً.
الثامن: عن يحيى بن أبي كثير عن رجل يقال له أبو إسحاق عن أبي هريرة مرفوعًا: "من غسل ميتًا فليغتسل"، رواه أحمد في "مسنده"(6).
(1) في "سننه"(1463).
(2)
في "سننه"(3154).
(3)
(2/ 433، 472).
(4)
(1/ 303).
(5)
في "سننه"(3155).
(6)
"المسند"(2/ 280)، وعبد الرزاق في مصنفه:(3/ 407).
التاسع: عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا مثل الذي قبله، رواه ابن حزم في "محلاه" هكذا، وابن الجوزي في "علله"، من حديث محمد بن شجاع عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا:"من غسل ميتًا فليغتسل".
العاشر: عن أبي بحر البكراوي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً بنحو مما قبله، رواه البزار عن يحيى بن حكيم به.
الحادي عشر: عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من غسل الميت الغسل، ومن حمله الوضوء"، رواه البيهقي وفي رواية له:"من غسل ميتِّا فليغتسل"(1)، لم يزد.
الثاني عشر: عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي هريرة مرفوعِّا: "من غسل ميتًا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ".
الثالث عشر: عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ذكر هذا الطريق والذي قبله الشيخ تقي الدين القشيري في كتاب "الإمام".
هذا مجموع ما حصرنا من طريق حديث أبي هريرة.
ولنذكر أولاً مقالات الحفاظ فيه، ثم نبيِّن بعد ذلك ما يقتضيه النظر والبحث على وجه الإنصاف، فنقول:
ذكر البيهقي في "سننه" جميع ما عزيناه مما قدمناه عنه، وضعفه، ثم قال: والصحيح فيه أنه موقوف على أبي هريرة. وقال البخاري: الأشبه أنه موقوف، قال: وقال أحمد وعلي بن المديني: لا يصح في هذا الباب شيء. قال: وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول -وقد سئل عن الغسل من غسل الميت- فقال: يجزئه الوضوء.
(1) انظر: "سنن البيهقي الكبرى"(1/ 305).
قال البيهقي: وقال الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث؟ فقال: إن أحمد وعلي بن المديني قالا: لم يصح في هذا الباب شيء، ليس بذاك.
وقال الشافعي: إنما منعني من إيجاب الغسل من غسل الميت أن في إسناده رجلاً لم أقف على معرفة ثبت حديثه إلى يومي هذا على ما يقتضي، فإن وجدت ما يقنعني أوجبته، وأوجبت الوضوء من مس الميت مفضيًا إليه، فإنهما في حديث واحد.
قال البيهقي: وقال محمد بن يحيى -يعني الذهلي- شيخ البخاري: لا أعلم فيمن غسل ميتًا فليغتسل حديثًا ثابتًا، ولو ثبت لزمنا استعماله.
قال البيهقي: والروايات المرفوعة في هذا الباب غير قوية لجهالة بعض رواتها وضعف بعضهم، والصحيح من قوله موقوفًا غير مرفوع.
وقال ابن أبي حاتم في "علله"(1): سألت أبي عن رفعه؟ فقال: خطأ، لا يرفعه الثقات، إنما هو موقوف على أبي هريرة.
قال: وسألته عن الرجل -يعني الذي في الطريق الثامن- من هو، وهل يسمى؟ فقال: لا.
ونقل أصحابنا عن الشافعي أنه قال في البويطي: إن صح الحديث قلت بوجوبه.
وقال الدارقطني في "علله"(2): هذا حديث يرويه ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة، واختلف عنه فرواه حبان بن علي عن ابن أبي ذئب به، وخالفه يحيى القطان ويحيى بن أيوب والدراوردي وحجاج بن محمد وعبد الصمد بن النعمان وابن أبي فديك؛ رووه عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة.
(1) رقم (1035).
(2)
(10/ 378).
قال: وأغرب ابن أبي فديك فيه بإسنادين آخرين: أحدهما: عن ابن أبي ذئب عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، والآخر: عن ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن عمرو بن عمير عن أبي هريرة.
قال: وحديث المقبري أصح.
وقال الحاكم في "مستدركه" في آخر الجنائز (1): هذا الحديث مختلف فيه على محمد بن عمرو، وهو مرفوض.
وقال ابن الجوزي في "علله"(2): هذا حديث لا يصح، لأن المحفوظ في الطريق الأول وقفه على أبي هريرة، وفي الطريق الثاني صالح مولى التوأمة، قال مالك: ليس بثقة، وكان شعبة ينهى أن يؤخذ عنه، ولا يروي عنه. وفي الثالث -وهو فيما قدمناه التاسع- محمد بن عمرو، قال يحيى: ما زال الناس يتَّقون حديثه. وفي الرابع -وهو فيما قدمناه الثامن- رجل مجهول.
قال: وقد رواه ابن لهيعة من حديث صفوان عن أبي سلمة، وابن لهيعة ليس بشيء.
وقال الرافعي في "شرح مسند الشافعي": علماء الحديث لم يصححوا في هذا الباب شيئًا مرفوعًا، وصحَّحوه عن أبي هريرة موقوفًا، وقال في هذا الكتاب -أعني شرح الوجيز-: والحديث إن ثبت محمول على الاستحباب.
ونقل النووى عن الجمهور تضعيف هذا الحديث، وأنكر على الترمذي تحسينه.
هذا ما حضرنا من كلام الحفاظ قديمًا، وحديثًا عليه، وحاصله: تضعيف رفعه وتصحيح وقفه، ولا بد من النظر في ذلك على سبيل التفصيل دون الاكتفاء بالتقليد، وقد قام بذلك صاحب "الإمام"، وحاصل ما يُعَلُّ به في ذلك وجهان:
(1)(1/ 386).
(2)
"العلل المتناهية"(1/ 374 - 375).
أحدهما: من جهة رجال الإسناد، فأما رواية صالح مولى التوأمة -وهي الطريق الثالث- فقد سلف قول مالك وشعبة فيه، وقال البيهقي في "المعرفة":(1) اختلط في آخر عمره، فخرج عن حد الاحتجاج به.
وأما رواية عمرو بن عمير -وهي الطريق الرابع- فقال البيهقي فيه: إنما يعرف بهذا الحديث، وليس بالمشهور. وقال ابن القطان: إنه مجهول الحال لا يعرف بغير هذا، وهذا الحديث من غير مزيد ذكره ابن أبي حاتم، قال ابن القطان: وهذا علة الخبر.
وأما زهير المذكور في الطريق الخامس، فقال البيهقي: قال البخاري: روى عنه أهل الشام أحاديث مناكير. وقال النسائي: ليس بالقوي.
وأما حديث العلاء -وهو السادس،- فقال ابن القطان: ليس بمعروف.
وأما السابع؛ ففي إسناده أبو واقد، واسمه صالح بن محمد بن زائدة. قال يحيى بن معين: ليس حديثه بذاك. وقال الدارقطني، وجماعة: ضعيف. وقال البخاري: منكر الحديث.
وأما الثامن؛ ففيه أبو إسحاق، وهو مجهول -كما سلف عن أبي حاتم الرازي-
وأما التاسع؛ فمحمد بن عمرو قال يحيى: ما زال الناس يتَّقون حديثه.
وأما العاشر: فالبكراوي وهو عبد الرحمن بن عثمان طرح الناس حديثه كما قاله أحمد، وقال علي بن المديني: ذهب حديثه.
وقال أبو حاتم: ليس بقوي يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال يحيى والنسائي: ضعيف. وقال ابن حبان: يروي المقلوبات عن الأثبات لا يجوز الاحتجاج به.
(1)"معرفة السنن والآثار"(1/ 359).
وأما الحادي عشر: فقال البيهقي: في إسناده ابن لهيعة حنين بن أبي حكيم؛ ولا يحتج بهما.
الوجه الثاني: التعليل؛ فأما رواية سهيل فقد قال الترمذي: إنه روي موقوفًا. وأيضًا فقد رواه سفيان عن سهيل عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة -كما سلف- فأدخل رجلاً بين أبي صالح وأبي هريرة وهذا اختلاف.
قال البيهقي في "المعرفة": وإنما لم يقو عندي أنه يروى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ويدخل بعض الحفاظ بين أبي صالح وأبي هريرة إسحاق مولى زائدة، قال: فيدل على أن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة، وليست معرفتي بإسحاق مولى زائدة مثل معرفتي بأبي صالح ولعله أن يكون ثقة.
وأما رواية ابن أبي ذئب فقد أسلفنا روايتنا له عن صالح عن أبي هريرة وعن القاسم بن عباس عن عمرو بن عمير عن أبي هريرة.
وقال البيهقي عقب رواية ابن أبي ذئب: وصالح مولى التوأمة ليس بالقوي.
وأما رواية محمد بن عمرو؛ فقد رواها عبد الوهاب عنه موقوفة على أبي هريرة، ورجَّحه بعضهم على الرفع، قال البيهقي: وهو الصحيح كما أشار إليه البخاري.
ورواه معتمر أيضًا عن محمد فوقفه، وقد أسلفنا عن أبي حاتم أن الرفع خطأ.
ثم شرع الشيخ تقي الدين يجيب عن ذلك، فقال: لقائل أن يقول: أما الكلام على صالح مولى التوأمة، فهو وإن كان مالك قال فيه: إنه ليس بثقة -كما قدمناه- واستضعفه غيره؛ فقد قال يحيى فيه: إنه ثقة حُجَّة.
قيل له: إن مالكًا ترك السماع منه، فقال: إن مالكًا إنما أدركه بعد أن
خرف، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف. وقال السعدي: تغير جدًّا. وحديث ابن أبي ذئب مقبول منه لقدم سماعه.
قال الشيخ: فهذا يقتضي أن كلام مالك فيه بعد تغيره، وأن رواية ابن أبي ذئب قديمة مقبولة، وهذا الحديث من رواية ابن أبي ذئب عنه.
قال: وبهذا يحصل الجواب عن قول البيهقي فيه إنه اختلط في آخر عمره، فخرج عن حد الاحتجاج به، لأنه قد تبين بشهادة من تقدم بقدم سماع ابن أبي ذئب وأنه مقبول.
* قلت:
وبه يجاب أيضاً عن إعلال ابن الجوزي الحديث به، كما أسلفناه عنه.
قال الشيخ: وأما رواية سهيل عن أبيه عن أبي هريرة؛ فسندها عند الترمذي من شرط الصحيح، وقال فيها الترمذي إنه حديث حسن. وعبد العزيز بن المختار وأبو صالح متفق عليهما، ومحمد بن عبد الملك، وسهيل أخرج لهما مسلم.
وقال الشيخ في "الإلمام" أيضًا: رجاله رجال مسلم، وقد أخرجها ابن حبان في "صحيحه" من حديث إبراهيم بن الحجاج الشامي، حدثنا حماد بن سلمة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا:"من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ"(1)، وفي هذه الرواية فائدة أخرى وهي متابعة حمادٍ عبد العزيز.
وأما رواية سفيان وإدخال إسحاق بين أبي صالح وأبي هريرة؛ فكما قال الشافعي: يدل على أن أبا صالح لم يسمعه من أبي هريرة، ولكن إسحاق مولى زائدة موثق أخرج له مسلم، وقال يحيى: ثقة. وإذا كان ثقة فكيفما كان الحديث عنه أو عن أبي صالح عن أبي هريرة لم يخرج عن ثقة.
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه: (3/ 435) رقم (1161).
* قلت:
وقول الشافعي السالف إن في إسناده رجلاً لم أقف على معرفة ثبت حديثه إلى يومي على ما يقنعني.
الظاهر أنه أراد إسحاق هذا، وقد وضح لك ثقته، وقد قال فيه مرة أخرى: لعله أن يكون ثقة -كما أسلفناه عنه-.
وأما طريق أبي داود الذي زيد فيه إسحاق، فلا أرى له علة لصحة إسناده واتصاله. حامد بن يحيى المذكور في أول إسناده مشهور، قال أبو حاتم: صدوق. وذكر جعفر الفريابي أنه سأل علي بن المديني عنه، فقال: يا سبحان الله! أبقي حامد إلى أن يحتاج يسأل عنه. وذكره ابن حبان في "ثقاته"، وقال: كان أعلم زمانه.
ومَنْ بعده مخرج له في الصحيح، وقد جنح ابن حزم الظاهري إلى تصحيحه فإنه احتج به في المسألة، وقال إسحاق: مولى زائدة ثقة مدني، وثَّقه أحمد بن صالح الكوفي وغيره.
وأما زهير؛ فقد أخرج له الشيخان في صحيحيهما، وباقي الكتب الستة، وقال يحيى: ثقة، وقال أحمد مقارب الحديث، وقال مرة: ليس به بأس، وقال ابن المديني: لا بأس به، وقال العجلي: جائز الحديث، وقال أبو حاتم: محله الصدق، في حفظه سوء. وقال: حديثه بالشام أنكر من حديثه بالعراق لسوء حفظه، وما حدث به من حفظه، فهو أغاليط.
* قلت:
وهذا الحديث من رواية أهل الشام عنه التي قال البخاري فيها ما سلف، لكن روى البخاري أيضًا عن أحمد أنه قال: كأنَّ زهيرًا الذي روى عنه أهل الشام زهير آخر.
وأما رواية محمد بن عمرو؛ فقد احتج بها ابن حزم حيث رواها من جهة حماد بن سلمة، ومحمد بن عمرو روى عنه مالك في "الموطأ"، واستشهد به البخاري، وتابع به مسلم، وقد رفع هذا الحديث حماد، وتابعه أبو بحر، وفي قول أبي حاتم: يكتب حديثه، ما يقتضي أن يجعل تأكيدًا في رفعه، ورواية الوقف لم يعتبرها ابن حزم تقديمًا للرفع عليها، وقال علي بن المديني: كان يحيى بن سعيد حسن الرأي في أبي بحر.
وأما ابن لهيعة؛ فقد سلفت ترجمته فيما مضى، وأما حنين بن أبي حكيم؛ فقد وثقه ابن حبان.
وأما الاختلاف على ابن أبي ذئب؛ فقد يقال إنهما إسنادان مختلفان لابن أبي ذئب، لا يعلل أحدهما بالآخر لاختلاف رجالهما.
وأما قول ابن القطان في حديث العلاء: إنه ليس بمعروف، إن أراد: أنه لا يعرف مخرجه؛ فليس كذلك، فقد خرجه البزار كما أسلفناه، وإن أراد: مع معرفة طريقه أنه غير مشهور؛ فلا يناسبه ذلك، وإنما يناسبه النظر في رجال إسناده.
وأما أبو واقد؛ فقد قال أحمد فيه: ما أرى به بأسًا. فلعل ذلك يقتضي أن يتابع بروايته، وأما جهالة بعض رواته فلا يقدح فيما صح منهما، فقد ظهر صحة بعض طرقه، وحسن بعضها، ومتابعة الباقي لها، فلا يخفى إذًا ما في إطلاق الضعف عليها، وإن الأصح الوقف، وقد علم أيضاً ما يعمل عند اجتماع الرفع والوقف، وشهرة الخلاف فيه، وقد نقل الإمام أبو الحسن الماوردي من أئمة أصحابنا في "حاويه" عن بعض أصحاب الحديث أنه خرج لصحة هذا الحديث مئة وعشرين طريقًا، فأقل أحواله إذًا أن يكون حسنًا" انتهى من "البدر المنير".
قال شيخ الإسلام بعد أن ساق الحديث برواياته: "وعن عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يغتسل من أربع: من الجمعة والجنابة، والحجامة، وغسل الميت" (1)، رواه أحمد وأبو داود ولفظه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل"، وهو على شرط مسلم، وتضعيف الإمام أحمد وغيره لبعض هذه الأحاديث، إما لأنه لم يبلغهم حين التضعيف إلا من وجوه ضعيفه، أو بناء على قاعدة الحديث دون ما يحتج به الفقهاء"(2).
* قلت:
ولا ريب أن الحديث له أصلاً، وأنه معروف عند الصحابة، لكن الاختلاف بينهم هو في الوجوب، أو الاستحباب؛ بدليل ورواه مالك في "الموطأ" قال:"وحدثنى عن مَالِكٍ عن عبد الله بن أبِي بَكْرٍ: "أَنَّ أَسْمَاءَ بنت عُمَيْسٍ غَسَّلَتْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حين توفي ثُمَّ خَرَجَتْ فَسَأَلَتْ من حَضَرَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فقالت: إنِّي صَائِمَة، وإن هذا يَوْمٌ شَدِيدُ الْبَرْدِ، فَهَلْ عَلَيَّ من غُسْلٍ؟ فَقَالُوا: لا" (3).
قال الحافظ ابن حجر: "إَنَّ الأَمْرَ فيه لِلنَّدْب، لما رَوَى الْخَطِيبُ في تَرْجَمَةِ محَمَّدِ بن عبد اللَّهِ الْمَخْرَمِيِّ من طريق عبد اللًّهِ بن أَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ قال: قال لي أبي: كَتَبْتُ حَدِيثَ عُبَيْدِ اللَّهِ عن نَافِعِ عن ابن عُمَرَ: "كنا نُغَسِّلُ الْمَيّتَ فَمِنَّا من يَغْتَسِلُ، وَمِنَّا من لا يَغْتَسِلُ". قال: قُلْت: لا. قال: في ذلك الْجَانِبِ شَابٌّ، يُقَالُ له محمد بن عبد اللَّهِ يحدث بِهِ عن أبي هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ عن وُهَيْبٍ، فَاكْتُبْهُ عنه".
(1) أخرجه أحمد في المسند: (6/ 152)، وابن خزيمة في صحيحه:(1/ 126)، وأبو داود في سننه:(3/ 201)، وأخرجه الدارقطني في سننه:(1/ 113)، وابن أبي شيبة في مصنفه:(1/ 433).
(2)
انظر: "شرح العمدة"(1/ 363).
(3)
أخرجه مالك في الموطأ: (1/ 223).
* قُلت: وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ، وهو أَحْسَنُ ما جَمَعَ بِهِ بين مُخْتَلِفِ هذه الأَحَادِيثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" (1).
وقال: "وفي الْجُمْلَةِ؛ هو بِكَثْرَةِ طُرُقِهِ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا"(2).
وانظر آثار الصحابة في مصنفي ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق وغيرهما.
وقال الحافظ:
"قال الذهبى في" مُختَصَرِ البَيهَقِيّ": طُرُقُ هذا الحديث أَقْوَى من عِدَّةِ أَحَادِيثَ احْتَجَّ بها الْفُقَهَاءُ ولم يُعِلُّوهَا بِالْوَقْفِ، بَلْ قَدَّمُوا رِوَايَةَ الرَّفْعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ"(3).
ومن هنا تعلم: أن العالم كلما كان أوسع علمًا، كان أقدر على الحكم وأبعد عن التردد، ومن عرف أبا عبد الرحمن من قرب لا يشك أنه من هذا الطراز رحمه الله.
(1) انظر: التلخيص الحبير: (1/ 138).
(2)
انظر: التلخيص الحبير: (1/ 137).
(3)
انظر: التلخيص الحبير: (1/ 137).