الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علم الحديث مبناه على الاجتهاد لا على التقليد
قال شيخ الإسلام عليه رحمة الله:
"وأهل العلم المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الناس قيامًا بهذه الأصول، لا تأخذ أحدهم في الله لومة لائم، ولا يصدهم عن سبيل الله العظائم، بل يتكلم أحدهم بالحق الذي عليه ويتكلم في أحب الناس إليه، عملًا بقوله تعالى: (* {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} [النساء: 135] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] ولهم من التعديل، والتجريح، والتضعيف، والتصحيح من السعي المشكور، والعمل المبرور ما كان من أسباب حفظ الدين وصيانته عن إحداث المفترين، وهم في ذلك على درجات: منهم المقتصر على مجرد النقل والرواية، ومنهم أهل المعرفة بالحديث والدراية، ومنهم أهل الفقه فيه والمعرفة بمعانيه"(1).
وقد أخرج البخاري أحاديث اعتقد صحتها تركها مسلم لما اعتقد فيها غير ذلك، وأخرج مسلم أحاديث اعتقد صحتها تركها البخاري، لما اعتقد فيها غير معتقده، وهو يدل على أن الأمر طريقه الاجتهاد لمن كان من أهل العلم بهذا الشأن، وقليل ما هم.
(1) انظر مجموع الفتاوى: (1/ 10).
قال شيخ الإسلام رحمه الله:
"وكذلك التصحيح؛ لم يقلد أئمة الحديث فيه البخاري ومسلمًا؛ بل جمهور ما صححاه كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحًا متلقًّى بالقبول، وكذلك في عصرهما، وكذلك بعدهما، قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما، ووافقوهما على تصحيح ما صححاه إلا مواضع يسيرة، نحو عشرين حديثًا، غالبها في مسلم، انتقدها عليهما طائفة من الحفاظ، وهذه المواد المنتقدة غالبها في مسلم، وقد انتصر طائفة لهما فيها، وطائف قررت قول المنتقدة.
والصحيح: التفصيل، فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب، مثل حديث أم حبيبة، وحديث خلق الله التربة يوم السبت، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر، وفيها مواضع لا انتقاد فيها في البخاري، فإنه أبعد الكتابين عن الانتقاد، ولا يكاد يروي لفظًا فيه انتقاد إلا ويروي اللفظ الآخر الذي يبين أنه منتقد فما في كتابه لفظ منتقد، إلا وفي كتابه ما يبين أنه منتقد.
وفي الجملة: من نقد سبعة آلاف درهم فلم يرج عليه فيها إلا دراهم يسيرة، ومع هذا؛ فهي مغيرة ليست مغشوشة محضة، فهذا إمام في صنعته، والكتابان سبعة آلاف حديث وكسر.
والمقصود: أن أحاديثهما انتقدها الأئمة الجهابذة قبلهم وبعدهم، ورواها خلائق لا يحيى عددهم إلا الله، فلم ينفردا لا برواية، ولا بتصحيح، والله سبحانه وتعالى هو الكفيل بحفظ هذا الدين، كما قال تعالى:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهٌ لَحافِظُونَ)[الحجر: 9] " (1).
وقال الزركشي رحمه الله:
"وأصحاب الصحيح: إذا رووا لمن تكلم فيه، وضُعِّفَ؛ فإنهم يثبَّتون من حديثه ما لم ينفرد به؛ بل وافق فيه الثقات، وقامت شواهد صدقه.
(1) انظر منهاج السنة النبوية: (7/ 215).
قال: وفي هذا الموضع يعرض الغلط لطائفتين من الناس:
إحداهما: يرون الرجل قد أخرج له في الصحيح فيحكمون بصحة كل ما رواه، حيث رأوه في حديث قالوا: هذا حديث صحيح على شرط الصحيح! وهو غلط؛ فإن ذلك الحديث قد يكون مما أُنْكِرَ عليه من حديثه، أو يكون شاذًّا أو معلَّلاً، فلا يكون من شرط أصحاب الصحيح، بل ولا يكون حسنًا، وقد أخرج البخاري حديث جماعة ونكب على بعضها خارج الصحيح.
والثانية: يرون الرجل قد تُكُلِّمَ فيه وقد ضعِّفَ، فيجعلون ما قيل فيه من كلام الحفاظ موجبًا لترك جميع ما رواه، ويضعفون ما صح من حديثه لطعن من طعن فيه، كما يقول ابن حزم ذلك في إسرائيل وغيره من الثقات، وكذلك أين الأئمة وذوقهم؟ انتهى.
ويلتحق بذلك أمر ثالث: وهو أنهم يرون الرجل ترك الشيخان حديثه فيجعلون ذلك قدحًا فيه، وهذا ظاهر تصرف البيهقي في كتابه "السنن" و"المعرفة"؛ كثيراً ما يُعَلِّل الأحاديثَ بأن رواتَها لم يخرج لهم الشيخان!
والحقُّ: أنه لا يدل على ذلك كما لا يدل تركهما ما لم يخرجا من الأحاديث الصحيحة على ضعفها، وبه صرح الإسماعيلي في المدخل، وقال: تركه الرواية عن حماد بن سلمة ونحوه كتركه كثيراً من الأحاديث الصحيحة على شرطه، لا لضعفها وإسقاطها.
وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه المدخل أيضًا: وعلى مصنفاتهم في العلل وسؤالاتهم يعتمد في الجرح والتعديل، لا على كتاب بنوا فيه على أصل وشرطوا لأنفسهم فيه شروطًا، انتهى" (1).
* * *
(1) انظر: "النكت على مقدمة ابن الصلاح" للزركشي (3/ 353).