الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"حَدِيثُ: أنه صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ يَجْلِدَ رَجُلاً، فأتي بِسَوْطٍ خَلقٍ فقال: فَوقَ هذا. فأتي بِسَوْطٍ جَدِيدٍ، فقال: بين هَذَيْنِ لم أَرَهُ هذا في الشَّارِبِ نعم"(1)، هو بهذا اللَّفْظِ عن عُمَرَ وَسَيَأتِي، وَوَقَعَ نَحْوُهُ مَرْفُوعًا في قِصَّةِ حَدِّ الزَّانِي، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" عن زَيْدِ بن أَسْلَمَ:"أَنَّ رَجُلاً اعْتَرَفَ على نَفْسِهِ بِالزِّنَا، فَدَعَا له رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ، فقال: فَوْقَ هذا. فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ، فقال: بين هَذَيْنِ. فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قد رُكِبَ بِهِ، وَلانَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَجُلِدَ بِهِ"(2)، وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ عبد الرَّزَّاقِ: عن مَعْمَرٍ عن يحيى بن أبي كَثِيرٍ نَحْوُهُ، وَآخَرُ عن ابن وَهْبِ من طَرِيقِ كُرَيْب مولى ابن عَبَّاسِ بمَعْنَاهُ، فَهَذِهِ الْمَرَاسِيلُ الثَّلاثَةُ يَشُدُّ بَعْضهَا بَعْضًا" (3).
-
تقوية الحديث بالأثر:
قال الشافعي رحمه الله: "البدعة بدعتان: بدعة خالفت كتابًا، أو سنة، أو إجماعًا، أو أثرًا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه بدعة ضلالة، وبدعة لم تخالف شيئًا من ذلك، فهذه قد تكون حسنة، لقول عمر: نعمت البدعة هذه"(4).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:
"فقال: فهل تقوم بالحديث المنقطع حجة على من علمه وهل يختلف المنقطع أو هو وغيره سواء؟
قال الشافعي: فقلت له: المنقطع مختلف.
(1) انظر البدر المنير: (8/ 719).
(2)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى": (8/ 326)، وأخرجه أيضًا البيهقي في "السنن الصغرى" (نسخة الأعظمي):(7/ 399)، وأخرجه مالك في الموطأ:(2/ 825).
(3)
انظر التلخيص الحبير: (4/ 77).
(4)
انظر درء التعارض: (1/ 249).
فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من التابعين فحدَّث حديثًا منقطعًا عن النبي- صلى الله عليه وسلم؛ اعتبر عليه بأمور: منها: أن ينظُرَ إلى ما أرسل من الحديث، فإن شرِكَهُ فيه الحفَّاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما روى؛ كانت هذه دلالة على صحة من قبل عنه وحفظه.
وإنِ انفردَ بإرسال حديث لم يشركه فيه من يسنده؛ قُبِل ما يفرد به من ذلك، ويعتبر عليه بأن ينظر: هل يوافقه مرسل غيره ممن قبل العلم عنه من غير رجاله الذين قبل عنهم؟
فإِنْ وُجِدَ ذلك؛ كانت دلالة يقوي له مرسله، وهي أضعف من الأولى.
وإن لم يوجد ذلك؛ نظر إلى بعض ما يٌروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً له، فإن وُجِدَ يوافقُ ما رُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله" (1).
وقال الخطيب البغدادي رحمه الله:
"وقد كان أحمد بن حنبل يختار الأحاديث الموقوفات عن الصحابة على المرسلات عن النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك حُدِّثْتُ عن عبد العزيز بن جعفر قال: أنا أبو بكر الخلال قال: أخبرني محمد بن موسى أن إسحاق بن إبراهيم حدثهم قال: قلتُ لأبي عبد الله: حديث مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم برجال ثبت؛ أحبُّ إليك، أو حديث عن بعض الصحابة والتابعين متَّصِل برجال ثبت؟
قال أبو عبد الله: عن الصحابة أعجب إليَّ" (2).
قال الحافظ ابن عبد البر عند كلامه على أسانيد حديث: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته":
"اختلف العلماء في هذا الإسناد؛ فقال محمد بن عيسى الترمذي: سألتُ
(1) انظر الرسالة: (ص 461).
(2)
انظر الكفاية في علم الرواية: (1/ 393).
البخاريَّ عنه، فقال: حديث صحيح، فقلت له: إن هشيمًا يقول فيه: المغيرة بن أبي برزة.
فقال: وهم فيه، إنما هو المغيرة بن بردة.
وهشيم إنما وهم في الإسناد، وهو في المقطعات أحفظ.
وقال غير البخاري: سعيد بن سلمة رجل مجهول، لم يرو عنه غير صفوان ابن سليم وحده.
قال: ولم يرو عن المغيرة بن أبي بردة غير سعيد بن سلمة.
قال أبو عمر: قد روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري رواه عنه سفيان بن عيينة وغيره.
ذكر ابن أبي عمرو الحميدي والمخزومي عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن رجل من أهل المغرب يقال له المغيرة بن أبي عبد الله بن أبي بردة: أن ناسًا من بني مدلج أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله؛ إنا نركب البحر. وساق الحديث بمعنى حديث مالك قد ذكرناه في "التمهيد"، وهو مرسل لا يصح فيه الاتصال، ويحيى بن سعيد أحفظ من صفوان بن سليم وأثبت من سعيد بن سلمة.
وليس إسناد هذا الحديث مما تقوم به حجة عند أهل العلم بالنقل، لأن فيه رجلين غير معروفين بحمل العلم".
ثم قال: "وجماعة من أهل الحديث متَّفقون على أن ماء البحر طهور؛ بل هو أصل عندهم في طهارة المياه الغالبة على النجاسات المستهلكة لها، وهذا يدلك على أنه حديث صحيح المعنى يُتلقَّى بالقبول، والعمل الذي هو أقوى من الإسناد المنفرد"(1).
(1) انظر الاستذكار: (1/ 159).
وقال الإمام الترمذي: "والمقصود بالعمل: المنقول عن الصحابة رضوان الله عليهم.
عن عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم -قال: "طَلاقُ الأَمَةِ تَطْلِيقَتَان، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَان"(1)، قال محمد بن يحيى: وحدثنا أبو عَاصِمٍ أَنْبَأَنَا مُظَاهِرٌ بهذا. قال: وفي الْبَاب عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ.
قال أبو عِيسَى: حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ غريبٌ، لا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلا من حديث مُظَاهِرِ بن أَسْلَمَ، وَمُظَاهِرٌ لا نَعْرِفُ له في الْعِلْمِ غير هذا الحديث، وَالْعَمَلُ على هذا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ من أَصْحَابِ النبي صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِهِمْ" (2).
وقال شيخ الإسلام في الحديث المرسل: "نقول: إذا عمل به جماهير أهل العلم وأرسله من أخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول، أو روي مثله عن الصحابة، أو وافقة ظاهر القرآن؛ فهو حجة"(3).
وقال أيضًا: "والمرسل إذا عمل به الصحابة حجة"(4).
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله:
"إنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا قال قَوْلاً، أو حكم بِحُكْمٍ أو أفتى بِفُتْيَا، فَلَهُ مَدَارِكُ يَنْفَرِدُ بها عَنَّا، وَمَدَارِكُ نُشَارِكُهُ فيها، فَأَمَّا ما يَخْتَصُّ بِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ من النبي صلى الله عليه وسلم شَفَاهًا، أو من صحَابِيِّ آخَرَ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فإن ما انْفَرَدُوا بِهِ من الْعِلْم عنا أَكْثَرُ من أَنْ يُحَاطَ بِهِ، فلم يَرْوِ كُلٌّ منهم كُلَّ ما سمع، وَأَيْنَ ما سَمِعَهُ الصِّدَّيقُ رضي الله عنه وَالْفَارُوقُ وَغَيْرُهُمَا من كِبَارِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنه إلَى ما رَوَوْهُ؟ فلم يَرْوِ عنه صِدِّيقُ الأُمَّةِ مِئَةَ حَدِيثٍ، وهو لم يَغِبْ عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من مَشَاهِد"؛
(1) أخرجه أبو داود: (2/ 257)، والترمذي:(3/ 488)، وابن ماجه (1/ 672).
(2)
انظر جامع الترمذي: (3/ 488).
(3)
انظر شرح العمدة: (1/ 172).
(4)
انظر شرح العمدة: (2/ 262).
بَلْ صَحِبَهُ من حِينِ بُعِثَ، بَلْ قبل الْبَعْثِ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وكان أَعْلَمَ الأمة به صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ، وَفِعْلِهِ، وَهَدْيِهِ، وَسِيرَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَجِلَّة الصَّحَابَةِ رِوَايَتُهُمْ قَلِيلَةِّ جِدَّا بالنِّسبَةِ إلَى ما سَمِعُوهُ من نبِيِّهِمْ وَشَاهَدُوهُ، ولَوْ رَوَوْا كُلَّ ما سَمِعُوهُ وَشَاهَدُوة لَزَادَ على رِوَايَةِ أبي هُرَيْرَةَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فإنه إنَّمَا صحِبَهُ نحو أَرْبَعَ سِنِينَ، وقد رَوَى عنه الْكَثِيرَ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: لو كان عِنْدَ الصَّحَابِيِّ في هذه الْوَاقِعَةِ شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم لَذَكَرَهُ! قَوْلُ من لم يَعْرِفْ سِيرَةَ الْقَوْم وَأَحْوَالَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الرِّوَايَةَ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيعَظِّمُونَهَا، وَيُقَلِّلُونَهَا خَوْفَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَيُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ الذي سَمِعُوهُ من النبي صلى الله عليه وسلم مِرَارًا، وَلا يُصَرِّحُونَ بالسَّمَاعِ، وَلا يَقُولُونَ: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" (1).
وقال رحمه الله: "فَتِلْكَ الْفَتْوَى التي يفتي بها أَحَدُهُمْ لا تَخْرُجُ عن سِتَّةٍ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا من النبي صلى الله عليه وسلم، الثَّاني: أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا مِمَّنْ سَمِعَهَا منه، الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فَهِمَهَا من آيَةٍ من كِتَابِ اللَّهِ، فَهْمًا خفي عَلَيْنَا، الرَّابعُ: أَنْ يَكُونَ قد اتَّفَقَ عليها مَلَؤُهُمْ، ولم يُنْقَلْ إلَيْنَا إلَاّ قَوْلَ المفتي بها وَحْدَهُ، الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ لِكَمَالِ عِلْمِهِ بِاللُّغَةِ وَدَلالَةِ اللَّفْظِ على الْوَجْهِ الذي انْفَرَدَ بِهِ عَنَّا أو لِقَرَائِنَ حَالِيَّةٍ، اقْتَرَنَتْ بِالْخِطَابِ، أو لمجموع أُمُورٍ فَهِمُوهَا على طُولِ الزَّمَانِ من رُؤْيَةِ النبي صلى الله عليه وسلم وَمُشَاهَدَةِ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَسِيرَتِهِ وَسَمَاعِ كَلامِهِ، وَالْعِلْمِ بِمَقَاصِدِهِ وَشُهُودِ تَنْزِيلِ الْوَحْي وَمُشَاهَدَةِ تَأْوِيلِهِ بِالْفِعْلِ، فَيَكُونُ فَهِمَ ما لا نَفْهَمُهُ نَحْنُ، وَعَلَى هذه التَّقَادِيرِ الخَمْسَةِ تَكُونُ فَتْوَاهُ حُجَّةً يجب اتباعها، السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ فَهِمَ ما لم يُرِدْهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَأَخْطَأَ في فَهْمِهِ وَالْمُرَادُ غَيْرُ ما فَهِمَهُ" (2).
وهذا السادس لا يمكن القطع به إلا بوجود المخالف من الصحابة.
(1) انظر إعلام الموقعين: (4/ 147).
(2)
انظر إعلام الموقعين: (4/ 148).
قال ابن القيم: "فَلَوْ كان عِلْمُهُمْ أَنْ يفتي أَحَدُهُمْ بِفَتْوَى، وَتَكُونُ خَطَأً مخالفة لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلا يفتي غَيْرَهُ بِالْحَقِّ الذي هو حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إمَّا مع اشْتِهَارِ فَتْوَى الأَوَّلِ أو بدون اشتِهَارِهَا؛ كانت هذه الأُمَّةُ الْعَدْلُ الْخِيَارُ قد أَطْبَقَتْ على خِلافِ الحَقِّ، بَلْ انْقَسَمُوا قِسْمَيْنِ: قِسْمًا أَفتَى بِالْبَاطِلِ، وَقِسْمًا سَكَتَ عن الْحَقِّ، وَهَذَا من الْمُسْتَحِيلِ، فإن الْحَقَّ لا يَعْدُوهُمْ وَيَخْرُجُ عَنْهُمْ إلَى من بَعْدَهُمْ قَطْعًا، وَنَحْنُ نَقُولُ لِمَنْ خَالَفَ أَقْوَالَهُمْ: لو كان خَيْرًا ما سَبَقُونَا إلَيهِ"(1).
وقال رحمه الله: "وَإِنْ لم يُخَالِف الصَّحَابِيُّ صَحَابِيًّا آخَرَ؛ فَإِمَّا أَنْ يَشْتَهِرَ قَوْلُهُ في الصَّحَابَةِ أو لا يَشْتَهِر، فَإِن اشْتَهَرَ؛ فَاَلَّذِي عليه جَمَاهِيرُ الطَّوَائِفِ من الْفُقَهَاءِ: أنه إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ منهم: هو حُجَّةٌ، وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَقَالَتْ شِرْذِمَةٌ من الْمُتَكَلّمِينَ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ: لا يَكُونُ إجْمَاعًا وَلا حُجَّةً!
وَإِنْ لم يَشْتَهِرْ قَوْلُهُ، أو لم يُعْلَمْ هل اُشْتُهِرَ، أم لا؛ فَاخْتَلَفَ الناس هل يَكُونُ حُجَّةً أم لا؟ فَاَلَّذِي عليه جُمْهور الأمة: أنه حُجَّةٌ. هذا قَوْلُ جُمْهُور الحَنَفِيَّةِ، صَرَّحَ بِهِ محمد بن الْحَسَنِ، وَذكر عن أبي حَنِيفَةَ نَصًّا، وهو مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَتَصَرُّفُهُ في "مُوَطَّئِهِ" دَلِيلٌ عليه، وهو قَوْلُ إِسْحَاقَ بن رَاهْوَيْه، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وهو مَنْصوصُ الإمام أحمد في غَيْرِ مَوْضِع عنه، وَاخْتِيَارُ جُمْهُورِ أصحابه وهو مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ" (2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"وأيضًا فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة، وأقوال المتكلمين تارة، كما يفعله غير واحد؛ مثل أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، والرازي وغيرهم، ولازم المذهب الذي ينصرونه تارة أنه هو المعتمد، فلا
(1) انظر إعلام الموقعين: (4/ 133).
(2)
انظر إعلام الموقعين: (4/ 120).
يثبتون على دين واحد، وتغلب عليهم الشكوك، وهذا عادة الله فيمن أعرض عن الكتاب والسنة، وتارة يجعلون إخوانهم المتأخِّربن أحذق وأعلم من السلف، ويقولون: طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم! فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان، والتحقيق، والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك، والتقصير فيه أو الخطأ، والجهل! وغايتهم عندهم أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط.
ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض؛ فإنه وإن لم يكن تكفيرا للسلف، كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج، ولا تفسيقًا لهم كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم، كان تجهيلاً لهم، وتخطئةً وتضليلاً" (1).
وقال رحمه الله: "لكن قد تنفرد طائفة بالصواب عمن يناظرها من الطوائف، كأهل المذاهب الأربعة؛ قد يوجد لكل واحد منهم أقوال انفرد بها وكان الصواب الموافق للسنة معه دون الثلاثة، لكن يكون قوله قد قاله غيره من الصحابة والتابعين، وسائر علماء الأمة، بخلاف ما انفردوا به، ولم ينقل عن غيرهم، فهذا لا يكون إلا خطأ، وكذلك أهل الظاهر كل قول انفردوا به عن سائر الأمة فهو خطأ، وأما ما انفردوا به عن الأربعة وهو صواب فقد قاله غيرهم من السلف"(2).
بل إن الإمام أحمد قد يُعَلِّلُ المرفوعَ بمخالفته للآثار عن الصحابة، ومن ذلك أنه قال:"أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون إذا خلت -أي: المرأة- بالماء فلا يتوضأ منه، وهو أمر لا يقتضيه القياس، فالظاهر أنهم قالوه عن توقيف"(3).
(1) انظر مجموع الفتاوى: (4/ 157).
(2)
انظر منهاج السنة النبوية: (5/ 178).
(3)
انظر شرح الزركشي: (1/ 81).