الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث
حديث ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: "اغتَسَلَ بَعضُ أَزوَاجِ النبي صلى الله عليه وسلم فِي جَفْنَةٍ، فَجَاءَ النبي صلى الله عليه وسلم لِيَتَوَضَّأَ منها أو يَغْتَسِلَ، فقالت له: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إني كنت جُنُباً. فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الماء لا يُجْنِبُ".
ــ
قال المستدرك:
وله علل:
الأولى: رواية سماك عن عكرمة مضطربة.
الثانية: أُعِلَّ بالإرسال.
الثالثة: تفرد به سماك.
الرابعة: اضطرابه.
الخامسة: مخالفته للأحاديث الصحيحة.
* والجواب:
أما العلة الأولى: فإنكَ نقلتَ عن الحافظ في "الفتح"(1/ 300) قوله: "وقد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة، لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة، وهو لا يحمل عن مشايخه إلا الصحيح من حديثهم".
وقلتَ: إن في كلام ابن المديني وابن أبي شيبة ما يدل على أن رواية شعبة وسفيان أصح من رواية غيرهما.
ثم قلتَ: هذا الحكم لا يؤخذ على إطلاقه، بل إذا ظهر من خلال دراسة الأسانيد أن سماك اضطرب في حديث معين من رواية شعبة والثوري، فيُحكم عليه بالاضطراب.
فظاهر كلامكَ أنكَ مقرٌّ من حيث الجملة بما قرَّره الحافظ.
لكنك عُدْتَ وقرَّرتَ أن رواية شعبة عنه مضطربة أيضاً على سبيل العموم بما فهمته من كلام الإمام أحمد وعلي بن المديني، ثم قلتَ: حتى في رواية شعبة وسفيان أحيانًا.
ثم نقلتَ عن الدارقطني قوله: "اختلف في هذا الحديث على سماك، ولم يقل فيه: عن ميمونة؛ إلا شريك".
ثم أعللتَه بالتفرُّد، ونقلت عن أحمد:"لم يجيء لحديث سماك غيره".
ثم أعللتَه بالاضطراب، ونقلتَ عن أحمد أنه روي موصولاً، ومرسلاً، وهكذا الدارقطني:"اختلف في هذا الحديث على سماك".
ثم قلتَ: إنه يخالف الأحاديث الصحيحة، لأن الأحاديث الصحيحة دلَّتْ على أنهما اغَتسَلا جميعًا.
فالجواب: ينبغي أن نعلمَ أولاً كلام أهل العلم في سماك، فقد احتج به مسلم في "صحيحه"، واستشهد به البخاري في "الجامع الصحيح".
وقال عبد الرزاق عن الثوري: ما سقط لسماك بن حرب حديث.
وقال صالح بن أحمد عن أبيه: سماك أصلح حديثًا من عبد الملك بن عمير.
وقال أبو طالب عن أحمد: مضطرب الحديث.
وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم عن يحيى بن معين: ثقة، وكان شعبة يضعفه.
وقال ابن المبارك عن الثوري: ضعيف.
وقال العجلي: جائز الحديث، إلا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء عن ابن عباس، وربما قال: قال رسول الله، وإنما كان عكرمة يحدث عن ابن عباس، وكان الثوري يضعفه بعض الضعف، وكان جائز الحديث لم يترك حديثه أحد ولم يرغب عنه أحد، كان عالمًا بالشعر وأيام الناس وكان فصيحًا.
وقال أبو حاتم: صدوق ثقة.
وقال ابن المديني: رواية سماك عن عكرمة مضطربة.
وقال زكريا بن عدي عن ابن المبارك: سماك ضعيف في الحديث.
وقال صالح بن محمد البغدادي: يضعف.
وقال النسائي: ليس به بأس وفي حديثه شيء.
وقال ابن خراش: في حديثه لين.
وقال ابن عدي: صدوق لا بأس به.
فالذي يؤخذ من كلام الجميع أنه محل للصدق، والأمانة، وإنما يخشى منه الغلط، ونص بعضهم على روايته عن عكرمة عن ابن عباس، ومن المعلوم أنهم لا يقصدون كل حديث رواه عن عكرمة مضطرب، وإلا كانت عملية حسابية، ومن ظن ذلك فلا علم له بهذا الفن، فإذا كان الأمر كذلك فقد يروي عن عكرمة حديثًا لا يكون محل اختلاف عند أهل الحديث، وإليك بعض الأمثلة:
قال الإمام أحمد (1): حدثنا أبو سَعِيدٍ مولى بني هَاشِمٍ قال: حدثنا زَائِدَةُ ثنا سِمَاكٌ عن عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قال: قال عُمَرُ: "كنا مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في رَكْبٍ، فقال رَجُلٌ: لَا وأبي! فقال رَجُلٌ: لا تَحْلِفُوا بِآبائِكُمْ. فَالْتَفَتُّ فإذا هو رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
(1) في "مسنده"(1/ 19) أو رقم (116 - شاكر).
وقال (1): حدثنا يحيى بن أَبِي بُكَيْرٍ ثنا إِسْرَائِيلُ عن سِمَاكٍ عن عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قال: "مَرَّ رَجُل من بَنِي سُلَيْمٍ بِنَفَرٍ من أَصْحَابِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو يَسُوقُ غَنَمًا له، فَسَلَّمَ عليهم، فَقَالُوا: ما سَلَّمَ عَلَيْنَا إلا لِيَتَعَوَّذَ مِنَّا، فَعَمَدُوا إليه فَقَتَلُوهُ، وَأَتَوْا بِغَنَمِهِ النبي صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ هذه الآيَةُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94].
وقال (2): حدثنا وكيعٌ ثنا إِسْرَائِيلُ عن سِمَاكٍ عن عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ: "أن رَجُلاً جاء مُسْلِمًا على عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَاءَتِ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً بَعْدَهُ، فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنها أَسْلَمَتْ معي، فَرَدَّهَا عليه النبي صلى الله عليه وسلم".
وغيرها كثير أحصيتها في "مسند أحمد"، فتعدت الثلاثين حديثًا، ومع ذلك سوف أسرد الطرق كافة موصولة، ومرسلة، ليتبين للقارئ القول الفصل في الحديث، فأقول وبالله التوفيق:
قال أبو يعلى الموصلي في "مسنده"(4/ 301 رقم: 2411): حدثنا أبو معمر ثنا أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء لا ينجسه شيء".
ورواه الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق وعن عبد الله بن الوليد وعن وكيع وعن علي بن إسحاق عن ابن المبارك جميعًا عن سفيان به وفيه: "الماء لا ينجسه شيء".
ورواه أبو داود (68) عن مسدد، ورواه الترمذي (65) عن قتيبة عن أبي الأحوص، وقال: حديث حسن صحيح.
ورواه النسائي (1/ 173) عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به.
(1) أي الإمام أحمد في "مسنده"(1/ 229) أو رقم (2023 - الرسالة).
(2)
الإمام أحمد في "مسنده"(1/ 232) أو رقم (2059 - الرسالة).
ورواه ابن ماجه (370) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي الأحوص وعن علي بن محمد به.
ورواه ابن خزيمة في "صحيحه"(1/ 57 رقم: 1229) قال: أخبرنا أبو طاهر نا أبو بكر نا أبو موسى محمد بن المثنى وأحمد بن منيع قالا: حدثنا أبو أحمد وهو الزبيري ثنا سفيان وحدثنا عتبة بن عبد الله أخبرنا ابن المبارك أخبرنا سفيان، وحدثنا سلم بن جنادة حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس:"أن امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اغتسلت من الجنابة، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم أو اغتسل من فضلها".
هذا حديث وكيع، وقال أحمد بن منيع:"فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم من فضلها". وقال أبو موسى وعتبة بن عبد الله: "فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ من فضلها، فقالت له، فقال: الماء لا ينجسه شيء".
ورواه أبو حاتم البستي الحافظ ابن حبان في "صحيحه"(4/ 56) رقم (1229): أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي غَيْلانَ الثَّقَفِي بِبَغْدَادَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاج النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَفْنَةٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَغْتَسِلُ مِنْهَا أَوْ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمَاءَ لا يُجْنِبُ".
وقال الإمام أحمد بن حنبل في "المسند"(6/ 330): حدثنا سليمان بن داود الطيالسي أنبأنا شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن ميمونة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل غسلها من الجنابة".
وقال رحمه الله (6/ 33): حدثنا هاشم بن القاسم ثنا شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: "أجنبت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فاغتسلت من جفنة، ففضلت فضلة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتسل منها فقلت: إني قد اغتسلت منها، قال: إن الماء ليس عليه جنابة، أو لا ينجسه شيء. فاغتسل منه ".
أما شعبة فرواه موصولاً مثل رواية سفيان يرويه عنه أبو بكر البرساني.
قال الحافظ في "الفتح"(1/ 300): "وقد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة، لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم، وقول أحمد إن الأحاديث من الطريقين مضطربة، إنما يصار إليه عند تعذر الجمع، وهو ممكن بأن تحمل أحاديث النهي على ما تساقط من الأعضاء، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطابي، أو يحمل النهي على التنزيه جمعًا بين الأدلة، والله أعلم".
وخالفه محمد بن جعفر: فرواه عن شعبة عن عكرمة مرسلاً، كما في "تهذيب الآثار" لابن جرير (1037).
قال ابن أبي حاتم: "سألت أبا زرعة عن حديث رواه سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: "أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اغتسلت من جنابة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له، فتوضأ بفضلها وقال: الماء لا ينجسه شيء".
ورواه شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في ميمونة.
فقال: الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا ميمونة.
فبيَّن أن الصحيح من الروايات هو الذي من مسند ابن عباس مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا الاختلاف لا يضر كما لا يخفى.
وهكذا فإن كلام الدارقطني ليسى فيه التصريح بضعف الحديث، وإنما ذكر ما فيه من الاختلاف، فإنه قال:"اختلف في هذا الحديث على سماك". ولم يقل فيه عن ميمونة غير شريك، وهذا يؤكد أنه ما أراد إلا بيان الوجه الصحيح في روايات الحديث.
والغريب أن المستدرِك -عفا الله عنه- جعل من علله مخالفته للأحاديث الصحيحة، وتغافل عن الحديث الذي احتج هو به في الحديث السابق، وهو ما أخرجه مسلم عن ابن عباس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل يفضل ميمونة"، وإلا فإن
طريق مسلم يرويه أيضًا محمد بن بكر البرساني عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس به، وعليه فإن محمد بن بكر البرساني له فيه طريقان؛ هذه واحدة. والأخرى: عن شعبة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس به، عند ابن خزيمة الحاكم، وهذا يدل على أنه جوّده، وهو مما يدل أيضًا على أن حديث سماك له أصل أصيل.
والعجيب أن جميع من تكلم على الحديث مما وقفت عليه أغفل هذه الفائدة فيما أعلم، ولله النعمة، والفضل، والثناء الحسن، فإن الفائدة الكبيرة منه هى صرفه لأحاديث النهي إلى كراهة التنزيه، وهى الفائدة المطلوبة بعينها من حديث الباب، وإلا فإن قوله:"لا ينجسه شيء"، يؤخذ من أحاديث أخرى كحديث بئر بضاعة، وبهذا يظهر السر فى قول عمرو بن دينار فى "صحيح مسلم":"وعلمي والذى يخطر على بالي أن أبا الشعثاء حدثني عن ابن عباس وذكر الحديث" أنه نسي لفظه ورواه بمعناه.
أما الإمام أحمد فإنه أعله بمخالفته للآثار.
وهى طريق صحيحة، لو لم تنقل مخالفة ابن عباس لابن عمر، وعبد الله ابن سرجس، فقد قال أبو عبيد (1): حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن أبي زيد المديني عن ابن عباس أنه سئل عن سؤر المرأة، فقال:"هي ألطف بنانًا وأطيب ريحًا".
وأقوى ضابط في اعتقادي في مثل هذا الاختلاف، هو وجود من عمل به من الصحابة، فإن لم يوجد غلب على الظن ضعفه، وهذه طريقة فقهاء الحديث المتقدِّمين، كالشافعي، وأحمد، وإسحاق وغيرهم، وهذا الحديث وُجِدَ من عمل به من الصحابة، ولله الحمد.
(1) في "الطهور"(196)، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1/ 33) وعبد الرزاق (380)، وإسناده حسن.