الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والثلاثون
حديث: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة! فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل: (فَأَينَمَا تُوَلُواْ فَثَمَّ وَجهُ الله)، [البقرة: 115] ".
ــ
قال المستدرك:
"الحديث ضعيف، وضعَّفه من الأئمة: الترمذي، والبيهقي، وابن حزم، والعقيلي، وابن القطان، وأشار إلى ضعفه الطبراني، والدارقطني".
* الجواب:
الحديث جاء من طرق:
الحديث الأول: قال الترمذي في "جامعه"(345): ثنا محمود بن غيلان ثنا وكيع ثنا أشعث بن سعيد السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال:"كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة! فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل: (فَأينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَ وَجهُ اَللَّهِ) [البقرة: 115] ".
قال الترمذي: هذا حديث حسن، ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث السمان يُضعَّفُ في الحديث".
* قلت: كان هشيم يقول: أشعث السمان يكذب.
وقال أحمد بن حنبل: حديثه مضطرب ليس بذاك.
وقال يحيى والنسائي وأبو زرعة: ضعيف.
وفي لفظ عن يحيى: ليس بشيء، وقال الفلاس والدارقطني: متروك.
وقال أبو حاتم ابن حبان: يروي عن الأئمة الأحاديث الموضوعات، خصوصًا عن هشام بن عروة.
قال في "التقريب": "أشعث بن سعيد البصري أبو الربيع السمان متروك من السادسة ت ق".
وأما عاصم بن عبيد الله؛ فقال يحيى بن معين: ضعيف، لا يحتج بحديثه. وقال ابن حبان: كان سيئ الحفظ، كثير الوهم، فاحش الخطأ فتُرِكَ.
الثاني: قال الدارقطني في "سننه"(1/ 272): قرئ على عبد الله بن محمد ابن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمرو حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر قال:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير أو سفر، فأصابنا غيم فتحيرنا، فاختلفنا في القبلة، فصلى كل رجل منا على حده، وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا بالإعادة، وقال: "قد أجزأت صلاتكم" (1).
قال الدارقطني: كذا قال عن محمد بن سالم، وقال غيره: عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء. وهما ضعيفان.
* قلت: أما محمد بن سالم؛ فكان ابن المبارك إذا مر بحديثه يقول: اضربوا عليه.
وقال أحمد: هو شبه المتروك.
وقال يحيى القطان: ليس بشيء.
(1) أخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 324)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(2/ 10).
وقال النسائي: متروك الحديث لا يساوي شيئًا.
وأما العرزمي؛ فقال أحمد: ترك الناس حديثه. وقال يحيى: لا يُكْتَبُ حديثه.
* قلت: على أنه قد حدث عنه شعبة وسفيان (1).
الثالث: قال الطبراني في "المعجم الأوسط"(1/ 84): حدثنا أحمد بن رشدين قال: حدثنا هشام بن سلام البصري قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله السكوني، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن أبيه، عن معاذ بن جبل قال:"صلَّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم في سفر إلى غير القبلة، فلما قضى الصلاة وسلم تجلت الشمس، فقلنا: يا رسول الله؛ صلينا إلى غير القبلة! فقال: "قد رُفِعَتْ صلاتُكم بحقها إلى الله عز وجل".
لم يرو هذا الحديث عن إبراهيم بن أبي عبلة إلا إسماعيل بن عبد الله، ولا عن إسماعيل إلا أبو داود، تفرد به هشام بن سلام".
وأخرج سعيد بن منصور في "سننه"(2/ 601): وابن المنذر عن عطاء: "أن قومًا عميت عليهم القبلة، فصلى كل إنسان منهم إلى ناحية، ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فأنزل الله: (فَأَينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَاللهُ) ".
حدثنا سعيد قال: نا إسماعيل بن عياش قال: حدثني حجاج عن عطاء.
وأخرج ابن مردويه -بسند ضعيف- عن ابن عباس- رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سريه فأصابتهم ضبابة، فلم يهتدوا إلى القبلة، فصلوا لغير القبلة، ثم استبان لهم بعدما طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة، فلما جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه، فأنزل الله: (وَللهِ الْمَشْرِقُ وَاْلمْغربُ) الآية". من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
(1) انظر: تنقيح تحقيق أحاديث التعليق: (1/ 298).
قال شيخ الإسلام: "وأيضًا: ما روي عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله ابن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر في ليلة مظلمة، فلم يدر أين القبلة، فصلى كل رجل منا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي فنزل:(فَأَينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجهُ اللَّهِ)، [البقرة: 115] ". رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن ليس إسناده بذلك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث يُضَعَّفُ في الحديث.
* قلت: وقد رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(368) عن أشعث بن سعيد وعمر بن قيس، عن عاصم بن عبيد الله، وهو يقوى رواية أشعث، ويزيل تفرده به" (1).
وقد روي هذا المتن من حديث جابر من حديث محمد بن سالم ومحمد بن عبيد الله العرزمي عن عطاء عن جابر قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم، فتحيرنا فاختلفنا في القبلة، فصلى كل رجل منا على حدة، وجعل أحدنا يخطُّ بين يديه، لنعلم أمكنتنا، فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأمرنا بالإعادة، وقال: "قد أجزأت صلاتكم". رواه الدارقطني (1/ 271) وغيره، وقال: هما ضعيفان.
ورواه الباغندي والحسن بن علي المعمري وغيرهما عن أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري قال: وجدت في كتاب أبي ثنا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: القبلة هاهنا قبل الشمال، فصلوا وخطوا خطًّا، وقال بعضنا: القبلة ها هنا قبل الجنوب، وخطوا خطًّا، فلما أصبحنا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فقدمنا من سفرنا، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك، فسكت، وأنزل الله عز وجل:
(1) انظر: "شرح العمدة"(4/ 545).
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] " (1)، وهو إسناد مقارب.
وبعض هذه الطرق مما يغلب على القلب أن الحديث له أصل، وهو محفوظ، فإن المحدِّثَ إذا كان إنما يُخَافُ عليه من سوء حفظه، لا من جهة التهمة بالكذب، فإذا عضده محدث آخر، أو محدثان من جنسه؛ قويت روايته، حتى يكاد أحيانًا يعلم أنه قد حفظ ذلك الحديث، لا سيما إذا جاء به محدث آخر عن صحابي آخر، فإن تطرق سوء الحفظ في مثل ذلك إلى جماعة؛ بعيد لا يلتفت إليه، إلا أن يعارض حديثهم ما هو أصح منه.
وقد روى أصحاب التفسير عن ابن عباس رضي الله عنها قال: "خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر -وذلك قبل تحويل القبلة إلى الكعبة- فأصابهم الضباب، وحضرت الصلاة فتحروا القبلة، وصلوا، فمنهم من صلى قِبَلَ المشرق، ومنهم من صلى قِبَلَ المغرب، فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية"(2).
فهذا وإن لم يكن مما يُحْتَجُّ به منفردًا؛ فإنه يشد تلك الروايات ويقويها، وقد استدل أحمد بهذه الآية، وتأولها على ذلك، قال: إذا تحرى القبلة ثم صلى، فعلم بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة مضت، فتأول بعض قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَأَينَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اَللَّهِ).
وقال في موضع آخر في الرجل يصلي لغير القبلة: لا يعيد، (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وهذا دليل على أن الصحابة تأولوها على حال التحري، كما ذكرنا، ويشبه والله أعلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم تلك الليلة، وإنما كان قد
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (2/ 11)، والدارقطني في السنن:(1/ 271).
(2)
عزاه الحافظ ابن كثير في "تفسيره"(1/ 337) لابن مردويه، وقال -بعد إيراده لطرق الحديث-:"وهذه الأسانيد فيها ضعْفٌ، ولعلَّه يشدُّ بعضُها بعضًا".
سراهم سرية، فلما أصبحوا لقوه وقد قفلوا من وجوههم ذلك، هكذا تدل عليه الروايات.
فإن قيل: ففي حديث ابن عمر أن هذه الآية نزلت في صلاة التطوع في السفر!
قلنا: لا منافاة بين هذين، فإن الآية الجامعة العامة تنزل في أشياء كثيرة، إما أن يراد به جميع تلك المعاني بإنزال واحد، وإما أن يتعدد الإنزال، إما بتعدد عرض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك، وفي كل مرة تنزل في شيء غير الأول، لصلاح لفظها لذلك كله، على أن قول الصحابة نزلت الآية في ذلك، قد لا يعنون به سبب النزول، وإنما يعنون به أنه أريد ذلك المعنى منها، وقصد بها، وهذا كثير في كلامهم (1).
والحمد لله على توفيقه.
(1) انظر: "شرح العمدة"(4/ 547).