الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ
إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ مُسْتَحَبٌّ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ.
[الْبَابُ] الْأَوَّلُ: فِي رِقَابِ الْأَرَضِينَ، وَهِيَ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: أَرْضُ الْإِسْلَامِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ لَا تَكُونَ مَعْمُورَةً فِي الْحَالِ، وَلَا مِنْ قَبْلُ، فَيَجُوزُ تَمَلُّكُهَا بِالْإِحْيَاءِ، سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ، أَمْ لَا، وَيَكْفِي فِيهِ إِذْنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ، وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ. فَلَوْ أَحْيَاهَا الذِّمِّيُّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، لَمْ يُمَلَّكْ قَطْعًا، وَلَوْ أَحْيَا بِإِذْنِهِ، لَمْ يُمَلَّكْ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ: يُمَلَّكُ. فَإِذَا قُلْنَا بِالصَّحِيحِ، فَكَانَ لَهُ فِيهَا عَيْنُ مَالٍ، نَقَلَهَا. فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ النَّقْلِ أَثَرُ عِمَارَةٍ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ: إِنْ أَحْيَاهُ رَجُلٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، مَلَّكَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَوَجْهَانِ.
قُلْتُ: لَعَلَّ أَصَحَّهُمَا: الْمِلْكُ، إِذْ لَا أَثَرَ لِفِعْلِ الذِّمِّيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ تَرَكَ الْعِمَارَةَ مُتَبَرِّعًا، تَوَلَّى الْإِمَامُ أَخْذَ غَلَّتِهَا وَصَرْفِهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ تَمَلُّكُهَا.
فَرْعٌ
لِلذِّمِّيِّ الِاصْطِيَادُ وَالِاحْتِطَابُ وَالِاحْتِشَاشُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُخْلَفُ،
وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، بِخِلَافِ الْأَرْضِ، وَكَذَا لِلذِّمِّيِّ نَقْلُ التُّرَابِ مِنْ مَوَاتِ دَارِ الْإِسْلَامِ إِذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الْمُسْلِمُونَ.
فَرْعٌ
الْمُسْتَأْمَنُ كَالذِّمِّيِّ فِي الْإِحْيَاءِ وَفِي الِاحْتِطَابِ وَنَحْوِهِ، وَالْحَرْبِيُّ مَمْنُوعٌ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ. الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مَعْمُورَةً فِي الْحَالِ، فَهِيَ لِمُلَّاكِهَا، وَلَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْإِحْيَاءِ. الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَكُونَ مَعْمُورَةً فِي الْحَالِ وَكَانَتْ مَعْمُورَةً قَبْلُ، فَإِنْ عُرِفَ مَالِكُهَا، فَهِيَ لَهُ أَوْ لِوَارِثِهِ، وَلَا تُملَّك بِالْعِمَارَةِ.
وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ، نُظِرَ، إِنْ كَانَتْ عِمَارَةً إِسْلَامِيَّةً، فَهِيَ لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْأَمْرُ فِيهِ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ. فَإِنْ رَأَى حِفْظَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَالِكُهُ، فُعِلَ، وَإِنْ رَأَى بَيْعَهُ وَحِفْظَ ثَمَنِهِ، فُعِلَ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ خِلَافٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا.
وَإِنْ كَانَتْ عِمَارَةً جَاهِلِيَّةً، فَقَوْلَانِ. وَيُقَالُ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تُملَّك بِالْإِحْيَاءِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوَاتٍ. وَأَظْهَرُهُمَا: تُملَّك كَالرِّكَازِ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ: إِنْ بَقِيَ أَثَرُ الْعِمَارَةِ أَوْ كَانَ مَعْمُورًا فِي جَاهِلِيَّةٍ قَرِيبَةٍ، لَمْ تُملَّك بِالْإِحْيَاءِ، وَإِنِ انْدَرَسَتْ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَقَادَمَ عَهْدُهَا، مُلِّكَتْ. ثُمَّ إِنَّ الْبَغَوِيَّ وَآخَرِينَ عَمَّمُوا هَذَا [الْخِلَافَ] ، وَفَرَّعُوا عَلَى الْمَنْعِ أَنَّهَا إِنْ أُخِذَتْ بِقِتَالٍ فَهِيَ لِلْغَانِمِينَ، وَإِلَّا، فَهِيَ أَرْضٌ لِلْفَيْئِ، قَالَ الْإِمَامُ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ كَيْفِيَّةُ اسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَدُخُولِهِ تَحْتَ يَدِهِمْ، فَأَمَّا إِنْ عُلِمَ، فَإِنْ حَصَلَتْ بِقِتَالٍ، فَلِلْغَانِمِينَ، وَإِلَّا، فَفَيْءٌ، وَحِصَّةُ الْغَانِمِينَ تَلْتَحِقُ بِمِلْكِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ. وَطَرَدَ جَمَاعَةٌ الْخِلَافَ، فِيمَا إِذَا
كَانَتِ الْعِمَارَةُ إِسْلَامِيَّةً وَلَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهَا، وَقَالُوا: هِيَ كَلُقَطَةٍ لَا يُعْرَفُ مَالِكُهَا. وَالْجُمْهُورُ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ كَمَا سَبَقَ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَرْضُ بِلَادِ الْكُفَّارِ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مَعْمُورَةً، فَلَا مَدْخَلَ لِلْإِحْيَاءِ فِيهَا، بَلْ هِيَ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ فَإِذَا اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهَا بِقِتَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَخْفَ حُكْمُهُ.
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ مَعْمُورَةً فِي الْحَالِ وَلَا مِنْ قَبْلُ، فَيَتَمَلَّكُهَا الْكُفَّارُ بِالْإِحْيَاءِ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ، فَيُنْظَرُ، إِنْ كَانَ مَوَاتًا لَا يَذُبُّونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ، فَلَهُمْ تَمَلُّكُهُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا يُمَلَّكُ بِالِاسْتِيلَاءِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُمْ حَتَّى يُمَلَّكَ عَلَيْهِمْ. وَإِنْ ذَبُّوا عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُمَلَّكْ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمَعْمُورِ مِنْ بِلَادِهِمْ. فَإِنِ اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهِ، فَفِيهِ أَوْجُهٌ.
أَصَحُّهَا: أَنَّهُ يُفِيدُ اخْتِصَاصًا كَاخْتِصَاصِ الْمُتَحَجِّرِ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ أَبْلَغُ مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا فَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافٌ فِي أَنَّ التَّحَجُّرَ [هَلْ] يُفِيدُ جَوَازَ الْبَيْعِ؟ إِنْ قُلْنَا: نَعَمْ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ كَالْمَعْمُورِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَا، وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَالْغَانِمُونَ أَحَقُّ بِإِحْيَاءِ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ، وَأَهْلُ الْخُمُسِ أَحَقُّ بِإِحْيَاءِ خُمُسِهِ. فَإِنْ أَعْرَضَ الْغَانِمُونَ عَنْ إِحْيَائِهِ، فَأَهْلُ الْخُمُسِ أَحَقُّ بِهِ. وَلَوْ أَعْرَضَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ، فَالْبَاقُونَ أَحَقُّ. وَإِنْ تَرَكَهُ الْغَانِمُونَ وَأَهْلُ الْخُمُسِ جَمِيعًا، مُلِّكَهُ مَنْ أَحْيَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قُلْتُ: فِي تَصَوُّرِ إِعْرَاضِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ، إِشْكَالٌ، فَيُصَوَّرُ فِي الْيَتَامَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُمْ لَمْ يَرَوْا لَهُمْ حَظًّا فِي الْإِحْيَاءِ، وَنَحْوَهُ فِي الْبَاقِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يُمَلَّكونَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ كَالْمَعْمُورِ.
وَ [الْوَجْهُ] الثَّالِثُ: لَا يُفِيدُ مِلْكًا وَلَا اخْتِصَاصًا، بَلْ هُوَ كَمَوَاتِ دَارِ الْإِسْلَامِ، مَنْ أَحْيَاهُ مُلِّكَهُ.
الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا تَكُونَ مَعْمُورَةً فِي الْحَالِ وَكَانَتْ مَعْمُورَةً، فَإِنْ عُرِفَ مَالِكُهَا، فَكَالْمَعْمُورَةِ، وَإِلَّا، فَفِيهِ طَرِيقَةُ الْخِلَافِ وَطَرِيقَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ السَّابِقَتَانِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ.
فَرْعٌ
إِذَا فَتَحْنَا بَلْدَةً صُلْحًا عَلَى أَنْ تَكُونَ لَنَا وَيَسْكُنُوا بِجِزْيَةٍ، فَالْمَعْمُورُ مِنْهَا فَيْءٌ، وَمَوَاتُهَا الَّذِي كَانُوا يَذُبُّونَ عَنْهُ، هَلْ يَكُونُ مُتَحَجِّرًا لِأَهْلِ الْفَيْءِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ. فَعَلَى هَذَا، هُوَ فَيْءٌ فِي الْحَالِ، أَمْ يَحْبِسُهُ الْإِمَامُ لَهُمْ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي، وَإِنْ صَالَحْنَاهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْبَلْدَةُ لَهُمْ، فَالْمَعْمُورُ لَهُمْ، وَالْمَوَاتُ يَخْتَصُّونَ بِإِحْيَائِهِ تَبَعًا لِلْمَعْمُورِ، وَعَنِ الْقَاضِي أَبِي حَامِدٍ وَصَاحِبِ التَّقْرِيبِ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا الِامْتِنَاعُ عَنْ مَوَاتِهَا إِذَا شَرَطْنَاهُ فِي الصُّلْحِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
فَرْعٌ
قَالَ الْبَغَوِيُّ: الْبِيَعُ الَّتِي لِلنَّصَارَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لَا تُملَّك عَلَيْهِمْ. فَإِنْ فَنُوا، فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ ذِمِّيٌّ وَلَا وَارِثَ لَهُ، فَتَكُونُ فَيْئًا.
فَرْعٌ
حَرِيمُ الْمَعْمُورِ لَا يُمَلَّكُ بِالْإِحْيَاءِ، لِأَنَّ مَالِكَ الْمَعْمُورِ يَسْتَحِقُّ مَرَافِقَهُ، وَهَلْ نَقُولُ: إِنَّهُ يُمَلَّكُ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا، لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِحْيَاءِ وَلَمْ يُحْيِهَا،
وَأَصَحُّهُمَا: نَعَمْ، كَمَا يُمَلَّكُ عَرْصَةَ الدَّارِ بِبِنَاءِ الدَّارِ، وَلِأَنَّ الْإِحْيَاءَ تَارَةً يَكُونُ بِجَعْلِهِ مَعْمُورًا، وَتَارَةً بِجَعْلِهِ تَبَعًا لِلْمَعْمُورِ. وَلَوْ بَاعَ حَرِيمَ مُلْكِهِ دُونَ الْمِلْكِ، لَمْ يَصِحَّ، قَالَهُ أَبُو عَاصِمٍ، كَمَا لَوْ بَاعَ شِرْبَ الْأَرْضِ وَحْدَهُ. قَالَ: وَلَوْ حَفَرَ اثْنَانِ بِئْرًا عَلَى أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْبِئْرِ لِأَحَدِهِمَا وَحَرِيمُهَا لِلْآخَرِ، لَمْ يَصِحَّ وَكَانَ الْحَرِيمُ لِصَاحِبِ الْبِئْرِ، وَلِلْآخَرِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ.
فَرْعٌ
فِي بَيَانِ الْحَرِيمِ
وَهُوَ الْمَوَاضِعُ الْقَرِيبَةُ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ، كَالطَّرِيقِ وَمَسِيلِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِمَا، وَفِيهِ صُوَرٌ.
إِحْدَاهَا: ذَكَرْنَا فِي الْحَالِ الثَّالِثِ: إِذَا صَالَحْنَا الْكُفَّارَ عَلَى بَلْدَةٍ، لَمْ يَجُزْ إِحْيَاءُ مَوَاتِهَا الَّذِي يَذُبُّونَ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ، فَهُوَ مِنْ حَرِيمِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَمَرَافِقِهَا. الثَّانِيَةُ: حَرِيمُ الْقُرَى الْمُحْيَاةِ: مَا حَوْلَهَا مِنْ مُجْتَمَعِ أَهْلِ النَّادِي، وَمُرْتَكِضِ الْخَيْلِ، وَمُنَاخِ الْإِبِلِ، وَمَطْرَحِ الرَّمَادِ وَالسِّمَادِ، وَسَائِرِ مَا يُعَدُّ مِنْ مَرَافِقِهَا. وَأَمَّا مَرْعَى الْبَهَائِمِ، فَقَالَ الْإِمَامُ: إِنْ بَعُدَ عَنِ الْقَرْيَةِ، لَمْ يَكُنْ مِنْ حَرِيمِهَا. وَإِنْ قَرُبَ وَلَمْ يَسْتَقِلَّ مَرْعًى، وَلَكِنْ كَانَتِ الْبَهَائِمُ تَرْعَى فِيهِ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الْإِبْعَادِ، فَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ، خِلَافٌ فِيهِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْإِمَامِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرِيمٍ. وَأَمَّا مَا يَسْتَقِلُّ مَرْعًى وَهُوَ قَرِيبٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِأَنَّهُ حَرِيمٌ. وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: مَرْعَى الْبَهَائِمِ حَرِيمٌ لِلْقَرْيَةِ مُطْلَقًا.
فَرْعٌ
الْمُحْتَطَبُ كَالْمَرْعَى.
الثَّالِثَةُ: حَرِيمُ الدَّارِ فِي الْمَوَاتِ: مَطْرَحُ التُّرَابِ وَالرَّمَادِ وَالْكُنَاسَاتِ وَالثَّلْجِ، وَالْمَمَرُّ فِي الصَّوْبِ الَّذِي فُتِحَ إِلَيْهِ الْبَابُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ اسْتِحْقَاقُ الْمَمَرِّ فِي قُبَالَةِ الْبَابِ عَلَى امْتِدَادِ الْمَوَاتِ، بَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ إِحْيَاءُ مَا فِي قُبَالَةِ الْبَابِ إِذَا أُبْقِيَ الْمَمَرُّ لَهُ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى انْعِطَافٍ وَازْوِرَارٍ، فَعَلَ.
فَرْعٌ
عَدَّ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ كَجٍّ فِنَاءَ الدَّارِ مِنْ حَرِيمِهَا. وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: عِنْدِي أَنَّ حِيطَانَ الدَّارِ لَا فِنَاءَ لَهَا وَلَا حَرِيمَ. فَلَوْ أَرَادَ مُحْيٍ أَنْ يَبْنِيَ بِجَنْبِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ فَنَائِهَا، لَكِنْ يُمْنَعُ مِمَّا يَضُرُّ الْحِيطَانَ كَحَفْرِ بِئْرٍ بِقُرْبِهَا.
الرَّابِعَةُ: الْبِئْرُ الْمَحْفُورَةُ فِي الْمَوَاتِ، حَرِيمُهَا الْمَوْضِعُ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّازِحُ، وَمَوْضِعُ الدُّولَابِ وَمُتَرَدِّدُ الْبَهِيمَةِ إِنْ كَانَ الِاسْتِقَاءُ بِهِمَا، وَمَصَبُّ الْمَاءِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ لِسَقْيِ الْمَاشِيَةِ وَالزُّرُوعِ مِنْ حَوْضٍ وَنَحْوِهِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُطْرَحُ فِيهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، كَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رضي الله عنهم. وَفِي وَجْهٍ: حَرِيمُ الْبِئْرِ: قَدْرَ عُمْقِهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه التَّحْدِيدَ، وَحَمَلَ اخْتِلَافَ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي التَّحْدِيدِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ. وَبِهَذَا يُقَاسُ حَرِيمُ النَّهْرِ الْمَحْفُورِ فِي الْمَوَاتِ. وَأَمَّا الْقَنَاةُ فَآبَارُهَا لَا يُسْتَقَى مِنْهَا حَتَّى يُعْتَبَرَ بِهِ الْحَرِيمُ، فَحَرِيمُهَا: الْقَدْرُ الَّذِي لَوْ حُفِرَ فِيهِ لَنَقَصَ مَاؤُهَا، أَوْ خِيفَ مِنْهُ انْهِيَارٌ وَانْكِبَاسٌ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِصَلَابَةِ الْأَرْضِ وَرَخَاوَتِهَا.
وَفِي وَجْهٍ: أَنَّ حَرِيمَهَا حَرِيمُ الْبِئْرِ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْحَفْرِ إِذَا جَاوَزَهُ وَإِنْ نَقَصَ الْمَاءُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ. وَالْقَائِلُونَ بِهِ، قَالُوا: لَوْ جَاءَ آخَرُ وَتَنَحَّى عَنِ الْمَوَاضِعِ الْمَعْدُودَةِ حَرِيمًا، وَحَفَرَ بِئْرًا يُنْقِصُ مَاءَ الْأَوَّلِ، لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ حَرِيمِ الْبِئْرِ. وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ الْحَفْرُ حَيْثُ يُنْقِصُ مَاءَهَا، كَمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ التَّصَرُّفُ قَرِيبًا مِنْ بِنَائِهِ بِمَا يَضُرُّ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ، فَحَفَرَ جَارُهُ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ فَنَقَصَ مَاءُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَفْرَ فِي الْمَوَاتِ ابْتِدَاءُ تَمَلُّكٍ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهُ إِذَا تَضَرَّرَ الْغَيْرُ، وَهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ. وَعَلَى هَذَا، فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ دَاخِلٌ فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ أَيْضًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ حَرِيمًا، فَذَلِكَ إِذَا انْتَهَى الْمَوَاتُ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مِلْكٌ قَبْلَ تَمَامِ حَدِّ الْحَرِيمِ، فَالْحَرِيمُ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي الْمَوَاتُ.
فَرْعٌ
كُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَرِيمِ الْأَمْلَاكِ، مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمِلْكُ مَحْفُوفًا بِالْمَوَاتِ، أَوْ مُتَاخِمًا لَهُ مِنْ بَعْضِ الْجَوَانِبِ. فَأَمَّا الدَّارُ الْمُلَاصِقَةُ لِلدَّارِ، فَلَا حَرِيمَ لَهَا، لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ مُتَعَارِضَةٌ، وَلَيْسَ جَعْلُ مَوْضِعٍ حَرِيمًا لِدَارٍ، أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ حَرِيمًا لِأُخْرَى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُلَّاكِ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ أَفْضَى إِلَى تَلَفٍ. فَإِنْ تَعَدَّى، ضَمِنَ. وَالْقَوْلُ فِي تَصَرُّفِ الْمَالِكِينَ الْمُتَجَاوِزِينَ بِمَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَبِمَاذَا يَتَعَلَّقُ الضَّمَانُ، مِنْهُ مَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ، وَمِنْهُ مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي خِلَالِ الدِّيَاتِ.
فَرْعٌ
لَوِ اتَّخَذَ دَارَهُ الْمَحْفُوفَةَ بِالْمَسَاكِنِ حَمَّامًا، أَوِ إِصْطَبْلًا، أَوْ طَاحُونَةً، أَوْ حَانُوتَهُ فِي صَفِّ الْعَطَّارِينَ حَانُوتَ حَدَّادٍ أَوْ قَصَّارٍ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُ، لِلْإِضْرَارِ. وَأَصَحُّهُمَا: الْجَوَازُ، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ، وَفِي مَنْعِهِ إِضْرَارٌ بِهِ. وَهَذَا إِذَا احْتَاطَ وَأَحْكَمَ الْجُدْرَانَ بِحَيْثُ يَلِيقُ بِمَا يَقْصِدُهُ، فَإِنْ فَعَلَ مَا الْغَالِبُ فِيهِ ظُهُورُ الْخَلَلِ فِي حِيطَانِ الْجَارِ، فَالْأَصَحُّ: الْمَنْعُ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَدُقَّ الشَّيْءَ فِي دَارِهِ دَقًّا عَنِيفًا تَتَزَعْزَعُ مِنْهُ الْحِيطَانُ، أَوْ حَبَسَ الْمَاءَ فِي مِلْكِهِ بِحَيْثُ تَنْتَشِرُ مِنْهُ النَّدَاوَةُ إِلَى حِيطَانِ الْجَارِ.
وَلَوِ اتَّخَذَ دَارَهُ مَدْبَغَةً، أَوْ حَانُوتَهُ مَخْبَزَةً حَيْثُ لَا يُعْتَادُ، فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُمْنَعُ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ، فَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَفِيهِ تَرَدُّدٌ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. وَاخْتَارَ الرُّوْيَانِيُّ فِي كُلِّ هَذَا، أَنْ يَجْتَهِدَ الْحَاكِمُ فِيهَا، وَيَمْنَعَ إِنْ ظَهَرَ لَهُ التَّعَنُّتُ وَقَصْدُ الْفَسَادِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي إِطَالَةِ الْبَنَّاءِ وَمَنْعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ.
فَرْعٌ
لَوْ حَفَرَ فِي مِلْكِهِ بِئْرَ بَالُوعَةٍ وَفَسَدَ بِهَا مَاءُ بِئْرِ جَارِهِ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ، لَكِنْ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَخَالَفَ فِيهِ الْقَفَّالُ.
فَرْعٌ
لَا يُمْنَعُ مِنْ إِحْيَاءِ مَا وَرَاءَ الْحَرِيمِ، قَرُبَ، أَمْ بَعُدَ، وَسَوَاءٌ أَحْيَاهُ أَهْلُ الْعُمْرَانِ، أَمْ غَيْرُهُمْ.