الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأقرئه مني السلام، وقل له: أخوك إلياس يقرئك السلام، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فجاء حتى عانقه، وقعدا يتحدثان فقال له: يا رسول الله: إني إنما آكل في كل سنة يوما، وهذا يوم فطري فكل أنت، وأنا، فنزلت عليهما مائدة من السماء، وخبز، وحوت، وكرفس، فأكلا، وأطعماني، وصليا العصر، ثم ودعني، وودعته، ثم رأيته مر على السحاب نحو السماء.
قال الحاكم: صحيح الإسناد، وقال الإمام الذهبي: بل هو موضوع، قبح الله من وضعه، قال -أي الذهبي: وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم أن يصحح مثل هذا.
وأخلق بهذا أن يكون موضوعا، كما قاله الإمام الحافظ الناقد البصير الذهبي.
29-
الإسرائيليات في قصة داود عليه السلام:
ومن الإسرائيليات التي تخل بمقام الأنبياء، وتنافي عصمتهم، ما ذكره بعض المفسرين في قصة سيدنا داود عليه السلام عند تفسير قوله تعالى:
فقد ذكر ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبغوي، والسيوطي في:"الدر المنثور"4
1 أكفلنيها: ضمها إلى.
2 عزني: غلبني في القول لقوته، وجاهه، وضعفي.
3 ص الآية: 21-25.
4 ج 5 ص 300-302.
من الأخبار ما تقشعر منه الأبدان، ولا يوافق عقلا، ولا نقلا، عن ابن عباس، ومجاهد، ووهب بن منبه، وكعب الأحبار، والسدي، وغيرهم ما محصلها: أن داود عليه السلام حدث نفسه: إن ابتلي أن يعتصم فقيل له: إنك ستبتلى وستعلم اليوم الذي تبتلى فيه، فخذ حذرك، فقيل له: هذا اليوم الذي تبتلى فيه فأخذ الزبور1، ودخل المحراب، وأغلق بابه، وأقعَدَ خادمه على الباب، وقال: لا تأذن لأحد اليوم، فبينما هو يقرأ الزبور، إذ جاء طائر مذهب يدرج بين يديه، فدنا منه، فأمكن عليه لينظر أين وقع، فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض، فلما رأت ظله نفضت شعرها، فغطت جسدها به، وكان زوجها غازيا في سبيل الله، فكتب داود إلى رأس الغزاة: أن اجعله في حملة التابوت2، وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم، وإما أن يقتلوا، فقدمه في حملة التابوت، فقُتِل، وفي بعض هذه الروايات الباطلة أنه فعل ذلك ثلاث مرات، حتى قتل في الثالثة، فلما انقضت عدتها، خطبها داود عليه السلام، فتسور عليه الملكان، وكان ما كان، مما حكاه الله تعالى:"رُفِع ذلك إلى النبي".
ولم يقف الأمر عند هذه الروايات الموقوفة عن بعض الصحابة والتابعين، ومسلمة أهل الكتاب بل جاء بعضها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب: "الدر": وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن أبي حاتم بسند ضعيف، عن أنس رض الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقمل:"إن داود عليه السلام حين نظر إلى المرأة، قطغ3 على بنى إسرائيل وأوصى صاحب الجيش، فقال: إذا حضر العدو فقرب فلانا بين يدي التابوت"، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به، من قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم معه الجيش، فقتل، وتزوج المرأة، ونزل الملكان على داود عليه السلام فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه،
1 كتاب داود عليه السلام.
2 صندوق فيه بعض مخلفات أنبياء بني إسرائيل فكانوا يقدمونه بين يدي الجيش كي ينصروا.
3 هي هكذا في "الدر المنثور" وفي تفسير البغوي ولعلها قطع.
فأكلت الأرض جبينه، وهو يقول في سجوده:"رب ذل داود ذلة أبعد مما بين المشرق والمغرب، رب إن لم ترحم ضعف داود، وتغفر ذنوبه جعلت ذنبه حديثا في المخلوق من بعده، فجاء جبريل عليه السلام من بعد أربعين ليلة، فقال: يا داود إن الله قد غفر لك، وقد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة، فقال: يا رب دمي الذي عند داود قال جبريل: ما سألت ربك عن ذلك، فإن شئت لأفعلن، فقال، نعم، فعرج جبريل، وسجد داود عليه السلام، فمكث ما شاء الله، ثم نزل، فقال: قد سألت الله يا داود عن الذي أرسلني فيه، فقال: قل لداود: إن الله يجمعكما يوم القيامة، فيقول له: هب لي دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا رب، فيقول: فإن لك في الجنة ما شئت، وما اشتهيت عوضًا"، وقد رواها البغوي أيضا عن طريق الثعلبي1 والرواية منكرة مختلقة على الرسول. وفي سند هذه الرواية المختلقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن لهيعة، وهو مضعف في الحديث، وفي سندها أيضا: يزيد بن أبان الرقاشي، كان ضعيفا في الحديث.
وقال فيه النسائي، والحاكم أبو أحمد: إنه متروك، وقال فيه ابن حبان: كان من خيار عباد الله، من البكائين بالليل، غفل عن حفظ الحديث شغلا بالعبادة، حتى كان يقلب كلام الحسن يجعله عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تحل الرواية عنه إلا على جهة التعجب2.
وقال العلامة ابن كثير في تفسيره3: "وقد ذكر المفسرون ههنا قصة، أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي، عن أنس رضي الله عنه، ويزيد وإن كان من الصالحين، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة".
ومن ثم يتبين لنا: كذب رفع هذه الرواية المنكرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نكاد نصدق ورود هذا عن المعصوم، وإنما هي اختلاقات، وأكاذيب من إسرائيليات أهل
1 تفسير البغوي على هامش تفسير ابن كثير ج 7ص 191، 192، الدر المنثور ج5 ص 300-301.
2 تهذيب التهذيب ج11 ص 309.
3 ج 7 ص 189 "ط المنار".
الكتاب، وهل يشك مؤمن عاقل يقر بعصمة الأنبياء في استحالة صدور هذا عن داود عليه السلام، ثم يكون على لسان من؟ على لسان من كان حريصا على تنزيه إخوانه الأنبياء عما لا يليق بعصمتهم، وهو: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومثل هذا التدبير السيء، والاسترسال فيه على ما رووا لو صدر من رجل من سوقة الناس وعامتهم، لاعتبر هذا أمرا مستهجنا مستقبحا، فكيف يصدر من رسول جاء لهداية الناس، زكت نفسه، وطهرت سريرته، وعصمه الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو الأسوة الحسنة لمن أرسل إليهم؟!!
ولو أن القصة كانت صحيحة كانت صحيحة لهذبت بعصمة داود، ولنفرت منه الناس، ولكان لهم العذر في عدم الإيمان، فلا يحصل المقصد الذي من أجله أرسل الرسل، وكيف يكون على هذه الحال من قال الله تعالى في شأنه:{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ، قال ابن كثير في تفسيرها:"وإن له يوم القيامة لقربة الله عز وجل بها وحسن مرجع وهو: الدرجات العالية في الجنة لنبوته وعدله التام في ملكه، كما جاء في الصحيح: "المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يقسطون في حكمهم وما ولوا" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أحب الناس إلى يوم القيامة وأقربهم مني مجلسًا إمام عادل، وإن أبغض الناس إليَّ يوم القيامة، وأشدهم عذابا: إمام جائر" رواه أحمد، والترمذي1.
ولكي يستقيم هذا الباطل قالوا: إن المراد بالنعجة هي: المرأة، وأن القصة خرجت مخرج الرمز والإشارة، ورووا أن الملكين لما سمعا حكم داود، وقضاءه بظلم صاحب التسع والتسعين نعجة لصاحب النعجة، قالا له: وما جزاء من فعل ذلك؟ قال: يقطع هذا، وأشار إلى عنقه، وفي رواية:"يضرب من ههنا، وههنا وههنا" وأشار إلى جبهته، وأنفه، وما تحته، فضحكا، وقالا، "أنت أحق بذلك منه، ثم صعدا".
وذكر البغوي في تفسيره وغيره، عن وهب بن منبه: أن داود لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة، لا يرقأ دمعه ليلا، ولا نهارا، وكان أصاب الخطيئة، وهو ابن
1 المرجع السابق ص 195.
سبع وسبعين سنة، فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام: يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه، ويوم يسيح في الفيافي، والجبال، والسواحل، ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب، فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه، فيساعدونه على ذلك، فإذا كان يوم نياحته يخرج في الفيافي، فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، ويبكي معه الشجر، والرمال، والطير، والوحش، حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار، ثم يجيء إلى الجبال فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، وتبكي معه الجبال، والحجارة، والدواب والطير، حتى تسيل من بكائهم الأودية، ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته بالمزامير، فيبكي، وتبكى معه الحيتان، ودواب البحر وطير الماء والسباع1
…
والحق: أن الآيات ليس فيها شيء مما ذكروا، وليس هذا في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وهي التي عليها المعول، وليس هناك ما يصرف لفظ النعجة من حقيقته إلى مجازه، ولا ما يصرف القصة عن ظاهرها إلى الرمز والإشارة.
وما أحسن ما قال الإمام القاضي عياض: "لا تلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب، الذين بدلوا، وغيروا ونقله بعض المفسرين، ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه، ولا ورد في حديث صحيح، والذي نص عليه في قصة داود:{وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} وليس في قصة داود، وأوريا خبر ثابت2.
والمحققون ذهبوا إلى ما ذهب إليه القاضي، قال الداودي: ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم، وقد روي عن سيدنا علي أنه قال: من حدث بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة، وذلك حد الفرية على الأنبياء3، وهو كلام مقبول من حيث المعنى، إلا أنه لم يصح عن الإمام ذلك كما قال العراقي.
1 تفسير البغوي على هامش ابن كثير ج 7 ص 195.
2 الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى ج 2 ص 158.
3 لأن حد القذف لغير الأنبياء ثمانين، فرأى رضي الله عنه تضعيفه بالنسبة إلى الأنبياء وفي الكذب عليهم رمي لهم بما هم براء منه ففيه معنى القذف لداود بالتعدي على حرمات الأعراض والتحايل في سبيل ذلك.
التفسير الصحيح للآيات:
وإذا كان ما روي من الإسرائيليات الباطلة التي لا يجوز أن تفسر بها الآيات، فما التفسير الصحيح لها إذًا؟
والجواب: أن داود عليه السلام كان قد وزع مهام أعماله، ومسئولياته نحو نفسه، ونحو الرعية على الأيام، وخص كل يوم بعمل، فجعل يومًا للعبادة، ويومًا للقضاء وفصل الخصومات، ويومًا للاشتغال بشئون نفسه وأهله، ويومًا لوعظ بني إسرائيل ففي يوم العبادة: بينما كان مشتغلا بعبادة ربه في محرابه، إذ دخل عليه خصمان تسورا عليه من السور، ولم يدخلا من المدخل المعتاد، فارتاع منهما، وفزع فزعًا لا يليق بمثله من المؤمنين، فضلًا عن الأنبياء المتوكلين على الله غاية التوكل، الواثقين بحفظه، ورعايته ومثل الأنبياء في علوم شأنهم، وقوة ثقتهم بالله والتوكل عليه ألا تعلق نفوسهم بمثل هذه الظنون بالأبرياء، ومثل هذا الظن وإن لم يكن ذنبا في العادة، إلا أنه بالنسبة وظن بهما سوءا، وأنهما جاءا ليقتلاه، أو يبغيا به شرًّا، ولكن تبين له أن الأمر على خلاف ما ظن، وأنهما خصمان جاءا يحتكمان إليه، فلما قضى بينهما، وتبين له أنهما بريئان مما ظنه بهما، استغفر ربه، وخر ساجدا لله تعالى؛ تحقيقًا لصدق توبته والإخلاص له، وأناب إلى الله غاية الإنابة.
للأنبياء يعتبر خلاف الأولى، والأليق بهم، وقديما قيل:"حسنات الأبرار سيئات المقربين"، فالرجلان خصمان حقيقة، وليسا ملكين كما زعموا، والنعاج على حقيقتها، وليس ثمة رموز ولا إشارات، وهذا التأويل هو الذي يوافق نظم القرآن ويتفق وعصمة الأنبياء، فالواجب الأخذ به، ونبذ الخرافات، والأباطيل، التي هي من صنع بني اسرائيل، وتلقفها القصاص وأمثالهم ممن لا علم عندهم، ولا تمييز بين الغث والسمين. وقيل: إن الذي صنعه داود: أنه خطب على خطبة أوريا، فآثره أهلها عليه، وقد كانت الخطبة على الخطبة حرام في شريعتهم، كما هي حرام في شريعتنا.
وقيل: إنه طلب من زوجها أوريا أن ينزل له عنها وقد كان هذا في شريعتهم، ومستساغا عندهم، وقيل: إنه أوخذ؛ لأنه حكم بمجرد سماعه لكلام أحد الخصمين،