الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان من معارف اليهود، وما كان من معارف النصارى التي تدور حول الأناجيل وشروحها، والرسل وسيرهم ونحو ذلك؛ وإنما سميت إسرائيليات لأن الغالب والكثير منها إنما هو من ثقافة بني إسرائيل، أو من كتبهم ومعارفهم، أو من أساطيرهم وأباطيلهم1.
والحق: أن ما في كتب التفسير من المسيحيات أو من النصرانيات هو شيء قليل بالنسبة إلى ما فيها من الإسرائيليات، ولا يكاد يذكر بجانبها، وليس لها من الآثار السيئة ما للإسرائيليات؛ إذ معظمها في الأخلاق، والمواعظ، وتهذيب النفوس، وترقيق القلوب، وأما:
1 التفسير والمفسرون ج 1 ص 165.
ب-
الموضوعات:
فهي جمع موضوع، اسم مفعول، وهو في اللغة مأخوذ من وضع الشيء يضعه وضعا، إذا حطه وأسقطه. أو من وضعت المرأة ولدها إذا ولدته1، وأما في اصطلاح أئمة الحديث فالموضوع: هو الحديث المختلق2 المصنوع، المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على من بعده من الصحابة والتابعين، ولكنه إذا أطلق ينصرف إلى الموضوع على النبي صلى الله عليه وسلم؛ أما الموضوع على غيره فيقيد، فيقال مثلا: موضوع على ابن عباس، أو على مجاهد مثلا، والمناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي ظاهرة، أما على المعنى اللغوي الأول: فلأنه منحط ساقط عن الاعتبار، وأما على الثاني: فلما فيه من معنى التوليد، والتسبب في الوجود؛ والموضوع من حيث مادته ونصه نوعان:
1-
أن يضع الواضع كلاما من عند نفسه، ثم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابي، أو التابعي.
2-
أن يأخذ الواضع كلاما لبعض الصحابة أو التابعين، أو الحكماء، والصوفية، أو ما يروى في الإسرائيليات، فينسبه إلى رسول الله؛ ليروج وينال القبول، مثال ما هو من قول الصحابة: ما يروى من حديث: "أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون
1 انظر القاموس والمصباح المنير مادة "وضع".
2 الاختلاق أعم من أن يكون ابتدع كلاما لم يسبق إليه. أو أخذ كلام الغير، ثم نسبه إلى النبي، فيكون الاختلاق في نسبته إليه.
بغيضك يوما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما"، فالصحيح أنه من قول سيدنا علي كرم الله وجهه، ومثال ما هو من قول التابعين: حديث: "كأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل...." فهو من كلام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ومثال ما هو من كلام الحكماء "المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء"، فمن قول الحارث بن كلدة طبيب العرب.
[ومثال ما هو من كلام المتصوفة ما يروى: "كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، فعرفتهم بي، فعرفوني"]
ومثال ما هو من الإسرائيليات: "ما وسعني سمائي ولا أرضى ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن". قال الإمام ابن تيمية: هو من الإسرائيليات، وليس له أصل معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[ومثل ذلك ما روي عن ابن عباس من أن: "عمر الدنيا سبع آلاف سنة" فهو من الإسرائيليات.
وقد نسب إلى النبي وإلى الصحابة والتابعين كثير من الإسرائيليات في بدء الخلق والمعاد وأخبار الأمم الماضية، والكونيات، وقصص الأنبياء، وسأذكر الكثير من ذلك فيما بعد، وبعضها من الخطورة على الدين بمكان.
حكم الكذب على رسول الله:
جمهور العلماء سلفا وخلفا على أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر، ولا يكفر من فعل ذلك إلا إذا كان مستحلا الكذب عليه وبالغ الإمام أبو محمد الجويني1 والد إمام الحرمين من أئمة الشافعية فقال:"يكفر من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم" نقل ذلك عنه ابنه إمام الحرمين وقال: إنه لم يره لأحد من الأصحاب، وأنه هفوة من والده.
ووافق الجويني على هذه المقالة: الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير.
1 هو أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه الفقيه الشافعي والد إمام الحرمين المتوفى في ذي القعدة سنة ثمانٍ وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين، وأربعمائة بنيسابور، والجويني نسبة إلى جوين -بضم الجيم، وفتح الواو، وسكون الياء- ناحية من نواحي نيسابور تشتمل على قرى مجتمعة.
المالكي1 وغيره من الحنابلة، ووافقهم الإمام الذهبي في تعمد الكذب في الحلال والحرام، ولعل مما يشهد لهم قوله تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّه} 2 فقد نفت الآية الإيمان عمن يفتري الكذب على الله، والكذب على الرسول كذب على الله، قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن كذبا علي ليس ككذبٍ على أحد، فمن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وقد روى من طريق متكاثرة، حتى قال العلماء: إنه متواتر، ففي قوله:"إن كذبا علي ليس ككذب على أحد" ما يشعر بأن حكم الكذب عليه ليس كحكم الكذب على غيره، والكذب على غيره كبيرة، فيكون الكذب عليه أكثر من كبيرة، أو أكبر الكبائر.
وفي معنى الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم الكذب على الصحابة والتابعين، ولا سيما فيما لا مجال للرأي فيه مما لا يعرف إلا من المشرع؛ لأن له حكم المرفوع إلى النبي كما نبه على ذلك أئمة الحديث4؛ وأيضا فبعض الفقهاء يعتبر قولهم حجة في التشريع، إلا أني لم أقف على من قال: إن الكذب عليهم كفر، وإنما الذي قال الجويني: إنما هو في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم:
ولا يدخل في الكذب الرواية بالمعنى؛ لأنها إنما أجازها العلماء لعارف بالألفاظ ومدلولاتها معرفة دقيقة عالم بالشريعة ومقاصدها خبير بما يغير المعاني ويفسرها، فهي لم تخرج عند التحقيق عن مدلول اللفظ الأصلي.
هل تقبل رواية من كذب في الحديث وإن تاب؟:
ولما للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من إفساد في الشريعة وإبطال في الدين: ذهب
1 هو الإمام أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي قاضي الإسكندرية وعالمها المشهور المتوفى سنة 683هـ وصاحب كتاب "الانتصاف على تفسير الكشاف".
2 النحل: 105.
3 النجم: 3، 4.
4 هذا بالنسبة إلى ما يروى عن الصحابي، أما ما روي عن التابعين فهو مرفوع مرسل، وهناك شرط آخر؛ وهو ألا يكون الصحابي أو التابعي معروفا بالأخذ عن أهل الكتاب الذين أسلموا وإلا احتمل أن يكون من الإسرائيليات "نزهة النظر في شرح نخبة الفكر" للحافظ ابن حجر، التدريب للسيوطي ص 63، 64".
جمهور المحدثين إلى أن من كذب في حديث واحد فسق، وردت روايته، وبطل الاحتجاج بها، وإن تاب وحسنت توبته، ومن هؤلاء الأئمة: أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي والصيرفي، والسمعاني1.
قال أبو بكر الصيرفي: "كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله لتوبة تظهر" وقال أبو المظفر السمعاني: "من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه".
وخالف في ذلك الإمام النووي، فقال: والمختار القطع بصحة توبته في هذا، وقبول رواياته بعدها، إذا صحت توبته بشروطها2. والحق أن ما ذهب إليه النووي قوى من جهة الاستدلال، ولكن مذهب الجمهور أحوط للأحاديث، وأبعد من الريبة في الرواية، ومن ثم نرى: أن أئمة الحديث احتاطوا له غاية الاحتياط، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
حكم رواية الموضوعات والإسرائيليات الباطلة:
قال العلماء سلفا وخلفا: لا يحل رواية الحديث الموضوع في أي باب من الأبواب، إلا مقترنا ببيان أنه موضوع مكذوب، سواء في ذلك ما يتعلق بالحلال والحرام، أو الفضائل، أو الترغيب والترهيب أو القصص والتواريخ3، ومن رواه من غير بيان وضعه فقد باء بالإثم العظيم، وحشر نفسه في عداد الكذابين، والأصل في ذلك: ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من حدث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين" 4 وفي حكم الموضوعات الإسرائيليات التي ألصقت بالنبي زورا، وكذبا عليه.
1 علوم الحديث لابن الصلاح ص 128.
2 صحيح مسلم بشرح النووي ج 1 ص 70.
3 علوم الحديث لابن الصلاح ص 109 والتدريب للسيوطي ص 98.
4 روي "يرى" بضم الياء بمعنى يظن، وبفتح الياء بمعنى يعلم فيشمل الوعيد من علم أو ظن وروي "الكاذِبَيْن" بصيغة المثنى بفتح الباء وكسر النون أي من وضعه ومن رواه؛ لأنه أذاعه وبصيغة الجمع بكسر الباء وفتح النون أي صار في عدادهم وواحدا منهم؛ لإشاعته الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تحذير من يروي الموضوع المكذوب:
وقد حكم كثير من علماء الحديث وأئمته على من روى حديثا موضوعا من غير تنبيه إلى وضعه وتحذير الناس منه بالتعزير والتأديب، قال أبو العباس السراج: شهدت محمد بن إسماعيل البخاري، ودفع إليه كتاب من ابن كرام يسأله عن أحاديث، منها حديث الزهري عن سالم عن أبيه1 مرفوعا:"الإيمان لا يزيد ولا ينقص" فكتب محمد بن إسماعيل على ظهر كتابه: "من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد، والحبس الطويل".
بل بالغ بعضهم، فأحل دمه، قال يحيى بن معين -وهو من كبار أئمة الجرح والتعديل- لما ذكر له حديث سويد الأنباري: "من عشق، وعف، وكتم، ثم مات مات شهيدا.
قال: هو حلال الدم2!!
وقد سئل الإمام ابن حجر الهيثمي عن خطيب يرقى المنبر كل جمعة، ويروي أحاديث، ولم يبين مخرجيها ودرجتها فقال: ما ذكره من الأحاديث في خطبه من غير أن يبين رواتها، أو من ذكرها فجائز، بشرط أن يكون من أهل المعرفة بالحديث، أو ينقلها من مؤلفٍ صاحبُه كذلك.
وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث، أو في خطب ليس مؤلفها كذلك، فلا يحل؛ ومن فعل عزر عليه التعزير الشديد، وهذا حال أكثر الخطباء؛ فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث حفظوها، وخطبوا بها من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلا أم لا، فيجب على حكام كل بلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك.
1 هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
2 من المؤسف المحزن أن بعض أهل الهوى والغرام، وبعض الكتاب الهدامين للأخلاق لا يزالون يرددون هذا الحديث المكذوب، فمن لهم بمثل يحيى بن معين يحل دماءهم؟!
ما أشبه الليلة بالبارحة:
أقول: لا يزال بعض الخطباء، ومقيمي الشعائر الدينية الذين ليس له علم بالحديث رواية ودراية، ولا سيما من لم يتأهلوا التأهل اللازم لمن يتولى الإمامة والخطابة، والذين لا يزالون يخطبون من الدواوين، أو يعتمدون في خطبهم على الكتب التي لا يُعتمد عليها في معرفة الأحاديث والتمييز بين صحيحها، وضعيفها، وموضوعها، والذين جعلوا غايتهم استرضاء الجماهير، فيذكرون لهم أحاديث في الترغيب والترهيب، وحكايات وقصصا مثيرة عجيبة، أغلب الظن أنها من وضع القصاص، وجهلة الزهاد الذين استجابوا ذلك، وكان جل هممهم تملق الجماهير، واستمالتهم بذكر المبالغات، والتهاويل والعجائب، والغرائب وما أجدر هذه الفئة بأن يحال بينها وبين الخطابة، والوعظ، والتذكير، حتى لا يسمموا أفكار الناس ويفسخوا القيم الدينية والخلقية الصحيحة، وتكون حجة على الإسلام لا حجة له، وأحب أن أقول لهؤلاء وأمثالهم: إن في الأحاديث الصحاح والحسان، والقصص الثابت الصحيح غنية عن الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة والقصص، وجهلة الزهاد الذين استباحوا ذلك، وكان جل همهم تملق الجماهير، واستمالتهم بذكر المبالغات، والتهاويل والعجائب، والغرائب وما أجدر هذه الفئة بأن يحال بيها وبين الخطابة، والوعظ، والتذكير، حتى لا يسموا أفكار الناس ويفسخوا القيم الدينية والخلقية الصحيحة، وتكون حجة على الإسلام لا حجة له، وأحب أن أقول لهؤلاء وأمثالهم: إن في الأحاديث الصحاح والحسان، والقصص الثابت الصحيح غنية عن الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة والقصص المكذوب لمن يريد أن يرقق القلوب ويستولي على النفوس، فليتق الله هؤلاء في الناس، وفي أنفسهم.
ومن الحق في هذا المقام أن أقول أيضا: إن الكثيرين من المدرسين الأزهريين والوعاظ، والمرشدين، والدعاة إلى الله، والأئمة والخطباء المؤهلين تأهيلا علميا سليما، في الأزهر، وجامعته والجامعات الإسلامية الأخرى لهم من علمهم، ووعيهم الديني والثقافي وسعة اطِّلاعهم ما يعصمهم من الوقوع في رواية الموضوعات والقصص الباطلة، والإسرائيليات الزائفة، وتحري الصدق والحق في رواية الأحاديث، وذكر الأقاصيص، وأخذهم أنفسهم بالرجوع في ذلك إلى كتب العلماء الثقات الحفاظ للحديث، أو الذين لهم علم به ودراية، وهو أثر من آثار النهضة العلمية الحديثة من يوم أن أنشئت الدراسات العليا التخصصية في كليات الجامع الأزهر الشريف، عمره الله بالعلم والعلماء.
فقد كان من شعب هذه الدراسات: "شعبة التفسير والحديث" منذ ما يقرب من نصف قرن، وقد أتى على هذه الشعب حين من الدهر كان الطلاب فيها يستوعبون كل ما كتب وأُلِّفَ في العلم الذي تخصصوا فيه، وكذلك كان هناك تخصص في "الدعوة
والإرشاد"، ويا ليت هذه التخصصات تعود كما كانت؛ مناهج، ودراسة.
وكذلك كان من أسباب هذه النهضة الحديثة: إنشاء دور "للحديث في مصر، وفي الحجاز وغيرهما من الأقطار الإسلامية شرقا وغربا، وظهور علماء في كل قطر إسلامي أحبوا دراسة الحديث وعلومه" وإنا لنرجو أن يعود للحديث وعلومه سيرته الأولى، ومجده الغابر فاللهُمَّ حقق.
متى نشأ الوضع في الحديث؟:
كان من أثر اتساع رقعة الإسلام: دخول كثير من أبناء الأمم المغلوبة فيه ومنهم الفارسي، ومنهم الرومي، ومنهم المصري، ومنهم المخلص للإسلام، ومنهم المنافق الذي يكن في نفسه الحقد على الإسلام ويتظاهر بحبه، ومنهم الزنديق الذي يسعى بشتى الوسائل لإفساده وتشكيك الناس فيه، ومنهم اليهودي الذي لا يزال مشدودا إلى يهوديته، ومنهم النصراني الذي لا يزال يحن إلى نصرانيته.
وقد انتهز أعداء الإسلام من المنافقين، والزنادقة، واليهود سماحة السيد الحيي: عثمان بن عفان رضي الله عنه ودماثة خلقه، فبذروا البذور الأولى للفتنة، فكان ابن سبأ اليهودي الخبيث يطوف في الأقاليم، ويولب عليه الناس، وقد أخفى هذه السموم التي كان ينفثها تحت ستار التشيع، وحب سيدنا علي، وآل البيت الكرام، فصار يزعم أن عليا رضي الله عنه هو وصي النبي، والأحق بالخلافة حتى من أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما ووضع على النبي صلى الله عليه وسلم حديثا:"لكل نبي وصي، ووصيِّي عليٌّ". لم يقف الأمر عند حد هذه الدعوة، بل ادعى ألوهيته، وقد طارده سيدنا عثمان، فهرب، فلما كان عهد سيدنا علي طارده وأحل دمه، فما كان ليرضى بهذه الدعوات الخبيثة التي يشنها هذا المغيظ المحنق على الإسلام والمسلمين.
ومما يؤسف له أن دعوته وجدت آذانا صاغية من بعض الأمة وبخاصة أهل مصر، وقد نجح هذا اليهودي الماكر في إثارة الفتة التي أطاحت برأس الخليفة الثالث: عثمان رضي الله عنه، وما إن تولى الخلافة سيدنا علي حتى وجد التركة مثقلة بالخلافات، فقد ناصبه أنصار عثمان العداوة من أول يوم، واستفحلت الفتنة، ووقعت حروب طاحنة، فني فيها كثيرون من خيرة المسلمين، وظهرت طائفة أخرى وهم الخوارج الذين لم يرتضوا
التحكيم بين على، ومعاوية، وكانت النهاية؛ أن أطاحت الفتنة ركنا آخر من أركان الإسلام، وهو الخليفة الرابع، وأضحت الأمة الإسلامية في فرقة واختلاف، ودب إليها داء الأمم قبلها، وتمخضت الفتنة عن شيعة1 ينتصرون لسيدنا علي، وعثمانية ينتصرون لسيدنا عثمان، وخوارج2 يعادون الشيعة وغيرهم، ومروانية ينتصرون لمعاوية وبني أمية، وقد استباح بعض هؤلاء لأنفسهم أن يؤيدوا أهواءهم ومذاهبهم بما يقويها، وليس ذلك إلا في الحديث بأنواعه من أحكام، وتفسير، وسير، وغيرها.
وكان ذلك حوالي سنة أربعين للهجرة، وما زالت حركة الوضع تسير، وتتضخم حتى دخل بسببها على الحديث بلاء غير قليل، وهذا العصر هو ما يعرف بعصر صغار الصحابة وكبار التابعين.
روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه بسنده عن طاوس، قال:"جاء هذا إلى ابن عباس -يعني بشير بن كعب- فجعل يحدثه، فقال له ابن عباس: عد لحديث كذا، وكذا. فعاد له، ثم حدثه فقال له: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال له: لا أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا، أم أنكرت حديثي كله، وعرفت هذا، فقال له ابن عباس: إن كنا نحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه".
وابن عباس توفي سنة ثمان وستين للهجرة.
وروى بسنده عن مجاهد، قال: "جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدِّث، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن3 لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يابن عباس: ما لي أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله
1 هم أنصار سيدنا علي، وهم طوائف وفرق كثيرة وأخبث هذه الطوائف وأبعدهم عن الإسلام الرافضة الذين رفضوا إمامة الشيخين: أبي بكر، وعمر، بل وكفروهما وأعدل طوائف الشيعة وأقربهم إلى الإسلام الزيدية وهم يفضلون عليا على غيره، ولكنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل.
2 هم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم بينه وبين معاوية وقالوا: لا حُكْم إلا لله، وقالوا بصحة خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان في سنيه الأولى قبل أن يغير ويبدل، وصحة خلافة علي قبل الرضا بالتحكيم، وهم من أصلب الطوائف في عقيدتهم وأكثرهم عبادة.
3 أي لا يسمع.
صلى الله عليه وسلم- ولا تسمع، فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف".
وروى بسنده عن طاوس، قال:"أتي ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي رضي الله عنه، فمحاه إلا قدر"1 وأشار سفيان بن عيينة بذراعه، وروى بسنده عن أبي إسحاق قال:"لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي رضي الله عنه قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله، أي علم أفسدوا" قال الإمام النووي: أشار بذلك إلى ما أدخلته الروافض، والشيعة في علم علي رضي الله عنه وحديثه، وتقولوه عليه من الأباطيل وأضافوه إليه من الروايات، والأقاويل المفتعلة، والمختلقة2.
وذكر الإمام الذهبي في "التذكرة": عن خزيمة بن نصر، قال:"سمعت عليا بصفين يقول: قاتلهم الله، أي عصابة بيضاء سودوا وأي حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أفسدوا"3
وروى الإمام مسلم بسنده، عن سفيان بن عيينة، قال: سمعت رجلا سأل جابرا4 عن قوله عز وجل: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} فقال جابر: لم يجئ تأويل هذه!! قال سفيان: وكذب، فقلنا لسفيان: وما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة تقول: إن عليًّا في السحاب، فلا نخرج مع من خرج من ولده، حتى ينادي منادٍ من السماء -يريد عليا أنه ينادي: اخرجوا مع فلان.
يقول جابر: فهذا تأويل هذه الآية، وكذب، كانت في إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم5 وهذا لون من ألوان الدس، والوضع في التفسير، وسيأتي من ذلك أمثلة لا تحصى.
1 أي قدر أي ذراع بدليل تفسير سفيان، والظاهر أنه كان درجا مستطيلا.
2 صحيح مسلم بشرحه ج1 من ص 80-83.
3 تذكرة الحفاظ ج 1 ص 11 ترجمة سيدنا علي [ولعل مراده ما وضعه محبوه في مدحه، وما وضعه مبغضوه في ذمه] .
4 أي ابن يزيد الجحفي الشيعي الغالي قال فيه الإمام أبو حنيفة: "ما رأيت أكذب من جابر الجحفي" والشيعة يعتبرونه من شيوخهم.
5 صحيح مسلم بشرح النووي ص 102.
وروى بسنده عن ابن سيرين1 قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم" وروى بسنده عن ابن المبارك قال: "بيننا وبين القوم القوائم"، يعني الإسناد2.
قال الإمام النووي: ومعنى هذا الكلام: إن جاء بإسناد صحيح قبلنا حديثه، وإلا تركناه، فجعل الحديث كالحيوان؛ لا يقوم بغير إسناد، كما لا يقوم الحيوان بغير قوائم. إلى غير ذلك من الروايات التي تدل على ظهور الوضع بعد عصر الفتنة، وأن كبار أئمة الحديث والجرح والتعديل كانوا للحركة بالمرصاد.
عرض سريع لحركة الوضع:
في عصر التابعين ومن جاء بعدهم ضعفت الخاصية التي كانت في العصر الأول وهي: التثبت والتحري في الحديث، فكثرت الرواية وانتشر الحديث، وفشا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض صحابته، وبعد أن كان الخلفاء الراشدون المهديون يدعون إلى التحوط، والتثبت في المرويات، أضحى الأمراء والخلفاء في شغل عن ذلك بالملك والسياسة.
وقد اشتدت الخصومة بين الأحزاب السياسية، وجاءت الدولة العباسية فتقرب إليها ضعفاء الإيمان بالاختلاق في فضائلها، والحط من شأن أعدائها، بل بلغ من بعضهم أنه كان يضع الأحاديث، أو يتزيد فيها، إرضاء لما يهوى بعض الخلفاء، وذلك كما حدث من أبي البختري الكذاب: فقد دخل وهو قاضٍ على الرشيد، وهو يطير الحمام، فقال له: هل تحفظ في هذا شيئا، فروى حديثا:"أن النبي كان يطير الحمام"، وقد أدرك الرشيد كذبه، وزجره، وقال: لولا أنك من قريش لعزلتك3!! وكما حدث من
1 ابن سيرين ولد لسنتين من خلافة عثمان وتوفي سنة 110، وهو من خيار التابعين.
2 صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص 84، 88.
3 ويا ليته عزله لينزجر، ويرعوي غيره.
غياث ابن إبراهيم أنه دخل على المهدي وهو يلعب بالحمام، فروى له حديث:"لا سبق إلا في نصل أو حافر، أو جناح"، فزاد "أو جناح" إرضاء للمهدي، وقد روي أن المهدي قال له وهو خارج: أشهد أن قفاك قفا كذاب، وأمر بذبح الحمام، والكذب هو اللفظ الأخير فحسب، أما أصل الحديث فثابت، رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
وكذلك كان لنشأة الفرق الكلامية وغيرها من أهل السنة ومعتزلة، ومرجئة، وجبرية، وجهمية وكرامية و..... أثر كبير في إذكاء حركة الوضع، فقد حاول ضعفاء الإيمان، وأرقاء الدين منهم أن يؤيدوا بعض مذاهبهم وآرائهم بالأحاديث، وقد وضعت أحاديث في نصرة بعض هذه المذاهب، أو في الرد على بعضها الآخر، بحيث لا يشك الناظر فيها أنها مختلقة موضوعة، وذلك مثل: ما روي: "الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص"، ومثل:"الإيمان قول، والعمل شرائعه لا يزيد ولا ينقص" ومثل: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -وقد سئل عن الإيمان: هل يزيد وينقص، فقال:"لا، زيادته كفر، ونقصانه شرك" وإن أصبع الإرجاء لتظهر واضحة في مثل ما روي: "كما لا ينفع مع الشرك شيء، كذلك لا يضر مع الإيمان شيء"، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يظهر عليها أثر الصنعة والاختلاق1، وكذلك كان للخلافات الفقهية أثر في إذكاء حركة الوضع، فوضعت أحاديث في فضائل بعض الأئمة، كما وضعت أحاديث أخرى في ذم بعضهم، وكذلك وضعت أحاديث في الاستشهاد لبعض الفروع الفقهية ليس عيها شيء من نور النبوة، وإنما أقرب إلى قواعد الأصوليين والفقهاء، وكتب التخاريج لبعض كتب الفقه فيها من ذلك شيء غير قليل.
وكذلك وجد القصاص وأمثالهم من جهلة المتصوفة الذين استجازوا وضع الأحاديث حسبة لله تعالى، "وسنرد عليهم فيما يأتي إن شاء الله تعالى"، وقد كان القصاص في كل عصر سبب شر كثير.
وكذلك جدت أحداث استغلت للوضع كفتنة خلق القرآن وكحركة الشعوبية2،
1 اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للإمام السيوطي ج1 ص 22 وما بعدها.
2 الشعوبية: هم الذين يفضلون العجم على العرب، وقد نشأت في آخر العهد الأموي، وقويت في عهد الدولة العباسية.