الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من التفسير وغيره، فكل ذلك من وضْع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء، والسخرية بالرسل وأتباعهم، أقول: وسواء أكان عوج بن عوق شخصية وجدت حقيقة، أو شخصية خيالية: فالذي ننكره هو: ما أضفوه عليه من صفات وما حاكوه حوله من أثواب الزور والكذب والتجرؤ على أن يفسر كتاب الله بهذا الهراء، وليس في نص القرآن ما يشير إلى ما حكوه وذكروه، ولو من بعد، أو على وجه الاحتمال، ثم أين زمن نوح من زمن موسى عليهما السلام وما يدل عليه آية:{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} كان في زمن موسى قطعًا، ولا مرية في هذا فهل طالت الحياة بعوق حتى زمن موسى؟! بل قالوا: إن موسى هو الذي قتله، ألا لعن الله اليهود، فكم من علم أفسدوا، وكم من خرافات وأباطيل وضعوا.
9-
الإسرائيليات في قصة التيه:
فمن هذه الأخبار العجيبة التي رويت في قصة التيه: ما رواه ابن جرير بسنده عن الربيع، قال: لما قال لهم القوم ما قالوا، ودعا موسى عليهم، أوحى الله إلى موسى أنها محرمة عليهم أربعين سنة، يتيهون في الأرض، فلا تأسَ على القوم الفاسقين، وهم يومئذ ستمائة ألف مقاتل فجعلهم فاسقين بما عصوا، فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستة، أو دون ذلك، يسيرون كل يوم جادين، لكي يخرجوا مها، حتى يمسوا، وينزلوا، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا، وأنهم اشتكوا إلى موسى ما فعل بهم فأنزل عليهم المن والسلوى1، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، ينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته، وسأل موسى ربه أن يسقيهم، فأتى بحجر الطور، وهو حجر أبيض، إذا ما أنزل القوم ضربه بعصاه، فيخرج منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط منهم عين، قد علم كل أناس مشربهم..... وكذلك: روي أن ثيابهم ما كانت تبلى، ولا تتسخ، وكذلك نقل بعض المفسرين كالزمخشري وغيره: بأنهم كانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا،
1 المن: شيء كالعسل كان ينزل على الشجر من السماء فيأخذونه ويأكلونه، والسلوى: طير كالسماني.
وكذلك: ذكروا أن الحجر كان من الجنة، ولم يكن حجرا أرضيا، ومنهم من قال: كان على هيئة رأس إنسان، ومنهم من قال: كان على هيئة رأس شاة، وقيل: كان طوله عشرة أذرع، وله شعبتان تتقدان في الظلام، إلى غير ذلك من تزيدات بني إسرائيل، وليس في القرآن ما يدل على هذا الذي ذكروه في وصف الحجر، مع أنه لو أريد بالحجر الجنس، وأن يضرب أي حجر ما، لكان أدل على القدرة، وأظهر في الإعجاز.
وقد لاحظ ابن خلدون من قبل المغالط التي تدخل في مثل هذه المرويات، فقال في مقدمته المشهورة:
اعلم: أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم، وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبُّت، يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلات والمغالط؛ لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، طبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني. ولو قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلَّة القدم، والحيد عن جادة الصدق، وكثيرا ما وقع للمؤرخين، والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات، والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا، أو سمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر، والبصيرة في الأخبار فضلُّوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم، والغلط، سيما في إحصاء الأعداد من الأموال، والعساكر إذا عرضت في الحكايات؛ إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر، ولا بد من ردها إلى الأصول، وعرضها على القواعد، وهذا: كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل، وأن موسى أحصاهم في التيه، بعد أن أجاز من كان يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين، فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون، ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام، واتساعها لمثل هذا العدد من الجيوش، لكل مملكة حصة من الحامية.
تتسع لها، وتقوم بوظائفها، وتضيق عما فوقها، تشهد بذلك العوائد المعروفة، والأحوال المألوفة.....
ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير، يشهد لذلك: ما كان من غلبة بختنصر لهم، والتهامه بلادهم، واستيلائه على أمرهم، وتخريب بيت المقدس قاعدة ملتهم، وسلطانهم وهو من بعض عمال مملكة فارس..... وكانت ممالكهم بالعراقين، وخراسان، وما وراء النهر، والأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير، ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريبا منه، وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة وعشرين ألفا، كلهم متبوع على ما نقله "سيف" قال: وكانوا في أتباعهم أكثر من مائتي ألف، وعن عائشة، والزهري: أن جموع رستم التي حف بهم سعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفا كلهم متبوع.
وأيضا: فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد، لاتسع نطاق ملكهم، وانفسح مدى دولتهم، فإن العمالات، والممالك في الدول على نسبة الحامية، والقبيل القائمين بها في قلتها وكثرتها حسبما نبين ذلك في فصل الممالك من الكتاب الأول1، والقوم لم تتسع ممالكهم إلى غير الأردن، وفلسطين من الشام، وبلاد يثرب، وخيبر، من الحجاز على ما هو المعروف.
وأيضا: فالذي بين موسى، وإسرائيل إن هو إلا أربعة آباء، على ما ذكره المحققون، فإن موسى بن عمران بن يصهر بن قاهَِث بفتح الهاء وكسرها بن لاوي بكسر الواو وفتحها ابن يعقوب وهو إسرائيل الله، هكذا نسبه في التوراة، والمدة بينهما على ما نقله المسعودي، قال: دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط، وأولادهم، حين أتوا إلى يوسف سبعين نفسا، وكان مقامهم بمصر، إلى أن خرجوا مع موسى عليه السلام إلى التيه مائتين وعشرين سنة، تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة، ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد!! وإن زعموا أن عدد تلك الجيوش إنما كان في زمن سليمان ومن بعده، فبعيد أيضا؛ إذ ليس بين سليمان، وإسرائيل إلا أحد عشر
1 يريد بالكتاب الأول "مقدمته المشهورة" وقد قسمها إلى فصول.