الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان عليه أن يسمع كلام الخصم الآخر1، وقد قيل: إذا جاءك أحد الخصمين، وقد فقئت عينه، فلا تحكم له؛ لجواز أن يكون خصمه قد فقئت عيناه، وهذه الأقوال الثلاثة ونحوها لست منها على ثلج، ولا اطمئنان، فإنها وإن كانت لا تخل بالعصمة لكنها تخدشها، ثم هي لا تليق بالصفوة المختارة من الخلق، وهم الأنبياء، فالوجه الجدير بالقبول في تفسير الآيات هو الأول فعض عليه، واشدد به يديك.
1 الشفا ج2 ص158.
30-
الإسرائيليات في قصة سليمان عليه السلام:
ومن الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَاَبَ} 1.
وقد ذكر الكثير منها في تفاسيرهم، ابن جرير، وابن أبي حاتم، والثعلبي، والبغوي، وغيرهم، وذكركل ما روى منذ لك من غير تمييز بين الصحيح والضعيف، والغث والسمين، السيوطي، في "الدر المنثور" وليته إذ فعل نقد كل رواية، وبين منزلتها من القبول والرد، وما هو من الإسرائيليات، وما ليس منها، قال السيوطي في "الدر": أخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، بسند قوي عن ابن عباس-رضي الله عنهما قال:
أراد سليمان –عليه السلام أ، يدخل الخلاء2، فأعطى الجرادة خاتمه، وكانت جرادة امرأته، وكانت أحب نسائه إليه، فجاء الشيطان في صورة سليمان، فقال لها: هاتي خاتمي، فأعطته، فلما لبسه، دانت له الجن، والإنس، والشياطين، فلما خرج سليمان –عليه السلام من الخلاء، قال لها: هاتي خاتمي، فقالت: قد أعطيته سليمان، قال: أنا سليمان، قالت: كذبت، لست سليمان، فجعل لا يأتي أحدا يقول له: أنا سليمان إلا كذبه، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك: عرف أنه من أمر الله –عز وجل وقام الشيطان يحكم بين الناس، فلما أراد الله تعالى أن يرد على سليمان –عليه السلام سلطانه ألقى الله في قلول الناس إنكار ذلك الشيطان، فأرسلوا إلى
1 سورة ص: 34.
2 المرحاض.
نساء سليمان –عليه السلام فقالوا لهن: أيكون من سليمان شء؟ قلن: نعم، إنه يأتينا1 ونحن حيض، وما كان يأتينا قبل ذلك! فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له: ظن أن أمره قد انقطع، فكتبوا كتبا فليها سحر، ومكر، فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أثاروها2، وقرأوه على الناس، قالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس، ويغلبهم، فأكفر الناس سليمان، فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم، فطرحه في البحر، فتلقته سمكة، فأخذته، وكان سليمان –عليه السلام يعمل على شط البحر بالأجر، فجاء رجل، فاشترى سمكا؛ فيه تلك السمكة في بطنها الخاتم، فدعا سليمان –عليه السلام فقال له: تحمل لي هذا السمك، ثم انطلق إلى منزله، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فأخذها سليمان –عليه السلام فشق بطنها، فإذا الخاتم في جوفها، فأخذه، فلبسه، فلما لبسه دانت له الإنس، والجن، والشياطين، وعاد إلى حاله، وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر، فأرسل سليمان –عليه السلام في طلبه، وكان شيطانا مريدا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما، فجاؤوا فبنوا عليه بناينا من رصاص، فاستيقظ، فوثب، فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا أن دار معه الرصاص، فأخذوه وأوثقوه: وجاءوا به إلى سليمان –عليه السلام، فأمر به، فنقب له في رخام، ثم أدخل في جوفه، ثم سد بالنحاس، ثم أمر به، فطرح في البحر، فذلك قوله: {ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه جسدا
…
} ، يعني الشيطان الذي كان تسلط عليه.
وقد روى السيوطي في "الدر" روايات أخرى، عن ابن عباس وقتادة، في أن هذا الشيطان كان يسمى صخرا، وروي عن مجاهد: أن اسمه آصف، وأن سليمان سأله: كيف تفتنون الناس؟! فقال الشيطان: أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه نبذه آصف في البحر، فساح سليمان، وذهب ملكه، وقعد آصف على كرسيه، حتى كان ما كان من أمر السمكة، والعثور على الخاتم، ورجوع ملك سليمان إليه.
غير أن في رواية قتادة، ومجاهد: أن الشيطان لم يسلط على نساء سليمان، ومنعهن الله
1 يباشرنا.
2 أخرجوها.
منه، فلم يقربهن، ولم يقربنه1
ونحن لا نشك في أن هذه الخرافات من أكاذيب بني إسرائيل، وأباطيلهم، وأن ابن عباس وغيره تلقوها عن مسلمة أهل الكتاب وليس أدل على هذا مما ذكره السيوطي في "الدر" قال: وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أربع آيات من كتاب الله لم أدر ما هي؟ حتى سألت عنهن كعب الاحبار رضي الله عنه
…
وذكر منها وسألته عن قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} قال: الشيطان أخذ خاتم سليمان عليه السلام الذي فيه ملكه، فقذف به في البحر، فوقع في بطن سمكة، فانطلق سليمان يطوف؛ إذ تصدق عليه بتلك السمكة فاشتواها، فأكلها، فإذا فيها خاتمه، فرجع إليه ملكه2.
وكذا ذكرها مطولة جدا البغوي في تفسيره، عن محمد ابن إسحاق عن وهب بن منبه3.
قوة السند لا تنافي كونها إسرائيليات:
وأحب أن أؤكد هنا ما ذكرته قبل: من أن قوة السند لا تنافي كونها مما أخذه ابن عباس وغيره عن كعب الأحبار وأمثاله من مسلمة أهل الكتاب، فثبوتها في نفسها لا ينافي كونها من إسرائيليات بني إسرائيل، وخرافاتهم، وافتراءتهم على الأنبياء.
سلفي من العلماء في رد هذا الغثاء:
وقد سبق إلى التنبيه إلى ذلك: الإمام القاضي عياض في "الشفا": "ولا يصح ما نقله الإخباريون من تشبه الشيطان به، وتسلطه على ملكه، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه؛ لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا، وقد عصم الأنبياء من مثله"4، وكذلك الإمام الحافظ الناقد: ابن كثير في تفسيره 5 قال بعد أن ذكر الكثير منها:
1 الدر المنثور ج 5 ص 309-311.
2 المرجع السابق ص 310.
3 تفسير البغوي على هامش تفسير ابن كثير ج 7 ص 2091.
4 الشفا ج 2 ص 162.
5 ج 6 ص 206، 207.
وهذه كلها من الإسرائيليات، ومن أنكَرِها ما قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين، قال: حدثنا محمد بن العلاء، وعثمان بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالوا: حدثنا أبو معاوية "قال": أخبرنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} قال: أراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يدخل الخلاء..... ثم ذكر الرواية التي ذكرناها أولا.
ثم قال: إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قوي، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما إن صح عنه من أهل الكتاب، وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنهم يكذبون عليه، ولهذا كان في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر النساء، فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف: أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان، بل عصمهن الله عز وجل منه، تشريفا، وتكريما لنبيه عليه السلام، وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وجماعة آخرين، وكلها متلقاة عن أهل الكتاب، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
أقول: كلها أكاذيب، وتلفيقات، ولكن بعض الكذبة من بني إسرائيل كان أحرص، وأبعد غورا من البعض الآخر، فلم يتورط فيما تورط فيه البعض، من ذكر تسلط الشيطان على نساء داود عليه السلام وذلك حتى يكون لما لفقه، وافتراه، بعض القبول عند الناس، أمام البعض الآخر، فكان ساذجا في كذبه، مغفلا في تلفيقه،، فترك آثار الجريمة بينة واضحة، وبذلك: اشتمل ما لفقه على دليل كذبه.
ومن العجيب: أن الإمام السيوطي نبه في كتابه: "تخريج أحاديث الشفاء": أنها إسرائيليات، تلقاها ابن عباس عن أهل الكتاب، وليته نبه إلى ذلك في التفسير.
نسج القصة مهلهل:
والحق: أن نسج القصة مهلهل، عليه أثر الصنعة والاختلاق، ويصادم العقل السليم، والنقل الصحيح في هذا.
وإذا جاز للشيطان أن يتمثل برسول الله سليمان عليه السلام فأي ثقة بالشرائع تبقى بعد هذا؟! وكيف يسلط الله الشيطان على نساء نبيه سليمان، وهو أكرم على الله من ذلك؟!
وأي ملك أو نبوة يتوقف أمرهما على خاتم يدومان بدوامه، ويزولان بزواله؟! وما عهدنا في التاريخ البشري شيئا من ذلك.
وإذا كان خاتم سليمان عليه السلام بهذه المثابة فكيف يغفل الله شأنه في كتابه الشاهد على الكتب السماوية ولم يذكره بكلمة؟! وهل غير الله سبحانه خلقة سليمان في لحظة، حتى أنكرته أعرف الناس به، وهي: زوجته جرادة؟!!
الحق: أن نسج القصة مهلهل، لا يصمد أمام النقد، وأن آثار الكذب والاختلاق بادية عليها.
نسبة بعض هذه الأكاذيب إلى رسول الله:
وقد تجرأ بعض الرواة، أو غلط، فرفع بعض هذه الإسرائيليات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال السيوطي في "الدر المنثور": وأخرج الطبراني في الأوسط1، وابن مردويه بسند ضعيف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد لسليمان ولد، فقال الشيطان تواريه من الموت، قالوا: نذهب به إلى المشرق، فقال: يصل إليه الموت، قالوا: فإلى المغرب قال: يصل إليه الموت، قالوا: إلى البحار، قال: يصل إليه الموت، قالوا: نضعه بين السماء والأرض، قال: نعم، ونزل عليه ملك الموت، فقال: إني أمرت بقبض نسمة طلبتها في البحار، وطلبتها في تخوم الأرض فلم أصبها، فبينا أنا قاعد أصبتها، فقبضتها وجاء جسده، حتى وقع على كرسي سليمان، فهو قول الله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} ".
وهذا الحديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يكون ذلك من عمل بعض الزنادقة، أو غلط بعض الرواة، وقد نبه على وضعه الإمام: الحافظ أبو الفرج ابن
1 يعني في كتابه "المعجم الأوسط".