الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووهبا، وعبد الله بن سلام، وتميم الداري، وأمثالهم كانوا وضاعين، يتعمدون الكذب، والاختلاق من عند أنفسهم، وإنما الذي قالوه عنهم: أنهم كانوا هم الواسطة في حمل ونقل معارف أهل الكتاب إلى المسلمين، وأن البعض رواها عنهم، فليس الذنب ذنبهم، وإنما الذنب ذنب من نقلها، ورواها عنهم من غير بيان لكذبها وبطلانها.
ولما كانت رواية الإسرائيليات تدور غالبا على كعب، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وأنهم هم الذين كان الاتهام منصبا عليهم أكثر من غيرهم، فسأذكر لكل منهم ترجمة، كي يتبين المنصف آراء أئمة الجرح والتعديل فيهم:
ترجمات:
1-
عبد الله بن سلام:
هو: أبو يوسف عبد الله بن سلام1 بن الحارث من بني قينقاع، وهو: من ذرية يوسف الصديق عليه السلام، وكان اسم عبد الله بن سلام في الجاهلية الحصين، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله رواه ابن ماجه، وكان من حلفاء الخزرج من الأنصار، أسلم أول ما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة2 ولإسلامه قصة ذكرها البخاري في صحيحه؛ ذلك أن النبي مدة مقامه في دار الصحابي الجليل: أبي أيوب الأنصاري قدم عليه أحد أحبار اليهود وعلمائهم، وهو: عبد الله بن سلام، وكان يعلم من كتبهم أوصاف النبي المبعوث في آخر الزمان فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سأله بعض أسئلة، تأكد منها أنه نبي؛ لأنه ما يعلمها إلا نبي مرسل، فأسلم، وقال للرسول: لا تعلن إسلامي، حتى تسأل اليهود عني؛ لأنهم إن علموا إسلامي فسينقصونني، فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وسألهم عنه، فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، فلما أخبرهم بإسلامه، قالوا: شرنا وابن شرنا. وإليك هذه القصة، كما رواها البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال في حديث هجرة النبي، وصاحبه الصديق إلى المدينة: "فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم جاء
1 بفتح السين. وتخفيف اللام.
2 فتح الباري ج 7 ص 101 ط البهية.
عبد الله بن سلام، فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم، وابن سيدهم، وأعلمهم، وابن أعلمهم فادعهم، فاسألهم عني، قبل أن يعلموا أني قد أسلمت؛ فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم فأقبلوا، فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا"، قالوا: ما نعلمه؟ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم قالها ثلاث مرار1، قال:"فأي رجل فيكم عبد الله ابن سلام؟ " قالوا: ذاك سيدنا، وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا، قال:"أفرأيتم إن أسلم"؟ قالوا: حاشا الله ما كان ليسلم...." وكررها ثلاثا وأجابوه كذلك ثلاثا"، قال:"يا ابن سلام، اخرج عليهم"، فخرج عليهم، فقال: يا معشر اليهود: اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، وفي رواية أخرى: أنهم قالوا: شرنا، وابن شرنا، وتنقصوه قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله2، وقد أسلم بإسلامه أهل بيته، وعمة له تسمى: خالدة3.
وقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، وقالوا: إنه فيه نزلت الآية الكريمة: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِه} 4 الآية، روى البخاري في صحيحه بسنده، عن سعد بن أبي وقاص، قال: وما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام5، قال: وفيه: نزلت هذه
1 يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كرر عليهم مقالته ثلاثا، وهم كرروا ردهم هذا ثلاثا.
2 صحيح البخاري، باب هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة، وباب من غير إضافة، مذكور قبل باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة.
3 فتح الباري ج 7 ص 202.
4 الأحقاف الآية: 10.
5 الظاهر أن سيدنا سعدا قال ذلك بعد موت معظم المبشرين بالجنة؛ لأن عبد الله بن سلام عاش بعدهم، ولم يتأخر معه من العشرة إلا سعد، وسعيد، على أنه سماعه ذلك في حق عبد الله بن سلام لا ينفي سماعه مثل ذلك في حق غيره.
الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِه} الآية1 قال: لا أدري قال مالك: الآية، أو في الحديث2.
وروى البخاري في صحيحه بسنده عن قيس بن عباد، قال:"كنت جالسا في مسجد المدينة، فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوَّز3 فيهما، ثم خرج وتبعته، فقلت: إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل من أهل الجنة، قال: والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم4، وسأحدثك لم ذاك؟ رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روض، ذكر من سعتها، وخضرتها، وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض، وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارق، قلت: لا أستطيع، فأتاني مِنْصَف5 فرفع ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت العروة فقيل لي: استمسك فاستيقظت وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تلك الروضة: الإسلام، وذلك العمود، عمود الإسلام، وتلك العروة عروة الإسلام، فأنت على الإسلام حتى تموت"، وذاك الرجل: عبد الله بن سلام6.
وقد روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أبناه: يوسف ومحمد، وأبو هريرة، وأبو بردة بن أبي موسى الأشعرى، وعطاء بن يسار وغيرهم، وشهد مع سيدنا عمر رضي الله عنه فتح بيت المقدس والجابية، وقد عده بعضهم في
1 فإن قيل السورة مكية؟ قلنا: لا ينافي هذا كون السورة مكية، فقد حزم بعض العلماء بأن الأحقاف مكية إلا هذه الآية، ولا مانع أن تكون السورة كلها مكية، وتقع الإشارة فيها إلى ما سيقع بعد الهجرة، من شهادة عبد الله بن سلام.
2 يعني أن نزول الآية في حق عبد الله قاله الإمام مالك من قبل نفسه، أو هو مروي في الحديث، وقد رجح الحافظ في الفتح" أنها من قول مالك.
3 أي تخفف فيهما.
4 هذا إما أن يكون قاله تواضعا، أو لبيان أنهم إن قالوا ذلك فإنما قالوه عن علم؛ لأنه ليس لأحد من أهل العلم والتثبت أن يقول ما لا يعلم، ويؤيد هذا القصة التي ذكرها.
5 بكسر الميم وسكون النون وفتح الصاد: أي خادم.
6 صحيح البخاري، باب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن سلام.
البدريين، وأما ابن سعد: فذكره في الطبقة الثالثة ممن شهد الخندق، وما بعدها وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعين من الهجرة.
فها نحن نرى: أنه كان من أعلم اليهود؛ بشهادتهم، وأنه كان من علماء الصحابة بعد إسلامه، وبحسبه فضلا: شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، وشهادة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له كما سمعت، فهل يجوز في العقل أن يشهد النبي بالجنة لرجل يصدر منه الكذب، وفي أي شيء؟ في الحديث!! ثم هو صحابي، والصحابة كلهم عدول، فمن المستبعد جدًّا أن يكذب في الرواية، ولم أر أحدا من علماء الجرح والتعديل، وأئمة العلم والدين تناوله، أو ذكر فيه ما يخدش عدالته إلا ما كان من الكتاب المتأخرين الذين تأثروا بكلام المستشرقين، وأتباعهم، ونوايا المستشرقين ولا سيما اليهود منهم، نحو الإسلام، والنبي، والصحابة موسومة بالخبث، والعداوة، وسوء الظنة، ولا أدرى كيف نعدل عن كلام الأئمة الأثبات، ونأخذ بكلام المستشرقين؟!!
وأحب أن أقرر هنا: أن حفاظ الحديث، ونقاده البصيرين به قد تعرضوا لكل المرويات عن عبد الله بن سلام وغيره، وبينوا الصحيح من الضعيف، والمقبول من المردود.
ونحن لا ننفي أن عبد الله بن سلام، روى بعض ما علمه من معارف أهل الكتاب وثقافتهم، ورويت عنه، ولكن الذي ننفيه، أن يكون ألصق هذه المرويات بالنبي صلى الله عليه وسلم ونسبها إليه زورا، وأنه كان وضاعا كذابا، ومن يرى خلاف هذا فنحن نطالبه بالحجة، والبرهان، وكانت وفاته سنة ثلاث وأربعين للهجرة.
2-
كعب الأحبار:
هو: كعب بن ماتع1، بن عمرو بن قيس من آل ذي رعين، وقيل: ذي الكلاع الحميري، وقيل: غير ذلك في اسم جده ونسبه، يكني أبا إسحاق، كان في حياة
1 بكسر التاء المثناة بعدها عين مهملة.
النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، وكان يهوديا عالما بكتبهم، حتى كان يقال له: كعب الحبر، وكعب الأحبار1.
وكان إسلامه في خلافة سيدنا عمر، وقيل: في خلافة الصديق، وقيل: إنه أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن تأخرت هجرته، فمن ثم لم يره، والأول هو الأصح والأشهر، وقد سكن المدينة وغزا الروم في خلافة عمر، ثم تحول في عهد سيدنا عثمان إلى الشام، فسكنها، إلى أن مات بحمص، في خلافة عثمان سنة اثنتين، أو ثلاث، أو أربع وثلاثين، والأول هو الأكثر، وقد كان عنده علم بكتب أهل الكتاب، والثقافة اليهودية، كما كان له حظ من الثقافة الإسلامية ورواية الأحاديث.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه مرسل؛ لأنه لم يلقَ النبي ولم يسمع منه، وعن عمر، وصهيب، والسيدة عائشة، وروى عنه من الصحابة معاوية، وأبو هريرة، وابن عباس، وبقية العبادية، وعطاء بن أبي رباح، وغيره من التابعين.
وقد أثنى عليه العلماء، قال ابن سعد: ذكروه لأبي الدرداء فقال: "إن عند ابن الحميرية لعلما كثيرا" والظاهر أنه أراد مما يتعلق بكتب أهل الكتاب، وأخرج ابن سعد من طريق عبد الرحمن بن جبير بن نفير، قال: قال معاوية: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء، إن كان عند العلم كالبحار، وإن كنا فيه لمفرطين"، وقال فيه الحافظ ابن حجر في "الفتح": كان من أخيار الأحبار2.
رأي علماء الجرح والتعديل فيه:
وعلماء الجرح والتعديل، وهم الذين لا تخفى عليهم حقيقة أي راوٍ، مهما تستر، لم يتهموه بالوضع والاختلاق، والجمهور على توثيقه، ولم نجد له ذكرا في كتب الضعفاء والمتروكين، وقد ترجم له الإمام الذهبي ترجمة قصيرة في:"تذكرة الحفاظ"، وتوسع ابن عساكر في ترجمته، في:"تاريخ دمشق"، وأطال أبو نعيم في:"حلية الأولياء".
1 الحبر "بكسر الحاء، وتفتح": المداد الذي يكتب به، ويجمع على أحبار ولقب به العالم لكثرة كتابته، وملازمته له.
2 فتح الباري ج 13 ص 285.
في أخباره، وعظاته وتخويفه لعمر، وترجم له الحافظ ابن حجر في:"الإصابة"، و:"تهذيب التهذيب"، وتكاد تتفق كلمة النقاد على توثيقه1.
مقالة سيدنا معاوية بن كعب:
ولكن قد يعكر على ما ذكرنا: ما ورد في حقه في الصحيح: روى البخاري في صحيحه بسنده، عن حميد بن عبد الرحمن: أنه سمع معاوية وهو يحدث رهطا من قريش بالمدينة -يعني لما حج في خلافته- وذكر كعب الأحبار، فقال:"إن كان من أصدق -وفي رواية: لمن أصدق- هؤلاء الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب"2.
وظاهر كلام معاوية، يخدش كعبا في بعض مروياته، كما يدل أيضا على أن الذين كانوا يحدثون بمعارف أهل الكتاب، كان فيهم صادقون، وأن كعبا كان من أصدق هؤلاء، ولكنها لا تدل على أنه وضاع أو كذاب.
وقد حسن العلماء الظن بكعب، فحملوا هذه الكلمة على محمل حسن قال ابن التين: وهذا نحو قول ابن عباس في حق كعب المذكور: "بدل من قبله فوقع في الكذب، قال والمراد بالمحدثين، أنداد كعب ممن كانوا من أهل الكتاب، وأسلموا، فكان يحدث عنهم، وكذا من نظر في كتبهم، فحدث عما فيها، قال: ولعلهم كانوا مثل كعب إلا أن كعبا كان أسد منهم بصيرة، وأعرف بما يتوقاه، وقال ابن حبان في "الثقات": أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به، ولم يرد أنه كان كذابا، وقال ابن الجوزي: المعنى: أن بعض الذي يخبر به كعب عن أهل الكتاب يكون كذابا، لا أنه يتعمد الكذب3.
والظاهر: أن سيدنا معاوية رضي الله عنه لم يقل مقالته هذه في كعب الأحبار إلا بعد أن اختبره في مروياته، وآرائه، فوجد بعضها لا يوافق الحق والصدق، وأنه كان
1 مقالات الكوثري ص 31.
2 صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء.
3 فتح الباري ج 13 ص 284، 285.
يذكر آراء، وأقوالا ليست صحيحة، وتحتاج إلى المراجعة والتثبت.
وليس أدل على هذا: من هذه الحادثة التي كانت بين معاوية، وكعب، فقد روى ابن لهيعة قال: حدثني سالم بن غيلان، عن سعيد بن أبي هلال: أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار: أنت تقول: إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟! فقال له كعب: إن كنت قلت ذلك فإن الله قال: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} ، وهذا إن صح: يدل على أنه كان يذكر آراء من عند نفسه، وباجتهاده في بعض الروايات، وهي غير صحيحة، وإلا فلو كان موجودا في التوراة أو في غيرها لكان الأقرب في الرد أن يقول في الرد: وجدت ذلك في كتب الأولين.
وقد علق على هذه الحادثة الحافظ ابن كثير، فقال: وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب، والحق مع معاوية في هذا الإنكار؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب: إن كنا لنبلو عليه الكذب، يعني فيما ينقله، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه، ولكن الشأن في صحفه: أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل، مصحَّف، محرَّف، مختلق، ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شيء منها بالكلية، فإنه دخل منها على الناس شر كثير، وفساد عريض. وتفسير كعب قول الله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} بأنه يربط خيله بالثريا غير صحيح، ولا مطابق للواقع؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك، ولا إلى الترقي في أسباب السماوات، وإنما التفسير الصحيح: أن الله يسر له الأسباب أي الطرق، والوسائل إلى فتح الأقاليم والبلاد، وكسر الأعداء، وكبت الملوك، وإذلال أهل الشرك فقد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببا1.
وكذلك: نجد أبا هريرة أيضا يراجع كعبا في بعض أقواله، فقد سأله عن الساعة التي في يوم الجمعة، لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئا، إلا أعطاه إياه"، فيجيبه كعب: بأنها في جمعة واحدة من السنة، فيرد عليه أبو هريرة قوله هذا، ويبين له: أنها في كل جمعة، فيرجع كعب إلى التوراة، فيرى الصواب مع أبي
1 تفسير ابن كثير والبغوي ج 5 ص 223، 224.
هريرة، فيرجع إليه، وكذلك: نجد أبا هريرة يسأل عبد الله بن سلام، عن تحديد هذه الساعة، ويقول له: أخبرني ولا تضنَّ علي، فيجيبه ابن سلام، بأنها آخر ساعة في يوم الجمعة، فيرد عليه أبو هريرة بقوله: كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة، وقد قال الرسول:"لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي"؟!، وتلك الساعة لا يصلى فيها، فيجيبه بقوله: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي"؟ 1.
ولو أن الصحابة راجعوا أهل الكتاب في كل مروياتهم التي أخذوها عنهم، لكان من وراء ذلك خير كثير، ولخلت كتب التفسير من هذا الركام من الإسرائيليات، التي تصادم العقل السليم، والنقل الصحيح، ولكن هذا ما كان.
ومع هذا: لم نعلم أحدًا طعن فيه، ورماه بالكذب والاختلاق إلا ما كان من بعض المتأخرين2.
ومهما يكن من شيء فقد تبين لنا أنه ما كان وضاعا يعتمد الكذب، وأن الإسرائيليات التي رواها، إن كان وقع فيها كذب، وأباطيل، فذلك يرجع إلى من نقل عنهم من أسلافه الذين حرفوا وبدلوا، وإلى بعض كتب اليهود التي حشيت بالأكاذيب، والخرافات وإما إلى خطئه في التأويل كما في قصة ذي القرنين، وزعم كعب أنه كان يربط خيله في الثريا، ويفسر بعض الآيات الواردة في القصة بذلك.
وإما إلى إستناده إلى الظن والحدس من غير دليل، كما في قصته مع الصحابي الجليل أبي هريرة في الساعة التي في يوم الجمعة، وزعمه أنها في جمعة واحدة في السنة، لا في كل جمعة، ثم رجوعه إلى ما رآه أبو هريرة من أنها في كل جمعة من العام.
ومع هذا: ترى أنه كان أولى به وأجمل وهو عالم مسلم، لو أنه تحرى الحق، والصدق، وميز في مروياته بين الغث والسمين، وما يجوز نقله، وما لا يجوز، فإن ناشر مثل هذا لا يخلو من مؤاخذة وإثم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "من
1 التفسير والمفسرون ج 1 ص 170، 171، عن القسطلاني ج 2 ص 190.
2 هو السيد محمد رشيد رضا في مقدمة تفسير "المنار" ج 1 ص 9، والأستاذ أحمد أمين في فجر الإسلام ص 198، وفي ضحاه وكذلك قالا في وهب بن منبه.
حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"، رواه مسلم، وكنا نحب لو أنه أراحنا من كل هذا الركام المتهافت، الذي سمم العقول والأفكار، وجرَّ على المسلمين البلاء.
3-
وهب بن منبه:
وهب بن منبه الصنعاني اليمني، وهو: من خيار التابعين، وُلِدَ في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه، روى عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وغيرهما، وروى عنه عمرو بن دينار المكي، وعوف بن أبي جميلة العبدري، وابناه عبد الله، وعبد الرحمن، وغيرهم وأخرج له البخاري1، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وكانت وفاته بصنعاء، سنة عشر ومائة.
وثقه الجمهور، وخالف الفلاس، فقال: كان ضعيفا، وكان شبهته في هذا أنه كان يُتَّهَم بالقول بالقدر2، وصنف فيه كتابا، ثم صح عنه أنه رجع عنه، قال حماد بن سلمة: عن أبي سنان، سمعت وهب بن منبه يقول: كنت أقول بالقدر، حتى قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتاب الأنبياء: من جعل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر". فتركت قولي"3، ولم أر أحدًا طعن فيه بالوضع، أو الاختلاق، والكذب، إلا ما قاله بعض المتأخرين كما أسلفت، وكان كثير النقل عن كتب أهل الكتاب، ويظهر أنه كانت له ثقافة واسعة بكتب الأولين، وحكمهم، وأخبارهم، وقد ذكر عنه ابن كثير في بدايته حكما صائبة، ومواعظ كثيرة، وقصصا استغرقت بضعا وعشرين صحيفة، وليس فيها ما يستنكر إلا القليل وكذلك نقل عنه في التفسير روايات كثيرة جدا، وجلها من الإسرائيليات.
ونحن لا ننكر أنه بسببه دخل في كتب التفسير إسرائيليات، وقصص بواطل، ولكن الذي ننكره أن يكون هو الذي وضع ذلك، واختلقه من عند نفسه، ولكنا مع هذا: لا نخليه من التبعة، والمؤاخذة؛ أن كان واسطة من الوسائط التي نقلت هذا إلى المسلمين، وألصقت بالتفسير إلصاقا، والقرآن منها بريء ويا ليته ما فعل.
1 روى له البخاري حديثًا واحدًا، صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كتابة العلم.
2 أي أن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية.
3 مقدمة فتح الباري ج 2 ص 171 ط منير.