الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال الإمام الآلوسي في تفسيره، بعد أن ذكر بعض مما ذكرنا: وعظم بلائه عليه السلام مما شاع وذاع ولم يختلف فيه اثنان، لكن في بلوغ أمره إلى أن ألقي على كناسة، ونحو ذلك فيه خلاف.
قال الطبرسي: قال أهل التحقيق: إنه لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها؛ لأن في ذلك تنفيرًا، فأما الفقر والمرض، وذهاب الأهل فيجوز أن يمتحنه الله تعالى بذلك.
وفي هداية المريد للَّقاني: أنه يجوز على الأنبياء عليهم السلام كل عرض بشري، ليس محرما ولا مكروها، ولا مباحا مرزيا، ولا مزمنا، ولا مما تعافه الأنفس، ولا مما يؤدي إلى النفرة، ثم قال بعد ورقتين: واحترزنا بقولنا: ولا مزمنا ولا مما تعافه الأنفس.
عما كان كذلك كالإقعاد، والبرص والجذام، والعمى، والجنون.
وأما الإغماء: فقال النووي: لا شك في جوازه عليهم؛ لأنه مرض بخلاف الجنون، فإنه نقص، وقيد أبو حامد يعني الغزالى الإغماء بغير الطويل، وجزم به البلقيني، قال السبكي: وليس كإغماء غيرهم، لأنه إنما يستر حواسهم الظاهرة، دون قلوبهم، لأنها معصومة من النوم الأخف، قالك ويمتنع عليهم الجنون، وإن قل، لأنه نقص، ويلحق به العمى، ولم يعمى نبي قط، وما ذكر عن شعيب من أنه كان ضريرا لم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت. انتهى.
وفرق بعضهم في عروض ذلك بين أن يكون بعد التبليغ وحصول الغرض من النبوة: فيجوز، وبين أن يكون قبل: فلا يجوز، ولعلك تختار القول بحفظهم مما تعافه النفوس، ويؤدي إلى الاستقذار والنفرة كما يشعر به ما روي عن قتادة، ونقله القصاص في كتبهم، وذكر بعضهم أن داءه كان الجدري، ولا أعتقد صحة ذلك، والله تعالى أعلم1.
1 تفسير الآلوسي ج 23 ص 208 ط منير.
32-
الإسرائيليات في قصة إرم ذات العماد:
ومن الإسرائيليات ما يذكره بعض المفسرين: كالطبري، والثعلبي، والزمخشري، وغيرهم في تفسير قول تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} 1.
فقد زعموا أن إرم مدينة، وذكروا في بنائها، وزخارفها ما هو من قبيل الخيال، ورووا في ذلك: أنه كان لعادٍ ابنان: شداد، شديد، فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينة عظيمة، وسورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، ولما تم بناؤها سار إليها بأهب2 مملكته، فلما كان منها مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء، فهلكوا.
وروى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها يعني مدينة إرم، فحمل منها ما قدر عليه، وبلغ خبره معاوية، فاستحضره، وقص عليه فبعث إلى كعب الأحبار، فسأله عنها فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانه أحمر، أشقر، قصير، على حاجبه خال، ثم التفت، فأبصر ابن قلابة، فقال: هذا والله ذاك الرجل3.
وهذه القصة موضوعة، كما نبه إلى ذلك الحفاظ، وآثار الوضع لائحة عليه، وكذلك ما روي أن إرم: مدينة دمشق، وقيل: مدينة الإسكندرية، قال السيوطي في "الدر المنثور": وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: إرم هي دمشق، وأخرج ابن جرير، وعبد بن حميد، وابن عساكر عن سعيد المقبري مثله، وأخرج ابن عساكر، عن سعيد بن المسيب، مثله، قال: واخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن محمد بن كعب القرظي، قال: إرم هي الإسكندرية4.
وكل ذلك من خرافات بني إسرائيل، ومن وضع زنادقتهم، ثم رواها مسلمة أهل الكتاب فيما رووا، وحملها عنهم بعض الصحابة والتابعين، وألصقت بتفسير القرآن.
1 الفجر: 6-8.
2 جمع أهبة، والأهبة بضم الهمزة العدة كما في القاموس.
3 انظر الكشاف للزمخشري عند تفسير هذه الآية، وتفسير البغوي، والنسفي، والخازن عند تفسير هذه الآية.
4 الدر المنثور ج 6 ص 347.
الكريم، قال ابن كثير في تفسيره: ومن زعم أن المراد بقوله: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} : مدينة إما دمشق، أو اسكندرية، أو غيرها، ففيه نظر، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} إن جعل بدلا أو عطف بيان1؟ فإنه لا يتسق الكلام حينئذ، ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد، لا المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم، وإنما نبهت على ذلك؛ لئلا يُغتَرَّ بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عن هذه الآية، من ذكر مدينة يقال لها: إرم ذات العماد، مبنية بلبن الذهب والفضة، وأن حصباءها لآلئ وجواهر، وترابها بنادق المسك
…
فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين، من وضع بعض زنادقتهم؛ ليختبروا بذلك القول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك، وقال فيما روي عن ابن قلابة: فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها، ولو صح إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك، أو أصابه نوع من الهوس، والخيال، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، وهذا ما يقطع بعدم صحته2، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة، والطامعين، والمتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطير الذهب والفضة
…
فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة، والسفهاء، فيأكلونها بالباطل، في صرفها في بخاخير، وعقاقير، ونحو ذلك من الهذيانات، ويطنزون بهم.
الصحيح في تفسير الآية:
والصحيح في تفسير الآية: أن المراد بعاد، إرم ذات العماد، قبيلة عادة المشهورة، التي كانت تسكن الأحقاف، شمالي حضرموت، وهي عاد الأولى، التي ذكرها الله سبحانه في سورة النجم، قال سبحانه:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} ، ويقال لمن بعدهم: عاد الآخرة وهم ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح، قال ابن إسحاق وغيره: وهم الذين بعث فيهم رسول الله هودًا عليه السلام فكذبوه، وخالفوه، فأنجاه الله من بين أظهرهم، ومن آمن معه منهم، وأهلكهم {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ
1 أي لفظ، إرم
…
بدل من عاد أو عطف بيان.
2 تفسير ابن كثير ج 8 ص 196.
نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، َهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَة} ؟
وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما وضع؛ ليعتَبِر بمصرعهم المؤمنون، فقوله تعالى:{إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد} : بدل من عاد أو عطف بيان زيادة تعريف بهم، وقوله تعالى:{ذَاتِ الْعِمَادِ} لأنهم كانوا في زمانهم أشد الناس خلقة، وأعظمهم أجساما، وأقواهم بطشا، وقيل: ذات الأبنية التي بنوها، والدور، والمصانع التي شادوها، وقيل: لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الغلاظ الشداد، والأول أصح وأولى، فقد ذكرهم نبيهم هود بهذه النعمة، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة الله تبارك وتعالى الذي خلقهم ومنحهم هذه القوة فقال:{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. وقال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} 2. وقوله هنا: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاد} أي القبيلة المعروفة المشهورة التي لم يخلق مثلها في بلادهم، وفي زمانهم؛ لقوتهم، وشدتهم وعظم تركيبهم.
ومهما يكن من تفسير ذات العماد: فالمراد القبيلة، وليس المراد مدينة، فالحديث في السورة إنما هو عمن مضى الأقوام الذين مكن الله لهم في الأرض، ولما لم يشكروا نعم الله عليهم، ويؤمنوا به وبرسله، بطش بهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ففيه تخويف لكفار مكة، الذين هم دون هؤلاء في كل شيء وتحذيرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء.
ما روي في عظم طولهم لا يصح:
وليس معنى قوتهم، وعظم خلقهم، وشدة بطشهم، أنهم خارجون عن المألوف في الفطرة، فمن ثم لا نكاد نصدق ما روي في عظم أجسامهم، وخروج طولهم عن المألوف المعروف حتى في هذه الأزمنة، فقد روى ابن جرير في تفسيره، وابن أبي حاتم وغيرهما عن قتادة قال: كنا نحدث أن إرم قبيلة من عاد، كان يقال لهم: ذات
1 الأعراف: 69.
2 فصلت: 15.
العماد، كانوا أهل، {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاد} ، قال: ذكرنا لنا أنهم كانوا اثنى عشر ذراعا1 طولا في السماء، وهذا من جنس ما روي في العماليق، وأغلب الظن عندي أن من ذكر لهم ذلك هم أهل الكتاب الذين أسلموا، وأنه من الإسرائيليات المختلقة.
وأيضا لا نكاد نصدق ما روي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم في هذا، فقد روى ابن أبي حاتم، قال: حدثنا أبي، قال حدثنا أبو صالح كاتب الليث، قال: حدثني معاوية بن صالح، عمن حدثه، عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر إرم ذات العماد فقال:"كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة، فيحملها على كاهله، فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم" 2 ولعل البلاء، والاختلاق فيه من المجهول، وروى مثله ابن مردويه3.
ولعن الله من نسب مثل هذا الباطل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نشك أن هذا من عمل زنادقة اليهود والفرس وأمثالهم، الذين عجزوا أن يقاوموا سلطان الإسلام، فسلكوا في محاربته مسلك الدس، والاختلاق، بنسبة أمثال هذه الخرافات إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم، وأنا أعجب لمسلم يقبل أمثال هذه المرويات التي تزري بالإسلام، وتنفر منه، ولا سيما في هذا العصر الذي تقدمت فيه العلوم، والمعارف، وأصبح ذكر مثل هذا يثير السخرية، والاستنكار والاستهزاء.
1 حوالي ستة أمتار أو تزيد.
2 تفسير ابن كثير ج 8.
3 الدر المنثور ج 6 ص 347.