الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتعصب للجنس، أو اللون، أو اللغة، أو المكان، فوضعت أحاديث في تكفير من قال بخلق القرآن، وتفضيل العجم على العرب، وفي فضائل بعض الشعوب، وفي فضائل بعض الأقاليم والبلدان.
وقد استمرت حركة الوضع إلى عصور متأخرة، فابن الجوزي يذكر في كتبه ما كان من قصاص زمانه، وهذا هو:"الرتن الهندي" يدعي الصحبة في المائة السادسة للهجرة1، ويضع الأحاديث المكذوبة والسيوطي المتوفى سنة 911هـ. يذكر ما ناله من بعض قصاص زمانه لما أنكر عليه رواية أحاديث موضوعة يدعي أنه سمعها، والشيخ اللكنوي الهندي يذكر: أنه اطلع على رسالته في: "تحريم التنباك"؛ وقد استدل فيها مؤلفها ببعض الأحاديث التي وضعها، مثل:"كل دخان حرام".
ومهما يكن من استمرار سوق الوضع قرونا، فقد ناهضها العلماء ولا سيما أئمة الحديث وجهابذته، الذين ألفوا الكتب، ودونوا الدواوين: وميزوا فيها بين الصحيح، والحسن، والضعيف، والموضوع وكذلك وضعوا في التنصيص على الأحاديث الموضوعة كتبا لا يحصيها العد، وكشفوا عن عوارها، وحذروا الناس من الاغترار بها، فجازاهم الله أعظم ما جازى علماء أمة.
1 اقرأ ما كتب عنه في كتب الرجال لترى العجب العجاب. انظر "ميزان الاعتدال" و"لسان الميزان" للحافظ ابن حجر.
جـ
التفسير:
التفسير لغة: مصدر فسره بتشديد السين مأخوذة من الفسر بمعنى البيان يقال: فَسَرت الكتاب "بتخفيف السين" أفسره فسرا وفسَّرته بالتشديد أفسره تفسيرا، وقيل: هو مقلوب من السفر بتقديم الفاء على السين مثل الجذب، والجبذ والمعنى واحد يقال: أسفر الصبح إذا أضاء ففيه معنى الكشف والتوضيح، وقيل: مأخوذ من التفسرة وهي: اسم لما يعرف به الطبيب المرض.
وأما في الاصطلاح: فقد اختلفت أساليب العلماء في تعريفه.
فمنهم من أطال في تعريفه فقال: هو علم نزول الآيات، وشئونها وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها، ومدنيها وبيان محكمها، ومتشابهها، وناسخها،
ومنسوخها، وخاصها، وعامها، ومطلقها، ومقيدها، ومجملهان ومفسرها، وحلالها وحرامها ووعدها، ووعيدها، وأمرها، ونهيها، وعِبَرها، وأمثالها ونحو ذلك1.
ومنهم من توسط كأبي حيان في البحر المحيط فقال في تعريفه: علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية، والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك، ثم أخذ في شرح تعريفه2.
وهذا التعريف غير جَلِيٍّ ولا واضح، وكذلك لم يصرح بالغرضين الأهمين اللذين نزل لهما القرآن: وهما: كونه كتاب الهداية البينة التي هي أوضح الهدايات، وأقومها، والتي لو اتبعها البشر لحققت لهم السعادتين: الدنيوية والأخروية.
والكتاب السماوي المعجز، فهو المعجزة العظمى والآية الكبرى الباقية على وجه الدهر لنبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الزركشي في البرهان: التفسير: علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه، وحِكَمِه، واستمداد ذلك من علم اللغة، والنحو، والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ3.
وهذا التعريف أوضح، وأيسر من التعريفين السابقين، وأدل على الغرضين الأهمين، اللذين ذكرناهما آنفا.
ومن العلماء من أوجز في التعريف، فقال: هو علم يبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم؛ من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية4.
[وأزيد في التعريف فأقول: ومن حيث كونه المعجزة العظمى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم] . والمراد بأحوال القرآن الكريم من حيث كونه كتاب الهداية الأقوم، وكتاب العربية الأكبر، والمعجزة الخالدة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
[ويدخل في ذلك كل ما يتوقف عليه معرفة ذلك من العلم بأسباب النزول، ومناسبات
1 الإتقان في علوم القرآن ج 2 ص 174.
2 البحر المحيط ج1 المقدمة.
3 البرهان ج1 بحث التفسير.
4 منهج الفرقان في علوم القرآن ج 2 ص 6. مناهل العرفان في علوم القرآن ج 1 ص 406 ط الأولى.
الآيات، والمكي والمدني، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ وغيرها] . كل ما يحتاج إليه المفسر من العلوم فهي وسائل لتحقيق هذين الغرضين الأكبرين، ثم إن المفسر حينما يفسر القرآن الكريم سواء أكان بالتفسير بالمأثور، أم بالاجتهاد والرأي المقبول لا يمكنه الجزم والقطع بأن هذا مراد الله تبارك وتعالى، فمن ثَمَّ كان الجزء الأخير في التعريف:"بقدر الطاقة البشرية" احتراسا لا بد منه، ولا يتأتى هذا القطع إلا لنبي مرسل يوحى إليه من ربه، وأما غيره فلا.
والمناسبة بين هذه التعاريف الاصطلاحية، والمعاني اللغوية للكلمة ظاهرة، ولا سيما على المعنيين اللغويين الأولين؛ فإن التعاريف تدور على معنى التبيين، والتوضيح والظهور بعد الخفاء.
وأما على المعنى الثالث: فلأن المفسر كأنه يسبر المعاني بمسبار1 الطبيب الماهر، ويختبرها بمخابره العلمي، حتى يتضح له المراد.
التأويل:
التأويل لغةً: أصله من الأول، وهو الرجوع، فكأن المؤول للآية رجع بها إلى ما تحتمله من المعاني.
وقيل: مأخوذ من الإيالة وهي السياسة، كأن المؤول للكلام ساسه، وتناوله بالمحاورة والمداورة حتى وصل إلى المراد منه.
أما معناه في الاصطلاح: فقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام، وطائفة من العلماء: هما بمعنى، وعلى هذا: فيعرف بما عرف به التفسير.
وقد أنكر ذلك بعض العلماء، بل بالغوا في الإنكار.
وقال الراغب الأصفهاني في "مفرداته": التفسير أعم من التأويل وأكثر استعمالاته في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية، وأما التفسير فيستعمل فيها وفي غيرها.
[وقال غيره: التفسير بيان لفظ لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا. والتأويل: توجيه لفظ
1 شيء من فتيل، أو آلة توضع في الجرح؛ ليتعرف غوره، وقد توسع فيها حتى شملت كل ما يتعرف به على الخفي الغامض: داء أو غيره.
متوجه إلى معانٍ مختلفة إلى واحد منها، بما ظهر من الأدلة.
وقال الماتريدي: التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله أنه عني بهذا اللفظ هذا؛ فإن قام دليل مقطوع به فصحيح، وإلا فهو تفسير بالرأي، وهو المنهي عنه. والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله] . وقال أبو طالب التغلبي: التفسير: بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازا، كتفسير الصراط بالطريق، والصيب بالمطر، والتأويل: تفسير باطن اللفظ مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير، إخبار عن دليل المراد؛ لأن اللفظ يكشف عن المراد، والكاشف دليل، مثاله قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد} تفسيره: أنه من الرصد، يقال: رصدته إذا رقبته، والمرصاد: مفعال منه، وتأويله: التحذير من التهاون بأمر الله، والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه:[وقواطع الأدلة تقتضي بيان المراد منه على خلاف وضع اللفظ في اللغة] .
وقال بعض العلماء: التفسير: يتعلق بالرواية، أي التفسير بالمأثور، والتأويل: يتعلق بالدراية؛ أي التفسير بالرأي والاجتهاد1.
ومهما يكن من شيء فقد شاع واشتهر أن التفسير أعم من أن يكون بالمأثور، أو بالرأي والاجتهاد، وأعم من أن يكون متعلقا باللفظ أو بالمعنى، وقد أصبح في ذلك حقيقة عرفية، وهذا ما سأسير عليه في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
الحاجة إلى علم التفسير:
علم تفسير القرآن من العلوم المهمة التي يجب على الأمة تعلمها وقد أوجب الله على الأمة حفظ القرآن، وكذلك أوجب عليهم فهمه وتدبر معانيه، قال تعالى:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 2، وقال:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 3، وقال:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 4، فقد دلت الآية الثانية على أنه أنزل للتدبر، وحثت الآيتان الأخريان على تدبره، وتدبر القرآن بدون فهم معانيه غير ممكن، وفهم معانيه إنما يكون بمعرفة تفسيره، فتفسير القرآن فرض على الأمة، ولكنه فرض كفائي بمعنى: إذا قام
1 الاتفاق في علوم القرآن ج 2 ص 173.
2 النساء 82.
3 سورة ص 29.
4 محمد: 24.
به أهل العلم المتأهلون له من الأمة الإسلامية سقط عن الباقين.
والله سبحانه وتعالى إنما يخاطب كل قوم بما يفهمونه ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه، وأنزل كتابه بلغتهم، وقد نزل القرآن بلسان عربي مبين، في وقت بلغ فيه العرب الغاية في الفصاحة والبلاغة وكانوا يعرفون ظواهره وأحكامه، وأما دقائق معانيه وحقائق تأويله: فإنما كان يظهر لهم بعد البحث، والنظر، والتأمل، وما كان يخفى عليهم منه، أو يشكل، كانوا يسألون عنه النبي صلى الله عليه وسلم وذلك كسؤالهم له لما نزل قوله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون} 1 فقالوا: وأينا لم يظلم؟ وفزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبين لهم أن المراد بالظلم الشرك، واستدل عليه بقوله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} 2 وكبيانه للسيدة عائشة رضي الله عنها أن المراد بالحساب اليسير في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} 3: العرض أي: استعراض الأعمال من غير مناقشة، وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الأبيض، والخيط الأسود، وظنه أن المراد الحقيقة، حتى بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالخيط الأبيض بياض النهار، وبالخيط الأسود سواد الليل، إلى نحو ذلك مما خفي عليهم، ونحن محتاجون إلى مثل ما كانوا محتاجين إليه، بل وزيادة عما كانوا محتاجين إليه؛ لقصورنا عنهم في العلم باللغة، وأساليبها، والبلاغة وأسرارها، والعلم بأسباب النزول، والفقه في الدين، ومعرفة الحلال والحرام، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه.
وقد بين لهم النبي معاني القرآن، كما بين لهم ألفاظه، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} 4، فمن ثم حفظوا ألفاظه، وفهموا معانيه، وفقهوا أحكامه.
قال أبو عبد الرحمن السلمي5: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم
1 الأنعام 82.
2 لقمان: 13.
3 الانشقاق: 8.
4 النحل: 44
5 هو عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعَة "بضم الراء وفتح الباء وتشديد الياء المكسورة" السُلَمي "بضم السين" الكوفي التابعي. الجليل.
يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعا، وهذا النص يبين لنا منهج المسلمين الأولين في موقفهم من القرآن، وأنهم كانوا يجمعون إلى الحفظ: العلم، والعمل.
ولذلك: كانوا يبقون مدة طويلة في حفظ السورة الواحدة وهذا هو السر في أن ابن عمر رضي الله عنهما أقام على حفظ البقرة ثماني سنين، أخرجه مالك في الموطأ، وروي عن أنس، قال:"كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد1 في أعيننا" رواه أحمد في مسنده2.
وكذلك جاء عن السلف الصالح؛ الصحابة فمن بعدهم، فقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق ابن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} 3 قال في تفسير الحكمة: المعرفة بالقرآن: ناسخه، ومنسوخه ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، وحلاله، وحرامه، وأمثاله.
وأخرج أيضا عن أبي الدرداء في قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَة} ، قال: قراءة القرآن والفكرة فيه، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال: "ما مررت بآية في كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنتني؛ لأني سمعت الله يقول: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} 4.
وأخرج أبو عبيد عن الحسن" قال: "ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيما أنزلت، وما أراد بها".
فالواجب على الأمة الإسلامية حفظ القرآن، وفهم معانيه، ومعرفة تفسيره معرفة لا تشوبها الإسرائيليات، ولا الموضوعات والأباطيل، والتزامه سلوكا وعملا من الأفراد والجماعات في كل شأن من شئون الحياة، وبذلك يستعيدون مجدهم الغابر" وعزتهم التي
1 أي عظم وجل.
2 رسالة في أصول التفسير ص 6.
3 البقرة: 269.
4 العنكبوت: 43.
نوه الله بها في القرآن الكريم حيث قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1، وأرضهم السليبة، وسلطانهم المرهوب في الأرض.
التفسير من أشرف العلوم:
والعلم بالتفسير من أشرف العلوم الشرعية، وأجلها؛ فالشيء إنما يشرف إما بشرف موضوعه وإما من جهة غايته والغرض منه، وإما من جهة الحاجة إليه.
وموضوع علم التفسير هو: كلام الله، أشرف الكلام، وأصدقه، وهو أصل الدين، ومنبع الصراط المستقيم، وينبوع كل حكمة، ومعدن كل فضل.
وغايته هي: الاعتصام بالعروة الوثقى، والوصول إلى السعادتين: الدنيوية والأخروية.
وأما شدة الحاجة إليه: فلأن كل كمال ديني أو دنيوي، عاجل، أو آجل، مفتقر إلى العلوم الشرعية، والمعارف الدينية وهي: متوقفة على العلم بكتاب الله سبحانه وتعالى.
العلوم التي لا بد منها للمفسر:
وهاك ما قاله الإمام السيوطي في الإتقان: مع زيادة التوضيح، وحسن التصرف: قال بعض العلماء: اختلف الناس في تفسير القرآن: هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟ فقال قوم: لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن، وإن كان عالما، أديبا، متسعا في معرفة الأدلة، والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ومنهم من قال: يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها، وهي خمسة عشر علما:
"أحدها": اللغة؛ لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، قال مجاهد: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله، إذا
1 المنافقون: 8.
لم يكن عارفا بلغات العرب، قال الإمام مالك: لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا"، أقول: والمراد: العلم باللغة الواسع، المتعمق، ولا يكتفى باليسير منه، فقد يكون اللفظ مشتركا، وهو يعلم أحد المعنيين، ويكون المراد الآخر، وكذلك العلم بالفروق اللغوية. والعلم باللغة، نثرها ونظمها من الأسباب التي مكنت لابن عباس أن يكون حبر القرآن، ورأس المدرسة المكية التي هي آصَلُ المدارس التفسيرية.
"الثاني": النحو لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب، فلا بد من اعتباره. أخرج أبو عبيد عن الحسن -أي البصري: أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق، ويقيم بها قراءته؟ فقال: حسن فتعلمها؛ فإن الرجل يقرأ الآية فيَعْيَى بوجهها، فيهلك فيها.
أقول: ومن لم يعرف النحو فربما يقع في أخطاء فاحشة، قد تؤدي إلى الكفر، ومثل ذلك الرجل الذي قرأ قوله تعالى:"إِنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ" بجر "رسوله" فكاد يقع في الكفر وهو لا يعلم، فكان هذا من الأسباب الحاملة على وضع علم النحو1.
"الثالث" علم التصريف؛ لأن به تعرف أبنية الكلمات والصيغ قال ابن فارس: ومن فاته علمه فاته المعظم؛ لأن "وجد" مثلا كلمة مبهمة، فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها؛ فإنها تستعمل في العثور على الدابة، وفي الحصول على المطلوب، وفي الغضب، وفي الغنى، وفي الحب، وإنما تتميز بالمصادر، يقال: وجد ضالته وِجدانا بكسر الواو، ومطلوبه وُجودًا بضمها، وفي الغضب موجدة بكسر الجيم، وفي الغنى وُجْدًا بضم الواو، وفي الحب وَجْدًا بفتح الواو2.
وقال الزمخشري في تفسيره: من بدع التفاسير قول من قال: إن الإمام في قوله
1 تفسير روح المعاني للألوسي ج 10 ص 47.
2 نقله ابن الصلاح في مقدمته ص 167 عن المعافى بن زكريا النهرواني، وقد بيَّن العراقي في تعليقاته على المقدمة أن هذه المصادر ليست موضع اتفاق وهو الحق، كما يعلم ذلك من مراجعة "القاموس" و"لسان العرب" فلعل مراد هذا القائل أن ذلك هو الغالب والكثير في الاستعمال.
تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} 1 أنه جمع "أُمٍّ" وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم. قال: وهذا جهل أوجبه جهله بالتصريف؛ فإن أُمّ لا تجمع على إمام، وصدق الزمخشري رحمه الله، فهذا من بدع التفاسير حقا.
"الرابع" علم الاشتقاق؛ لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين اختلف المعنى باختلافهما، كالمسيح2: أهو من السياحة، أو المسح، فمن الأول يسمى المسيح مسيحا؛ لكثرة سياحته، وأما من الثاني: فلأنه كان لا يمسح على ذي عاهة إلا بَرَأَ بإذن الله تعالى ومثل ذلك أيضا النبي، أهو من النبأ بمعنى الخبر، فهو مخبر بكسر الباء عن الله، أو مخبر بفتح الباء منه أو هو من النبوة بمعنى الرفعة، وليس من شك في أن المعنى يتغير بتغير أصل الاشتقاق.
"الخامس، والسادس، والسابع": علوم المعاني، والبيان والبديع؛ لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعاني، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام، وهذه العلوم الثلاثة هي علوم البلاغة، وهي من أعظم أركان المفسر؛ لأنه لا بد له من أن يعلم ما يقتضيه الإعجاز، وإنما يدرك بهذه العلوم.
وقال السكاكي: أعلم أن شأن الإعجاز عجيب، يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة، ولا طريق لتحصيله لغير ذوي الفطرة السليمة إلا التمرن على علمى المعاني والبيان.
أقول: وتعلم البلاغة بالطريقة التي وضعها السكاكي وأمثاله ممن قَعَّدوا القواعد، وفلسفوها، لا تكون ملكة، ولا تربي ذوقا، وكثير ممن درس البلاغة على هذا النحو الجاف لا يستطيع أن يكتب صحيفة، أو يحبر مقالا رائقا مشرقًا، يأخذ بمجامع القلوب، ويستولي على النفوس، فضلا عن كتاب.
وإنما الذي يجدي في تكوين الملكة، وتربية الذوق البلاغي، وإرهاف الحس الأدبي، هو: مزاولة الجيد من القول، والبليغ من كلام العرب نثرا ونظما،
1 الإسراء: 71.
2 فهو على الأول فعيل بمعنى فاعل، وعلى الثاني فعيل بمعنى مفعول.
والمقارنة والموازنة بين الأساليب وطرق البيان، وكثرة المدارسة والممارسة لكلام البلغاء والفصحاء، وهي طريقة الإمام عبد القاهر الجرجاني ومدرسته، وذلك كما صنع في كتابيه الجليلين:"دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة"، حينئذ يتسهل على المفسر لكتاب الله إدراك ما فيه من فصيح الكلام، وبليغ المعاني وأسرار الإعجاز، وما أحسن ما قاله ابن أبي الحديد في هذا، قال: اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدلالة عليه، وهو بمنزلة جاريتين: إحداهما بيضاء مشربة بحمرة، دقيقة الشفتين، نقية الثغر، كحلاء العين، أسيلة الخد، دقيقة الأنف معتدلة القامة، والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن، لكنها أحلى في العيون والقلوب منها، ولا يدرى سبب ذلك، ولكنه يعرف بالذوق والمشاهدة، ولا يمكن تعليله، وهكذا الكلام!! نعم يبقى الفرق بين الوصفين، إن حسن الوجوه، وملاحتها، وتفضيل بعضها على بعض يدركه كل من له عين صحيحة، وأما الكلام: فلا يدرك إلا بالذوق، وليس كل من اشتغل بالنحو، واللغة، والفقه، يكون من أهل الذوق، وممن صلح لانتقاد الكلام، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان، وراضوا أنفسهم بالرسائل، والخطب، والكتابة والشعر، وصارت لهم بذلك دراية، وملكة تامة، فإلى هؤلاء ينبغي أن يرجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض.
وقال الزمخشري: من حق مفسر كتاب الله الباهر، وكلامه المعجز أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه، والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدى سليما من القادح.
أقول: والزمخشري: من خير إن لم يكن خير من له في إدراك إعجاز القرآن باع طويل، وخير من أفصح عن أسرار إعجاز القرآن الكريم بطريقة العرب الفصحاء البلغاء، لا بطريقة أهل الفلسفة والكلام.
"الثامن": علم القراءات؛ لأنه به يعرف كيفية النطق بألفاظ القرآن الكريم، وبالقراءات يترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض.
"التاسع": علم أصول الدين؛ ليعرف وهو يفسر القرآن ما يجب لله وما يستحيل عليه، وما يجوز له، وليعرف الفرق بين العقائد والشرائع، وما هو من أصول الدين، وما هو من فروعه.
"العاشر": علم أصول الفقه؛ لأن به يعرف وجه الاستدلال على الأحكام، وطريقة استنباطها من النصوص.
"الحادي عشر": علم أسباب النزول، وعلم القصص والأخبار؛ لأن بمعرفة سبب النزول يعرف المعنى المراد من الآية، كما أنه يزيل الإشكال عن بعضها، ويبين بعض حكم الله في التشريع، وبعلم القصص يعلم ما هو من الإسرائيليات التي دست في الرواية الإسلامية، وما ليس منها وما هو حق، وما هو باطل.
"الثاني عشر": علم الناسخ والمنسوخ، وهو مهم للمفسر، وإلا وقع في خطأ كبير.
"الثالث عشر": علم الفقه؛ إذ به يعرف مذاهب الفقهاء، ومن احتج منهم بالآية ومن لم يحتج بها، وطريقة كل منهم في فهم الآية والأخذ بها، أو الإجابة عنها.
"الرابع عشر": علم الأحاديث والسنن والآثار المبينة؛ لتفصيل المجمل، وتوضيح المبهم، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، إلى غير ذلك من وجوه بيان السنة للقرآن.
"الخامس عشر": علم الموهبة، وهو علم يورثه الله تعالى من عمل بما علم، وإليه الإشارة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:"من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم" 1، قال ابن أبي الدنيا: وعلوم القرآن، وما يستنبط منه بحر لا ساحل له.
فهذه العلوم التي هي كالآلة للمفسر لا يكون مفسرًا إلا بتحصيلها فمن فسر القرآن بدونها كان مفسرا بالرأي المنهى عنه، وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرا بالرأي المنهي عنه، والصحابة والتابعون كان عندهم علوم العربية بالطبع لا بالاكتساب، واستفادوا العلوم الأخرى من النبي صلى الله عليه وسلم:
قال الإمام السيوطي: ولعلك تستشكل علم الموهبة، وتقول: هذا شيء ليس في قدرة الإنسان، وليس كما ظننت من الإشكال، والطريق إلى تحصيله: ارتكاب الأسباب الموجبة من العمل، والزهد.
قال الزركشي في البرهان: اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة، أو كبر، أو هوى، أو حب الدنيا، أو وهو مُصِرٌّ على ذنب، أو
1 رواه أبو نعيم عن أنس.
غير متحقق بالإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم، أو راجع إلى معقوله، وهذه كلها حجب، وموانع بعضها آكد من بعض.
قال السيوطي: ويدل على هذا المعنى: قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} 1 قال سفيان بن عيينة: يقول: "أنزع عنهم فهم القرآن" أخرجه ابن أبي حاتم2.
أقول: وعلم الموهبة ثمرة من ثمرات التقوى، والتقوى لها معنيان: معنى نفسي وهو: خشية الله ومراقبته في السر والعلن، وهذا هو ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال:"التقوى ههنا" ثلاثا، وأشار إلى صدره، رواه مسلم، ومعنى ظاهري، وهو الاستقامة على الدين، وذلك بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، وقد تسمو بصاحبها، فتصل به إلى حد فعل النوافل والمستحبات أيضا، واتباع مكارم الأخلاق، وتوقي الشبهات، خشية الوقوع في المآثم والمحرمات، والتقوى بمعنييها لا بد منها لمن يتصدى لشرح كتاب الله، وفي هذا المعنى قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} 3 أي معنى في القلب يفرق به بين الحق والباطل.
وليتمثل المفسر لكتاب الله أنه يفسر كلامًا لا ككلام الناس، وأنه قائم بين يدي الله الواحد، الأحد، الجبار، الكبير، المتعال، المنتقم وأن أي تقصير، أو تساهل فيه، يعتبر كذبا على الله، وافتراءًَ عليه.
وسلوا بطانات الملوك، والرؤساء، والأمراء، والوزراء ينبئوكم بأن الواحد منهم محسوب عليه كل كلمة، بل كل حرف ينطق به ومؤاخذ على كل ما يصدر منه مهما قَلَّ، وأن كلمة يقولها، ربما تطيح بعنقه، أو تقصيه عن منصبه، فما بالكم بمن يفسر كلام رب الأرباب وملك الملوك؟!! ويقول: مراد الله كذا، أو عني الله كذا؟!
وهذا هو السر في أن بعض كبار الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم كان يتحرج غاية
1 الأعراف: 146.
2 الإتقان ج 2 ص 180- 182.
3 الأنفال: 29 والفرقان: مصدر كالرجحان والغفران.
التحرج، من القول في تفسير القرآن الكريم، مع ما كانوا عليه من العلم الغزير، والعقل المستنير، والقلب المستضيء.
علوم أخرى لا بد منها للمفسر:
وقد جاء الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فزاد هو وتلميذه السيد محمد رشيد رضا بعض العلوم الأخرى كالعلم بتاريخ البشر، وعلم السيرة والعلوم الكونية، وقد زدت والله الحمد والمنة كما زاد غيري بعض العلوم وها أنذا أجمل ذلك فيما يأتي:
1-
أن يكون عالما بالأحاديث: صحيحها، وحسنها، وضعيفها، ولئن عز ذلك في عصرنا هذا فليكن واقفا على ما قاله العلماء، وجمعه الأئمة فيما يتعلق بتفسير القرآن الكريم، وبيان فضائل آياته وسوره، ولو أن المفسرين جميعهم كانوا من حفاظ الحديث ونقاده المميزين لغثه من سمينه، وأئمته الذين جمعوا بين الرواية والدراية، لما وقع في كتب التفاسير كل هذا الدخيل، من الإسرائيليات والأحاديث الضعيفة والموضوعة، ولما عانى المسلمون ما يعانونه اليوم من الآثار السيئة، التى ترتبت على وجود هذه الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير.
2-
أن يكون عالما بالسير، ولا سيما سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير أصحابه النبلاء رضوان الله عليهم وعالما بالتواريخ، وأحوال الأمم الماضية، ولا سيما تاريخ الأنبياء السابقين، والملوك الغابرين؛ فإن ذلك يعين المفسر على إصابة وجه الحق والصواب.
[ففي القرآن كثير من الآيات لا يمكن تفسيرها إلا لعالم بالسير كالآيات المتعلقة ببدر وأحد والخندق والحديبية والفتح وتبوك، وكثير من الآيات المتعلقة بقصص الماضين وأولياء الله الصالحين والملوك الغابرين لا يمكن تفسيرها إلا بمعرفة التواريخ، وذلك كقصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وقصة الخضر مع موسى عليه الصلاة والسلام] .
3-
أن يكون على علم بعلم الاجتماع البشري، وعلم النفس؛ فإن هذين العلمين يعينان المفسر على فهم المراد من بعض الآيات، وتفسيرها تفسيرًا علميا صحيحا، والكشف عما فيها من أسرار اجتماعية، ونفسية، وقارئ التفسير اليوم تستهويه التفاسير المدعمة بالمباحث النفسية والاجتماعية.
وكيف يتأتى المفسر الذي يجهل قواعد هذين العلمين الصحيحة أن يفسر هذه الآيات.
وأمثالها، كقوله تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1، وقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 2، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 3، وقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} 4 وقوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} 5 إلى نحو ذلك من الآيات:
4-
أن يكون على علم بتاريخ الأديان السماوية السابقة، كاليهودية والنصرانية، وما دخلهما من تحريف وتبديل، حتى يستطيع أن يفسر قوله تعالى:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِه} 6، والمذاهب الدينية غير السماوية: كالبرهمية، والبوذية، والمزدكية، والمانوية ونحوها، وبذلك يستطيع المفسر أن يصل إلى الحق والصواب حينما يعرض للآيات التي جادلت أهل الكتاب، ولا سيما النصارى في عقيدتي التثليث والصلب والفداء، وكيف تأثروا في هاتين العقيدتين بالديانات والنحل القديمة وإلى ذلك أشار الله تبارك وتعالى في قوله:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 7.
فإذا كان من يتعرض لتفسير كتاب الله على علم بهذه العلوم كلها ما ذكرها الإمام السيوطي وغيره، وما ذكرناه، فقد استأهل أن يفسر القرآن الكريم، وإلا فليرح نفسه، وليرحنا معه، ولا يخبط في كتاب الله خبط عشواء8.
1 البقرة: 213
2 هود: 118، 119.
3 الرعد: 11.
4 آل عمران: 119.
5 محمد: 30
6 المائدة: 41.
7 التوبة: 30.
8 هذا الفصل وما يعقبه من بحوث من الأهمية بمكان، ولا بد من ذكرها قبل المقصود؛ لأنها تعين على معرفة الحق من الباطل، والإسرائيليات من غيرها، والموضوع من غيره، والمقبول من المردود.
ما يجوز الخوض في تفسيره وما لا يجوز:
من التفسير ما هو ظاهر واضح، يعلمه العالم باللسان العربي، ومنه ما لا يعذر أحد بجهالته، ومنه ما لا يجوز التكلم فيه إلا للعلماء الراسخين في العلم، ومنه ما لا يجوز الاشتغال به؛ لأنه مما استأثر الله بعلمه، فلا يخرج منه الباحث بطائل.
وقد أُثِرت عن الصحابي الجليل حبر القرآن ابن عباس رضي الله عنهما مقالة في هذا يستحسن أن نذكرها، فقد أخرج ابن جرير وغيره من طرق، عن ابن عباس، قال:"التفسير أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى" ثم رواه مرفوعا1 بسند ضعيف، بلفظ: "أُنزِلَ القرآن على أربعة أحرف أي أوجه: حلال، وحرام لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير العرب وتفسير تفسيره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب، وفي إسناده محمد بن السائب الكلبي، وهو متَّهم بالكذب2 وقد وضح لنا كلمة ابن عباس، وشرحها الإمام الزركشي في البرهان فقال:
هذا تقسيم صحيح، فأما الذي تعرفه العرب فهو: الذي يُرجَعُ فيه إلى لسانهم، وكذلك: اللغة والإعراب فعلى المفسر معرفة معانيها، ومسميات أسمائها، ولا يلزم ذلك القارئ، ثم إن كان ما يتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم، كفى فيه خبر الواحد والاثنين، والاستشهاد بالبيت والبيتين، وإن كان يوجب العلم لم يُكتفَ بذلك، بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ، وتكثر شواهده من الشعر، وأما الإعراب: فما كان اختلافه محيلا للمعنى: وجب على المفسر والقارئ تعلمه؛ ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم، ويسلم القارئ من اللحن، وإن لم يكن محيلا للمعنى: وجب تعلمه على القارئ؛ ليسلم من اللحن، ولا يجب على المفسر لوصوله إلى المقصود بدونه3.
وأما ما لا يعذر أحد بجهله: فهو ما تتبادر النصوص إلى معرفة معناه من النصوص.
1 المرفوع: ما نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي.
2 تفسير ابن كثير والبغوي ج1 ص 15 ط المنار.
3 مثال ذلك قول الله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسواء أعرب لفظ السماء مبتدأ أو جعل فاعلا لفعل محذوف، فالمعنى لا يختلف لكن الرفع لازم للقارئ، ولو قرأ بالنصب يعتبر لاحنا.
المتضمنة شرائع الأحكام، ودلائل التوحيد، وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا يعلم أنه مراد الله تعالى: فهذا التقسيم لا يلتبس تأويله؛ إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 1، وأنه لا شريك له في الإلهية، وإن لم يعلم أن "لا" موضوعة في اللغة للنفي و"إلا" للإثبات، وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر، ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ونحوه، طلب إيجاب المأمور به، وإن لم يعلم أن صيغة "افعل" للوجوب فما كان من هذا القسم لا يعذر أحد يدعى الجهل بمعاني ألفاظه؛ لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة. وأما ما لا يعلمه إلا الله تعالى: فهو ما يجري مجرى الغيوب، نحو الآي المتضمنة لقيام الساعة، وتفسير الروح، والحروف المقطعة في أوائل السور،2 وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق، فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره، ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف بنص من القرآن أو الحديث، أو إجماع الأمة، على تأويله.
وأما ما يعلمه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم، فهو: الذي يغلب عليه إطلاق التأويل، وذلك استنباط الأحكام، وبيان المجمل، وتخصيص العموم، وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدًا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعليهم اعتماد الشواهد والدلائل دون مجرد الرأي؛ فإن كان أحد المعنيين أظهر، وجب الحمل عليه، إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي، وإن استويا والاستعمال فيهما حقيقة لكن في أحدهما حقيقة لغوية أو عرفية، وفي الآخر شرعية: فالحمل على الشرعية أولى3؛ إلا إن دل دليل على إرادة الحقيقة اللغوية، كما في قوله:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} 4 ولو كان في أحدهما حقيقة عرفية، وفي الآخر لغوية، فالحمل على العرفية أولى5، وإن اتفقا في ذلك أيضا: فإن تنافى اجتماعهما، ولم يمكن إرادتهما باللفظ
1 محمد: 19.
2 مثل: الم، والمص، وحم، وطس.
3 وذلك مثل لفظ الصلاة، والزكاة؛ فإن الصلاة معناها في اللغة الدعاء، والزكاة معناها النماء والطهارة لكن لهما معنى شرعي، وهو في الصلاة: الأقوال والأفعال المبتدأة بالتكبير المختتمة بالتسليم، والزكاة: إخراج جزء من المال بشروطه لفقير وغيره من مصارف الزكاة، فالكلمتان عند الإطلاق تنصرفان إلى المعنى الشرعي.
4 أي ادع لهم وهم الذين يأتون بزكاة أموالهم؛ تطييبا لقلوبهم، وشرحًا لصدورهم.
5 وذلك مثل لفظ المسجد، فإن معنى لغويا وهو مكان السجود، ومعنى عرفيا وهو المكان المعد للعبادة؛ فلفظ مسجد ينصرف عند الإطلاق إلى الحقيقة العرفية.
الواحد، كالقرء للحيض، والطهر، اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فما ظنه فهو مراد الله تعالى في حقه، وإن لم يظهر له شيء: فهل يتخير في الحمل على أيهما شاء. ويأخذ بالأغلظ حكما، أو بالأخف؟ أقوال؛ وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز، والفصاحة، إلا إن دل دليل على إرادة أحدهما1. وقال ابن النقيب: اعلم أن علوم القرآن ثلاثة أقسام:
"الأول": علم لم يُطلِع الله عليه أحدا من خلقه، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته، وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه بوجه من الوجوه إجماعا.
"الثاني": ما أطْلَعَ الله عليه نبيه من أسرار الكتاب، واختصه به وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له صلى الله عليه وسلم، أو لمن أذن له، وأوائل السور من هذا القسم، وقيل: من القسم الأول.
"الثالث": علوم علمها الله نبيه، مما أودع في كتابه من المعاني الجلية والخفية، وأمر بتعليمها، وهذا ينقسم إلى قسمين:
1 منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، وهو أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ والقراءات واللغات، وقصص الأمم الماضية وأخبار ما هو كائن من الحوادث، وأمور الحشر، والمعاد.
2 ومنه ما يؤخذ بطريق النظر، والاستدلال، والاستخراج من الألفاظ وهو قسمان:
1 قسم اختلفوا في جوازه وهو تأويل الآيات المتشابهة في الصفات2.
1 الإتقان ج 2، ص 182.
2 الآيات المتشابهة مثل: "الرحمن على العرش استوى"، "وجاء ربك"، "ويبقى وجه ربك"، "يد الله فوق أيديهم". والعلماء في هذا على فريقين: السلف وهؤلاء يؤمنون بالآيات المتشابهة كما وردت من غير تأويل ولا تشبيه، ولا تكييف مع اعتقاد تنزيه الله عن ظواهرها المعروفة لنا، والخلف: هؤلاء أولوا هذه الآيات على حسب المعروف من اللغة، وقواعد الشرع، والعقل، والأول هو الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعون والسلف. وقد قالوا: إن مذهب السلف أحكم، ومذهب الخلف أسلم، فلنكن على ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم.
2-
وقسم اتفقوا عليه وهو: استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية1 لأن مبناها على الأقيسة، وكذلك فنون البلاغة، وضروب المواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع2 استنباطها منه، واستخراجها لمن له أهلية.
وروي عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا يحل تفسير المتشابه إلا بسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خبر عن أحد من أصحابه، أو إجماع العلماء، ومن هذه النصوص الجيدة التي تدل على العمق في البحث، والأصالة في الرأي، والدقة في التفكير نعلم أن من القرآن ما لا يجوز الخوض فيه قط، وأن منه ما الأولى عدم الخوض فيه؛ لأنه لا يؤدي إلى أمر تَرْكَن إليه النفس، ويطمئن إليه القلب، وأن هذا وذاك لم يرد فيه عن المعصوم صلى الله عليه وسلم روايات صحيحة ثابتة، وإنما الكثرة الكاثرة منها روايات ضعيفة أو واهية أو مكذوبة مختلقة.3.
وما ورد فيهما عن الصحابة والتابعين فمعظمه لم يصح عنهم؛ لأنهم ما كانوا يخوضون في مثل هذا والكثير منه من قبيل الإسرائيليات والأخبار الباطلة التي تلقوها عن أهل الكتاب الذين أسلموا، واتخذت في ظاهر الأمر شكل الرواية الإسلامية، وما هي منها في شيء.
1 أي استنباط وأخذ القواعد النحوية؛ فإن القرآن الكريم هو أوثق المصادر التي يعتمد عليها في إثبات اللغة، وقواعد النحو.
2 التعبير بـ "لا يمتنع" غير دقيق؛ فإن القرآن هو أصل الفصاحة والبلاغة، والبيان المعجز، وهو المصدر الأول الذي تعرفه منه فنون البلاغة، والفصاحة، والأساليب الفحلة الجزلة:{نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين} .
3 الإتقان ج 2، ص 182، 183.
27-
الإسرائيليات في قصة الذبيح، وأنه إسحاق:
ومن الإسرائيليات ما يذكره كثير من المفسرين عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ 1، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي
1 أضجعه على جبينه على الأرض، وللإنسان جبينان والجبهة بينهما.