الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قبولها فكيف وأسانيدها ضعيفة واهية؟! وقد قلت غير مرة: إن كونها صحيحة السند فرضا لا ينافي كونها من الإسرائيليات.
15-
الإسرائيليات في نسبة الشرك إلى آدم وحواء:
ومن الروايات التي لا تصح، ومرجعها إلى الإسرائيليات: ما ذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1، 2، 3.
وهذه الآية تعتبر من أشكل آيات القرآن الكريم؛ لأن ظاهرها يدل على نسبة الشرك لآدم وحواء، وذلك على ما ذهب إليه جمهور المفسرين من أن المراد بالنفس الواحدة: نفس آدم عليه السلام وبقوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} حواء رضي الله عنهما، وقد أول العلماء المحققون الآية تأويلا يتَّفق وعصمة الأنبياء في عدم جواز إسناد الشرك إليهم عليهم الصلاة والسلام، كما سنبين ذلك إن شاء الله.
الحديث المرفوع، والآثار الواردة في هذا:
وقد زاد الطين بلة ما ورد من الحديث المرفوع، وبعض الآثار عن بعض الصحابة والتابعين، في تفسير قوله تعالى:{جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وقد اغترَّ بهذه الروايات كثير من المفسرين، كابن جرير4، والثعلبي، والبغوي5
1 ليجد فيها سكن النفس وطمأنينة القلب.
2 أي: باشرها كما باشر الرجل زوجته.
3 الأعراف: 189، 190.
4 تفسير ابن جرير عند جرير عند تفسير هذه الآية.
5 تفسير البغوي على هامش تفسير ابن كثير ج 3 ص 611، 612.
والقرطبي1، وإن كان ضعف الروايات، ولم تركن نفسه إليها، واعتبرها من الإسرائيليات وصاحب "الدر المنثور"2.
والعجيب: أن إماما كبيرا له في رد الموضوعات والإسرائيليات فضل غير منكور، ومفسرا متأخرا وهو: الإمام الآلوسي قد انخدع بهذه المرويات، فقال: وهذه الآية عندي من المشكلات، وللعلماء فيها كلام طويل، ونزاع عريض، وما ذكرناه، هو الذي يشير إليه الجبائي، وهو مما لا بأس به بعد إغضاء العين عن مخالفته للمرويات.... ثم قال:"وقد يقال: أخرج ابن جرير عن الحبر: أن الآية نزلت في تسمية آدم، وحواء ولديهما بعبد الحارث، ومثل ذلك لا يكاد يقال من قبل الرأي، وهو ظاهر في كون الخبر تفسيرًا للآية....... وأنت قد علمت أنه إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأراه قد صح، ولذلك أحجم كميت قلمي عن الجري، في ميدان التأويل، كما جرى غيره والله تعالى الموفق للصواب3".
وبعض المفسرين أعرض عن ذكر هذه المرويات، وذلك كما صنع صاحب الكشاف، وتابعه النسفي.
وبعض المفسرين عرض لها، ثم بيَّن عدم ارتضائه لها، وذلك كما صنع الإمام القرطبي في تفسيره، فقال: ونحو هذا مذكور في ضعيف الحديث، وفي الترمذي وغيره، وفي الإسرائيليات كثير ليس لها إثبات، فلا يعوِّل عليها من له قلب، فإن آدم وحواء، وإن غرهما بالله الغرور، فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، على أنه قد سطر، وكتب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خدعهما مرتين، خدعهما في الجنة، وخدعهما في الأرض"4.
1 تفسير القرطبي ج 7 ص 338-339.
2 الدر المنثور عند تفسير هذه الآية.
3 تفسير الآلوسي: ج 9 ص 139، 142.
4 تفسير القرطبي: ج 7 ص 338.
فارس الحلبة الإمام ابن كثير:
ولكن فارس هذه الحلبة هو الإمام ابن كثير، فقد نقد المرويات نقدا علميا أصيلا، على مناهج المحدثين وطريقتهم في نقد الرواة وبين أصل هذه المرويات، وأن مرجعها إلى الإسرائيليات، وإني لأعجب كيف أن الإمام الآلوسي، وهو المتأخر الباقعة1، لم يشر إلى كلامه!! لعله لم يطلع عليه.
وسأذكر كلام الإمام ابن كثير بنصه، وبطوله لنفاسته، وشدة الحاجة إليه في هذا المقام قال رحمه الله وأثابه:
يذكر المفسرون ههنا آثارا، وأحاديث، سأوردها وأبيِّن ما فيها، ثم نتبع ذلك ببيان الصحيح في ذلك إن شاء الله وبه الثقة.
قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الصمد "قال"2 حدثنا عمرو بن إبراهيم، قال: حدثنا قتادة، عن الحسن، عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ولما وَلَدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث؛ فإنه يعيش فسمته عبد الحارث، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان، وأمره"، وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار، عن عبد الصمد بن الوارث به3، ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية، عن محمد بن المثنى، عن عبد الصمد، به، وقال: هذا حديث حسن غريب، يعني: انفرد به راويه، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد، ولم يرفعه، يعني: لم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث عبد الصمد مرفوعا، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد4، ولم يخرجاه، ورواه الإمام أبو محمد ابن أبي حاتم في تفسيره،
1 الذكي العارف الذي لا يفوته شيء كما في القاموس.
2 جرت عادة المحدثين أن يحذفوا من الأسانيد لفظ: "قال" خطًّا، ولكنهم ينطقون بها عند الرواية وقد ذكرتها خطًّا حتى لا يشكل الأمر على قارئ السند.
3 يعني ببقية السند المذكور أولًا.
4 من المعروف عند المحدثين أن الحاكم متساهل في التصحيح، فلا يؤاخذ بقوله ولا سيما في مثل هذا.
عن أبي زرعة الرازي، عن هلال بن فياض، عن عمر بن إبراهيم به؛ أي: ببقية السند مرفوعًا وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه، في تفسيره، من حديث شاذ ابن فياض، عن عمر بن إبراهيم مرفوعا.
قلت -أي ابن كثير: وشاذ هو هلال، وشاذ لقبه.
والغرض: أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري، وقد وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر، عن أبيه، عن الحسن، عن سمرة مرفوعا. فالله أعلم.
الثاني: أنه قد روي من قول سمرة نفسه، ليس مرفوعا، كما قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر عن أبيه قال: حدثنا بكر بن عبد الله، عن سليمان التيمي، عن أبي العلاء بن الشخير عن سمرة بن جندب، قال:"مي آدم ابنه عبد الحارث".
والثالث: أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه، قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن:{جعلا له شركاء فيما آتاهما} ، قال: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم، وحدثنا1 محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال الحسن: عني بها ذرية آدم، ومن أشرك منهم بعده، يعني:{جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} وحدثنا2 بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة، قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادًا، فهودوا ونصروا3.
وقال ابن كثير: وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الآية
1، 2 القائل:"وحدثنا" هو ابن جرير.
3 فيه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه" رواه البخاري ومسلم، وما روي عن الحسن رضي الله عنه ليس اختلاف تضاد، وإنما هو اختلاف تغاير في اللفظ، والمدلول واحد أو متقارب.
بذلك، وهو من أحسن التفاسير، وأَوْلى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو، ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله، وورعه.
فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب؛ من آمن منهم مثل كعب، أو وهب بن منبه وغيرهما، كما سيأتي بيانه إن شاء الله، إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع، والله أعلم1.
فأما الآثار، فقال محمد بن إسحاق بن يسار، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولادا فيعبدهم لله ويسميهم عبد الله، وعبيد الله ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس، فقال: إنما لو سميتماه بغير الذي تسميانه به لعاش، قال: فولدت له رجلا، فسماه عبد الحارث، ففيه أنزل الله يقول:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة} إلى آخر الآية، وقال العوفي عن ابن عباس: قوله في آدم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة} إلى قوله: {فَمَرَّتْ بِه} شكَّت أحملت أم لا؟ {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} الآية، فأتاهما الشيطان، فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل، إنه غوي مبين، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا فقال لهما الشيطان: إنكما لم تسمياه بي، لم يخرج سويا ومات كما مات الأول، فسميا ولدهما عبد الحارث، فذلك قوله:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} الآية.
وقال عبد الله بن المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} : آدم "حملت" أتاهما إبليس لعنه الله فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما، لتطيعاني، أو لأجعلن له قرني أيل2، فيخرج من بطنك،
1 تفسير ابن كثير والبغوي: ج 3 ص 611، 612.
2 الأيل بضم الهمزة وكسرها، والياء فيها مشددة مفتوحة: ذَكَرُ الأوعال، وهو التيس الجبلي، المصباح المنير.
فيشقه، ولأفعلن، ولأفعلن، يخوفهما، فسَمِّيَاه1 عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت، يعني الثانية فأتاهما، فقال لهما مثل الأول، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت الثالثة، فأتاهما أيضا فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسَمَّيَاه عبد الحارث، فذلك قوله تعالى:{جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} رواه ابن أبي حاتم.
وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومن الطبقة الثانية: قتادة، والسدي، وغير واحد من السلف، وجماعة من الخلف، ومن المفسرين من المتأخرين: جماعات لا يحصون كثرة، وكأنه والله أعلم مأخوذ من أهل الكتاب، فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب2، كما رواه ابن أبي حاتم، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو الجماهر، قال: حدثنا سعيد يعني ابن بشير عن عقبة، عن قتادة، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب3، قال:
لما حملت حواء أتاها الشيطان، فقال لها: أتطيعيني ويسلم لك ولدك؟ سميه عبد الحارث، فلم تفعل فولدت، فمات، ثم حملت فقال لها مثل ذلك، فلم تفعل، ثم حملت الثالثة، فجاءها فقال: إن تطيعيني يسلم، وإلا فإنه يكون بهيمة، فهيبها، فأطاعا.
قال: وهذه الآثار يظهر عليها والله أعلم أنها من آثار أهل الكتاب، وبعد أن بين أن أخبار أهل الكتاب على ثلاثة أقسام:
1 فمنها ما علمنا صحته مما بأيدينا من كتاب أو سنة.
2 ومنها: ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا.
3 ومنها: ما هو مسكوت عنه، فهو المأذون في روايته بقوله عليه الصلاة والسلام:"حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، وهو الذي لا يصدق، ولا يكذب،
1 بصيغة الأمر.
2 وعلى هذا فلا يكون له حكم الرفع؛ لأنه سمعه من صحابي مثله.
3 ويكون أُبَيٌّ قد سمعه من بعض مُسلِمة أهل الكتاب.
قال: وهذا الأثر من الثاني أو الثالث فيه نظر1.
قال: فأما من حدث به: من صحابي أو تابعي، فإنه يراه من القسم الثالث؛ يعني: ما يحتمل الصدق، والكذب، وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق: آدم وحواء وإنما المراد من ذلك: المشركون من ذريته، ولهذا قال الله تعالى:{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2 فذكر آدم وحواء أولًا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من الشخص إلى الجنس، وهذا الذي ذهب إليه هذا الإمام الحافظ الناقد ابن كثير في تخريج الحديث والآثار هو الذي يجب أن يصار إليه، وهو الذي ندين الله عليه، ولا سيما أن التفسير الحق للآيتين لا يتوقَّف على شيء مما روى.
التفسير الصحيح للآيتين:
والمحققون من المفسرين: منهم من نحا منحى العلامة ابن كثير فجعل الآية الأولى في آدم وحواء وجعل قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا} الآية في المشركين من ذريتهما، أي: جعلا أولادهما شركاء لله فيما أتاهما، والمراد بهم، الجنس، أي: جنس الذَّكَر والأُنْثى، فمن ثم حسن قوله:{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون} بالجمع، ويكون هذا الكلام من الموصول لفظا المفصول معنى، ومنهم من جعل الآيتين في ذرية آدم وحواء، أي: خلقكم من نفس واحدة، وهي نفس الذَّكَر، وجعل منها، أي: من جنسها: زوجها وهي: الأنثى، فلما آتاهما صالحا، أي: بشرا سويا كاملا، جعلا -أي: الزوجان الكافران- لله شركاء فيما آتاهما، وبذلك: أبدلا شكر الله؛ كفرانا به وجحودًا، وعلى هذا: لا يكون لآدم وحواء ذكر ما في الآيتين، وهنالك تفاسير أخرى، لست منها على ثلج، ولا طمأنينة3.
1 هكذا في النسخة المطبوعة، ولعلها: "وفيه نظر: أي: في كونه من القسم الثالث؛ والذي أقطع به والله أعلم أنه من القسم الثاني؛ لقيام الأدلة العقلية والنقلية على عصمة الأنبياء من مثل ذلك.
2 تفسير ابن كثير والبغوي: ج 3 ص 613، 614 ط المنار.
3 انظر تفاسير الكشاف، والقرطبي، وأبي السعود، والآلوسي، وغيرها.