الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالحلال والحرام؟ إنه واجب الاتباع من باب أولى، وأما الضعيف والموضوع المختلق على النبي: فأحرى به أن يرد.
وأما تفاسير الصحابة والتابعين، وهي أكثر من أن تحصى: ففيها الصحيح، والحسن، والضعيف، والموضوع، والإسرائيليات، التي تشتمل على خرافات بني إسرائيل، وأكاذيبهم، وقد تدسست إلى الكتب الإسلامية، ولا سيما كتب التفسير، وأصبحت تكون ركاما، غثًّا مجموعًا من هنا وهناك، سواء في ذلك ما كان خاصا بالتفسير المأثور وما جمع بين المأثور وغيره، فما كان من هذه الروايات صحيحا أو حسنا: أخذنا به، وما كان ضعيفا، أو واهيا، أو موضوعا، أو من الإسرائيليات: نبذناه ولا كرامة.
ملاحظة الأئمة القدامي لهذه الظاهرة:
وقد تنبه العلماء المحدثون القدامى، إلى هذه الظاهرة، وهي: غلبة الضعف على الرواية بالمأثور، فقد روي عن الإمام الجليل أحمد بن حنبل أنه قال:"ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم، والمغازي"، وقال المحققون من أصحاب الإمام: مراده: أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحيحة متصلة، وإلا فقد صح من ذلك شيء غير قليل، كما قلنا فيما سبق، وحققناه، وقيل: لأن الغالب عليها المراسيل1.
وروي عن الإمام الكبير الشافعي أنه قال: "لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث"، ومهما كان في هذه الكلمة من مبالغة، فهي تدل على كثرة ما وضع على ابن عباس، وألصق به، ونسب إليه زورا.
1 المرسل عند جمهور المحدثين: هو ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر الصحابي، وأما المرسل عند الفقهاء وبعض المحدثين فهو: ما لم يتصل إسناده على أي وجه، سواء أكان المحذوف الصحابي أم غيره، وسواء أكان المحذوف واحدا من الرواة، أو أكثر.
أسباب الضعف في التفسير بالمأثور:
لقد دخل الوضع والكذب في الحديث، فلا جرم أن دخل في التفسير بالمأثور، فقد كان التفسير كما قلنا جزءا من الحديث، وإن أقدم كتاب وصل إلينا في الحديث وهو: موطأ الإمام مالك اشتمل على "كتاب التفسير"، وقد سار على هذا بعض المؤلفين في
الحديث، حتى بعد أن انفصل التفسير بمعناه الفني الدقيق، وصار علما مستقلا، كما ذكرنا.
ويرجع الضعف والوضع في التفسير بالمأثور إلى أسباب أهمها:
1-
ما دسه الزنادقة من اليهود والفرس والرومان وغيرهم في الرواية الإسلامية، فقد دخل هؤلاء الإسلام وهم يضمرون له الشر والعداوة والكيد، وتستروا بالإسلام، بل بالغ بعضهم في التستر فتظاهر بحب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كانوا لا يمكنهم مواجهة سلطان الإسلام لا عن طريق الحرب والعداوة السافرة، ولا عن طريق الحجة والبرهان، فقد توصلوا إلى أغراضهم الدنيئة عن طريق الوضع، والاختلاق، والدس في المرويات الإسلامية على النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة، والتابعين، وكان للتفسير ولا ريب كفل من هذا، وكان هذا الصنف من أخبث الوضاعين، فقد وضعوا على النبي أحاديث يخالفها المحسوس، أو يناقضها المعقول، أو تشهد أذواق الحكماء بسخافتها، وإسفافها، مما لا يليق بالعقلاء.
2-
الخلافات السياسية والمذهبية: فقد سولت هذه الخلافات لأرقاء الدين، وضعفاء الإيمان أن يضعوا أحاديث تؤيد مذاهبهم، وأحاديث في فضائل متبوعيهم، وفي مثالب مخالفيهم، وذلك: كما فعل الشيعة، ولا سيما الروافض، فقد وضعوا في فضل سيدنا علي وآله أحاديث كثيرة، ونسبوا إليه كل علم وفضل، وفيها ما يتعلق بتفسير بعض آيات القرآن، وبأسباب النزول، كما وضعوا أحاديث في ذم السادة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم.
وكذلك: فعل أنصار العباسين، فقد وضعوا على ابن عباس روايات كثيرة، ولا سيما في تفسير القرآن، وصوروه بصورة العالم بكل شيء وقولوه ما لم يقل، كما وضعوا أحاديث في مثالب الأمويين وذمهم، وقابلهم أنصار الأمويين بالمثل، فضلا عن أعقل العقلاء، وإنما ينصبون بذلك المكيدة لضعفاء الأحلام، وأرقاء الدين، حتى يقعوا في ريبة فتتزلزل من نفوسهم عقيدة: أن الإسلام تنزيل من حكيم عليم.
قال ابن قتيبة1. "الحديث مدخله الشوب والفساد من وجوه ثلاثة: الزنادقة، واجتيالهم للإسلام، وتهجينه ببث الأحاديث المستبشعة، والمستحيلة، كالأحاديث التي
1 تأويل مختلِف الحديث لابن قتيبة ص 355.
قدمنا ذكرها من عرق الخيل، وعيادة الملائكة، وقفص الذهب على جمل أورق، وزغب الصدر ونور الذراعين، مع أشياء ليست تخفى على أهل الحديث"1.
وقال حماد بن زيد: "وضعت الزنادقة أربعة عشر ألف حديث ولما جيء بعبد الكريم بن أبي العوجاء، خال معن بن زائدة، الذي قتله محمد بن سليمان بن علي العباسي، أمير البصرة، بعد سنة مائة وستين في زمن المهدي، اعترف حينئذ بوضع أربعة آلاف حديث مما يحرم فيها الحلال، ويحلل فيها الحرام، وكان عبد الكريم هذا متهما بالمانويه، وكان يضع أحاديث بأسانيد يغتر بها من لا معرفة له بالجرح والتعديل. وتلك الأحاديث ضلالات في التشبيه، والتعطيل وبعضها بعيد عن أحكام الشريعة2، كما كان ينتسب إلى الرافضة في الظاهر، ووضع لهم الأحاديث التي اغتروا بها3، وقد كان الزنادقة حملوا الكثير من الخرافات والأباطيل، مما هو مسطور في كتبهم، ودسوها في الرواية الإسلامية وفسروا بها بعض الآيات القرآنية، ونسبوها زورًا إلى النبي، أو الصحابة، والتابعين، فجاء من لا يعلم الحقيقة، فطعن في الإسلام بسبب هذه المرويات الباطلة مثل حديث: "عوج بن عوق"، وأمثاله وقد ناهض العلماء حركة الزندقة بالتنبيه إلى ضلالاتهم ودسهم: كما قاومهم الخلفاء، والأمراء بقتلهم، وصلبهم.
وكذلك فعل الخوارج4، والقدرية5، والمرجئة6، والكرامية7، والباطنية8.
1 حديث عرق الخيل هو ما روي كذبا: "أن الله لما أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل وأجراها، فعرقت فخلق نفسه منها" قال ابن عساكر: هذا موضوع وضعه الزنادقة ليشنعوا على أهل الحديث في روايتهم المستحيل، وهو مما يقطع ببطلانه عقلا وشرعا، أما حديث عيادة الملائكة فهو ما روي كذبا:"أن الله اشتكت عيناه فعادته الملائكة" أما حديث قفص الذهب فلعل المراد به ما روي كذبا: "ينزل ربنا عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان، ويعانق المشاة"، قال ابن تيمية: هو من أعظم الكذب، أما حديث زغب الصدر، فهو ما روي زورا:"خلق الله تبارك وتعالى الملائكة من شعر ذراعيه وصدره أو نورهما".
2 الفرق بين الفرق للبغدادي ص 256.
3 التبصير في الدين ص 81.
4 هم الذين خرجوا على "على" ومعاوية وأتباعهما بعد ارتضائهما بالتحكيم وقالوا: "لا حُكْم إلا لله".
5 القدرية: هم الذين يقولون: "إن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية"، فقد سلبوها عن الله، ونسبوها لأنفسهم.
6 المرجئة: هم الذين يؤخرون الأعمال عن الإيمان، ويقولون:"لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة".
7 هم أتباع محمد بن كرام السجستاني.
8 هم الذين يقولون: "إن للقرآن ظاهرا وباطنا، والمراد الباطن، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشرة".
وأضرابهم، فقد وضعوا أحاديث تؤيد مذاهبهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"ثم إنه لسبب تطرف هؤلاء وضلالهم، دخلت الرافضة الإمامية ثم الفلاسفة، ثم القرامطة1، وغيرهم فيما هو أبلغ من ذلك، وتفاقم الأمر في الفلاسفة، والقرامطة، والرافضة؛ فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي العالم منها عجبه، فتفسير الرافضة كقولهم: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ} هما: أبو بكر وعمر، قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 2 أي: بين أبي بكر، وعمر، وعلي في الخلافة، وقالوا في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 3 هي: عائشة وقوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} 4: طلحة والزبير، وقوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} : عليا وفاطمة، وقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} 5: الحسن والحسين، وقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} 6 هو: علي، ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم، وهو: تصدقه بخاتمه في الصلاة وكذلك قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} 7: نزلت في علي لما أُصيب بحمزة، ومما يقارب هذا من بعض الوجوه: ما يذكره كثير من المفسرين في مثل قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَار} 8: إن "الصابرين": رسول الله، و"الصادقين": أبو بكر، و"القانتين": عمر، والمنفقين": عثمان، والمستغفرين" علي، وفي مثل قوله:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَه} : أبو بكر، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار} : عمر، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} : عثمان، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} 9: علي، وأعجب من ذلك:
1 القرامطة: فرقة من الباطنية نسبوا إلى أولهم، الذي دعا إلى مذهبهم، وهو رجل يسمى حمدان قرمط، وهي إحدى قرى واسط.
2 الزمر: 65.
3 البقرة: 67.
4 التوبة: 12.
5 الرحمن: 19، 22.
6 المائدة: 55.
7 البقرة: 157.
8 آل عمران: 17.
9 الفتح: 29.
قول بعضهم: {وَالتِّينِ} : أبو بكر، {وَالزَّيْتُونِ} : عمر، {وَطُورِ سِينِين} : عثمان، {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين} 1: علي، وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تفسير اللفظ بما لا يدل عليه2، وقد أطلت القول في هذا، في كتابي:"الوضع في الحديث وآثاره السيئة في كتب العلوم"3.
3-
القُصَّاص: فقد كانت هناك فئة تقص بالمساجد، وتذكر الناس، وترغبهم، وترهبهم، ولما كان هؤلاء ليسوا من أهل العلم بالحديث، وكان غرضهم من ذكر القصص استمالة العوام، فقد اختلقوا بعض القصص الباطل، وروجوا البعض الآخر بذكرهم له، وفي هذا الكثير من الإسرائيليات والخرافات والأباطيل، وقد تلقفها الناس منهم؛ لأن من طبيعة العوام الميل إلى العجائب والغرائب.
ويعجبني في هذا: ما ذكره ابن قتيبة عن القصاص، قال: فإنهم يميلون وجه العوام إليهم، ويستدرون ما عندهم بالمناكير، والأكاذيب من الأحاديث، ومن شأن العوام: القعود عند القاص ما كان حديثه عجيبا خارجا عن فطر العقول، أو كان رقيقا يحزن القلوب، فإذا ذكر الجنة قال: فيها الحوراء من مسك أو زعفران وعجيزتها ميل في ميل، ويبوِّئ الله وليه قصرا من لؤلؤة بيضاء، فيها سبعون ألف مقصورة، في كل مقصورة سبعون ألف قبة، ولا يزال هكذا في السبعين ألفا، لا يتحول عنها.
ومن هؤلاء القصاص: من كان يبتغي الشهرة والجاه بين الناس، ومنهم: من كان يقصد التعيش والارتزاق، ومنهم من كان سيء النية خبيث الطوية، يقصد الإفساد في الدين، وحجب جمال القرآن بما يفسره به من أباطيل وخرافات.
وقد حدثت بدعة القص في آخر عهد الفاروق: عمر رضي الله عنه، وقد كان ملهما حقا، حينما أبى أن يقص قاص في المسجد، وفيما بعد صار حرفة، ودخل فيه من لا خلاق له في العلم، وقد ساعدهم على الاختلاق: أنهم لم يكونوا من أهل الحديث.
1 سورة التين: 1، 2،
2 مقدمة في أصول التفسير 38-40.
3 هي الرسالة التي نلت بها العالمية من درجة أستاذ "الدكتوراه" ولم تطبع بعد. وقد تولد منها كتابان: دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، والثاني: هذا الكتاب.
والحفظ، وغالب من يحضرهم جهال، فجالوا وصالوا في هذا الميدان، وأتوا بما لا يقضى منه العجب.
ومن صفاقاتهم في هذا: ما روي أنه صلى أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين بمسجد الرصافة، فقام بين أيديهم قاص، فقال: حدثنا أحمد بن حنبل، ويحيى بن معينن قالا: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة طيرا، منقاره من ذهب، وريشه من مرجان"، وأخذ في قصة نحوا من عشرين ورقة! فجعل أحمد بن حنبل ينظر إلى يحيى بن معين، ويحيى ينظر إليه فقال: أنت حدثته بهذا! قال: والله ما سمعت بهذا إلا الساعة، فلما انتهى أشار له يحيى، فجاء متوهما نوالا، فقال له يحيى: من حدثك بهذا؟ قال: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فقال: أنا يحيى. وهذا أحمد، ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عيه وسلم، فإن كان ولا بد فعلى غيرنا، فقال: لم أزل أسمع أن يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل أحمقان، ما تحققته إلا الساعة، فقال له يحيى: وكيف؟ قال: كأنه ليس في الدنيا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين غيركما، لقد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين! 1 فما كان منهما إلا ان رضيا من النقاش بالسلامة.
ومن يدري، فلعلهما لو أطالا معه القول، لنالهما ما نال الشعبي، فقد دخل مسجدا، فإذا رجل عظيم اللحية، وحوله ناس يحدثهم، وهو يقول: إن الله خلق صورين، في كل صور نفختان، قال: فخففت صلاتي، ثم قلت له: اتق الله يا شيخ، إن الله لم يخلق إلا صورا واحدا، فقال لي: يا فاجر أنا يحدثني فلان، وفلان، وترد علي، ثم رفع نعله، وضربني فتتابع القوم علي ضربا، فو الله ما أقلعوا عني حتى قلت لهم: إن الله خلق ثلاثين صورا في كل صور نفختان!! وهكذا كان القصاص مصدر شر وبلاء على الإسلام والمسلمين.
4-
بعض الزهاد والمتصوفة: فقد استباح هؤلاء لأنفسهم وضع الأحاديث، والقصص في الترغيب، والترهيب، ونحوهما، وتأولوا في الحديث المتواتر المعروف:
"من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"، وقالوا: إنما تكذب للنبي ولا نكذب عليه1. وهو جهل منهم باللغة والشرع، فكل ذلك كذب عليه؛ لأن الكذب هو عدم مطابقة الأمر للواقع، فكل من ينسب إلى النبي، أو إلى الصحابة، أو إلى التابعين ما لم يقولوه، فقد كذب عليهم، قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: "رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذا؛ حسبة لوجه الله". وعن طريق هؤلاء دخل في التفسير شيء كثير.
5-
النقل عن أهل الكتاب الذين أسلموا ككعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وتميم الداري وأمثالهم، وقد حمل هؤلاء الكثير من المرويات المكذوبة، والخرافات الباطلة، الموجودة في التوراة وشروحها، وكتبهم القديمة التي تلقوها عن أحبارهم ورهبانهم جيلا بعد جيل، وخلفا عن سلف، ولم تكن هذه الإسرائيليات والمرويات مما يتعلق بأصول الدين، والحلال والحرام، وهي التي جرى العلماء من الصحابة والتابعين، فمن بعدهم على التثبت منها، والتحري عن رواتها، وإنما كانت فيما يتعلق بالقصص، وأخبار الأمم الماضية، والملاحم2، والفتن، وبدء الخلق، وأسرار الكون، وأحوال يوم القيامة.
وقد تنبه إلى هذا بعض الأئمة القدامى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية، المتوفى سنة 728هـ، في أثناء الكلام عن تفاسير الصحابة، قال:"وهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير3، في تفسيره عن هذين الرجلين: ابن مسعود، وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل
1 أي لترويج دينه وشريعته، لا للطعن فيهما.
2 جمع ملحمة وهو المواقع العظيمة.
3 السدي الكبير مختلف فيه: فمنهم من وثقه، ومنهم من ضعفه، أما السدي الصغير فهو متهم بالكذب.
ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين1 من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث، من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد"2، وقال أيضًا في رده على البكري، منكرًا عليه استدلاله بالحديث الذي يرويه، عن استشفاع آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم: هذا الحديث، وأمثاله لا يُحتج به في إثبات حكم شرعي، لم يسبقه أحد من الأئمة إليه..... فإن هذا الحديث لم ينقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بإسناد حسن، ولا صحيح، بل ولا ضعيف يستأنس به، ويعتضد به، وإنما نقل هذا وأمثاله كما تنقل الإسرائيليات التي كانت في أهل الكتاب وتنقل عن مثل كعب، ووهب، وابن إسحاق، ونحوهم، من أخذ ذلك عن مسلمة أهل الكتاب أو غير مسلمتهم كما روي: أن عبد الله بن عمرو وقعت له صحف يوم اليرموك من الإسرائيليات، وكان يحدث منها بأشياء"3.
وقد وافق ابن تيمية على مقالته أحد تلاميذه، وهو: الإمام الحافظ المفسر ابن كثير، فذكر نحوا من ذلك في مقدمة تفسيره4.
وقد جاء بعد ابن تيمية: الإمام العالم المؤرخ، واضع أساس علم الاجتماع: عبد الرحمن بن خلدون، المتوفى سنة 808، فأبان عن ذلك بأوفى وأتم في هذا في مقدمته المشهورة في أثناء الكلام عن علوم القرآن من التفسير والقراءات، قال: "وصار التفسير على صنفين تفسير نقلي، مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف، وهي: معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، ومقاصد الآي، وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين، وقد جمع المتقدمون في ذلك وأوعوا، إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث، والسمين، والمقبول، والمردود.
1 الزاملة البعير الذي يحمل عليه -يعني حمل بعيرين.
2 مقدمة في أصول التفسير ص 45.
3 الرد على البكري ص 6.
4 تفسير ابن كثير والبغوي جـ 1 ص 8.
والسبب في ذلك: أن العرب لم يكونوا أهل كتاب، ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة، والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة وأسرار الوجود؛ فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدون منهم، وهم أهل التوراة من اليهود، ومن تبع دينهم من النصارى، وأهل الكتاب الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير، الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا علي ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان1، والملاحم، وأمثال ذلك، وهؤلاء مثل: كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم، وفي أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام، فتتحرى فيها الصحة التي يجب بها العمل ويتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها -كما قلنا- عن أهل التوراة الذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك، إلا أنهم بعُد صيتهم، وعظمت أقدارهم لما كانوا عليه من المقامات في الدين والملة، فتلقيت بالقبول من يومئذ"2.
وفي كتب التفسير من هذه الإسرائيليات طامات وظلمات، والكثير منها لم ينبِّه ناقلوه على أصله، ولم يوقف على قائله، فكانت مثارا للشك، والطعن، والتقول على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم.
6-
نقل كثير من الأقوال، والآراء المنسوبة إلى الصحابة والتابعين من غير إسناد، ومن غير تحرٍّ عن رواتها، فمن ثم التبس الصحيح بالضعيف، والحق بالباطل، وصار كل من يقع على رأي يعتمده ويورده، ثم يجيء من بعدهم فينقله؛ على اعتبار أن له أصلا، وتحسينا للظن بقائله، ولا يكلف نفسه مؤنة البحث عن منشأ الرواية، وعمن رويت، ومن رواها عنه.
1 حدثان الدهر: أحداثه المشهورة.
2 مقدمة ابن خلدون: بحث التفسير ص 368 ط الأزهرية.