الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أضربت بالصّفح صفحا عن طوائلهم
…
طولا أطال مقيل النّوم في المقل
رحمت واشج أرحام أتيح لها
…
تحت الوشيج نشيج الرّوع والوجل
عاذوا بظلّ كريم العفو ذي لطف
…
مبارك الوجه بالتّوفيق مشتمل
أزكى الخليقة أخلاقا وأطهرها
…
وأكرم النّاس صفحا عن ذوي الزّلل
زان الخشوع وقار منه في خفر
…
أرقّ من خفر العذراء في الكلل
وطفت بالبيت محبورا وطاف به
…
من كان عنه قبيل الفتح في شغل
والكفر في ظلمات الرّجس مرتكس
…
ثاو بمنزلة البهموت من زحل
حجزت بالأمن أقطار الحجاز معا
…
وملت بالخوف عن خيف وعن ملل
وحلّ أمن ويمن منك في يمن
…
لمّا أجابت إلى الإيمان عن عجل
وأصبح الدّين قد حفّت جوانبه
…
بعزّة النّصر واستولى على الملل
قد طاع منحرف منهم لمعترف
…
وانقاد منعدل منهم لمعتدل
أحبب بخلّة أهل الحقّ في الخلل
…
وعزّ دولته الغرّاء في الدّول
أمّ اليمامة يوم منه مصطلم
…
وحلّ بالشّام شؤم غير مرتحل
تفرّقت منه أعراف العراق ولم
…
يترك من التّرك عظما غير منتثل
لم يبق للفرس ليث غير مفترس
…
ولا من الجيش جيش غير منجفل
ولا من الصّين سور غير مبتذل
…
ولا من الرّوم مرمى غير منتضل
ولا من النّوب جدم غير منجدم
…
ولا من الزّنج جزل غير منجدل
ونيل بالسّيف سيف البحر واتّصلت
…
دعوى الجنود فكلّ بالجهاد صلي
وسلّ بالغرب غرب السّيف إذ شرقت
…
بالشّرق قبل صدور البيض والأسل
وعاد كلّ عدو عزّ جانبهم
…
قد عاد منكم ببذل غير مبتذل
أصفى من الثّلج إشراقا مذاقته
…
أحلى من اللّبن المضروب في العسل
تنبيهات
الأول: لا خلاف أن هذه الغزوة كانت في رمضان، كما في الصحيح، وغيره، وعن ابن عباس قال: ابن شهاب كما عند البيهقي من طريق عقيل: لا أدري أخرج في شعبان فاستقبل رمضان، أو خرج في رمضان بعد ما دخل؟ ورواه البيهقي من طريق ابن أبي حفصة عن الزّهري بإسناد صحيح. قال: صبّح رسول الله- صلى الله عليه وسلم مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان.
وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد- رضي الله عنه قال: خرجنا مع
رسول الله- صلى الله عليه وسلم عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان، وهذا يدفع التردّد الماضي، ويعيّن يوم الخروج، وقول الزهري يعيّن يوم الدخول، ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوما.
قال الحافظ: وأما ما قاله الواقديّ أنّه خرج لعشر خلون من رمضان فليس بقويّ لمخالفته ما هو أصحّ منه، قلت: قد وافق الواقديّ على ذلك ابن إسحاق وغيره، ورواه إسحاق بن راهويه بسند صحيح عن ابن عبّاس، وعند مسلم أنه دخل لست عشرة، ولأحمد لثماني عشرة، وفي أخرى لثنتي عشرة، والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى والأخرى على ما بقي، والّذي في المغازي: دخل لتسع عشرة مضت وهو محمول على الاختلاف في أوّل الشّهر.
ووقع في أخرى: بالشكّ في تسع عشرة أو سبع عشرة وروى يعقوب بن سفيان من طريق الحسن عن جماعة من مشايخه: أنّ الفتح كان في عشرين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنّه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل الأخير.
الثاني: اختلفت الرّوايات فيمن أرسله رسول الله- صلى الله عليه وسلم ليأتي بكتاب حاطب: ففي
رواية أبي رافع عن عليّ قال: بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم أنا والزّبير والمقداد.
وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي، والزبير بن العوام، قال الحافظ: فيحتمل أن يكون الثلاثة كانوا معه، وذكر أحد الرّاويين عنه ما لم يذكر الآخر، ثم قال: والذي يظهر، أنه كان مع كل واحد منهما آخر تبعا له.
الثالث: جزم ابن إسحاق بأن جميع من شهد الفتح من المسلمين عشرة آلاف. ورواه البخاري في صحيحه عن عروة، وإسحاق بن راهويه من طريق آخر بسند صحيح عن ابن عباس، وقال عروة أيضا والزهري وابن عقبة كانوا اثني عشر ألفا، وجمع بأن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة. ثم تلاحق الألفان الرابع: وقع في الصحيح من رواية معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس «وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم المدينة» قال الحافظ: وهو وهم، والصّواب على رأس سبع سنين ونصف، وإنّما وقع الوهم من كون غزوة الفتح كانت في سنة ثمان، من أثناء ربيع الأول إلى أثناء رمضان نصف سنة سواء، والتحرير أنها سبع سنين ونصف ويمكن توجيه رواية معمر: بأنه بناء على التّاريخ بأول السّنة من المحرّم، فإذا دخل من السنة الثانية شهران أو ثلاثة أطلق عليها سنة مجازا، من تسمية البعض باسم الكل، ويقع ذلك في آخر ربيع الأوّل. ومن ثمّ إلى رمضان
نصف سنة سواء، ويقال: كان آخر شعبان تلك السّنة آخر سبع سنين ونصف، أو أن رأس الثمان كان أول ربيع الأول وما بعده نصف سنة.
الخامس: ورد أنه- صلى الله عليه وسلم أفطر بالكديد، وفي رواية بغيره كما سبق في القصة، والكلّ في سفرة واحدة، فيجوز أن يكون فطره- صلى الله عليه وسلم في أحد هذه المواضع حقيقة إما كديد، وإما كراع الغميم، وإما عسفان، وإما قديد، وأضيف إلى الآخر تجوّزا لقربه منه، ويجوز أن يكون قد وقع منه- صلى الله عليه وسلم الفعل في المواضع الأربعة، والفطر في موضع منها، لكن لم يره جميع النّاس فيه، لكثرتهم، وكرّره ليتساوى النّاس في رؤية الفعل، فأخبر كل عن رؤية عين وأخبر كل عن محلّ رؤيته.
السادس: وقع في الصّحيح: ثم جاءت كتيبة، وهي أقلّ الكتائب، أي عددا فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال القاضي- رحمه الله تعالى-: كذا لجميع رواة الصحيح بالقاف، وقد وقع في الجمع للحميديّ «أجلّ» بالجيم بدل القاف- من الجلالة، قال القاضي: وهو أظهر انتهى.
وكل منهما ظاهر لا خفاء فيه ولا ريب كما في مصابيح الجامع للدّماميني: أن المراد قلة العدد لا الاحتقار، هذا ما لا يظنّ بمسلم اعتقاده وتوهّمه، فهو وجه لا محيد عنه، ولا ضير فيه بهذا الاعتبار. والتّصريح بأن النبي- صلى الله عليه وسلم كان في هذه الكتيبة الّتي هي أقل عددا ممّا سواها من الكتائب قاض بجلالة قدرها، وعظم شأنها، ورجحانها على كل شيء سواها، ولو كان ملء الأرض بل وأضعاف ذلك.
السابع: وقع في الصحيح عن عروة قال: وأمر النبي- صلى الله عليه وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكّة من كداء- أي بالمدّ- ودخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم من أسفل مكة من كدّى، أي بالقصر. وهذا مخالف للأحاديث الصّحيحة. ففي الصّحيح وغيره أن خالد بن الوليد دخل من أسفل مكّة، ودخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم من أعلاها، وبه جزم ابن عقبة، وابن إسحاق وغيرهما.
الثامن: الحكمة في نزول النبي- صلى الله عليه وسلم بخيف بني كنانة الّذي تقاسموا فيه على الشّرك، أي تحالفوا عليه من إخراج النبي- صلى الله عليه وسلم وبني هاشم إلى شعب أبي طالب، وحصروا بني هاشم وبني المطّلب فيه، كما تقدم ذلك في أبواب البعثة، ليتذكّر ما كان فيه من الشّدّة فيشكر الله- تعالى- علي ما أنعم عليه من الفتح العظيم، وتمكنه من دخول مكّة ظاهرا على رغم من سعى في إخراجه منها، ومبالغة في الصّفح عن الّذين أساءوا، ومقابلتهم بالمنّ والإحسان، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
التاسع: قال القاضي أبو بكر بن العربي- رحمه الله تعالى- إنّما أنكر العباس على أبي سفيان ذكر الملك مجرّدا من النبوة، مع أنه كان في أول دخوله الإسلام، وإلّا فجائز أن يسمّى مثل هذا ملكا وإن كان لنبيّ، فقد قال الله سبحانه وتعالى في داود وَشَدَدْنا مُلْكَهُ [ص 20] وقال سليمان وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص 35] غير أن الكراهة أظهر في تسمية حال النبي- صلى الله عليه وسلم ملكا، لما جاء في الحديث: إن النبي- صلى الله عليه وسلم خير بين أن يكون نبيا عبدا، أو نبيا ملكا، فالتفت إلى جبريل، فأشار إليه أن تواضع، فقال: بل نبياً عبداً، أشبع يوما وأجوع يوما» . وإنكار العبّاس على أبي سفيان يقوّي هذا المعنى، وأمر الخلفاء الأربعة بعده أيضا يكره أن يسمّى ملكا، لقوله- صلى الله عليه وسلم «تكون بعدي خلفاء، ثم تكون أمراء، ثم يكون ملوك، ثم يكون جبابرة» .
العاشر: السّاعة الّتي أحلّ للنبي- صلى الله عليه وسلم القتل فيها بمكّة من صبيحة يوم الفتح إلى العصر كما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله تعالى عنهما.
الحادي عشر: لا مخالفة بين حديث نزوله- صلى الله عليه وسلم بالمحصّب، وبين حديث أمّ هانئ، أنه- صلى الله عليه وسلم نزل في بيت أم هانئ، لأنه- صلى الله عليه وسلم لم يقم في بيت أم هانئ وإنّما نزل به حتى اغتسل وصلّى، ثم رجع إلى حيث ضربت خيمته عند شعب أبي طالب، وهو المكان الّذي حصرت فيه قريش المسلمين قبل الهجرة كما تقدم بيان ذلك.
الثاني عشر: اختلف في قاتل ابن خطل، روى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي: أن أبا برزة الأسلميّ قتل ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند ابن المبارك في كتاب البرّ والصّلة من حديث أبي برزة نفسه. ورواه الإمام أحمد من وجه آخر. قال الحافظ: وهو أصحّ ما ورد في تعيين قاتله، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل العلم بالأخبار. وتحمل بقيّة الرّوايات على أنهم ابتدروا قتله، فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، وقد قيل: قتله الزبير بن العوام. وقيل شريك بن عبدة العجلاني.
الثالث عشر: وقع في حديث أم هانئ عند البخاري: إن النبي- صلى الله عليه وسلم اغتسل في بيتها، وفي حديثها عند مسلم: أنّها ذهبت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكّة، فوجدته يغتسل، وفاطمة تستره، ويجمع بينهما بأن ذلك تكرّر منه، ويؤيده ما رواه ابن خزيمة من طريق مجاهد عن أم هانئ وفيه: أن أبا ذر ستره لمّا اغتسل، ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكّة وكانت هي في بيت آخر بمكّة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل، فيصحّ القولان، وأما المتستر فيحتمل أن يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل، والآخر في أثنائه.
الرابع عشر: قال السّهيلي: ولا يجهر فيها بالقراءة أي صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ في ثمان ركعات، وهي صلاة الفتح، تعرف بذلك عند أهل العلم، وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلدا. قال أبو جعفر بن جرير: صلّى سعد بن أبي وقّاص حين افتتح المدائن ثمان ركعات في إيوان كسرى، قال: وهي ثمان ركعات لا يفصل بينها، ولا تصلى بإمام، قال السهيلي: ولا يجهر فيها بالقراءة.
الخامس عشر: وقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن ابن عمر: أنّه سأل أسامة وفي رواية أبي الشعثاء عن ابن عمر قال: أخبرني أسامة إن النبي- صلى الله عليه وسلم صلى فيه ههنا، وفي رواية خالد بن حارث عن ابن عوف عن نافع عن ابن عمر: فقلت: أين صلّى؟ فقالوا، ههنا. قال الحافظ: فإن كان محفوظا حمل على أنه ابتدأ بلالا بالسّؤال، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصّلاة، فسأل أسامة، وعثمان أيضا. ويؤيد ذلك رواية ابن عوف عند مسلم:«ونسيت أن أسألهم كم صلّى» بصيغة الجمع قال الحافظ: وهذا أولى من جزم القاضي بوهم الرّواية الّتي عند مسلم، وكأنه لم يقف على بقيّة الروايات.
السادس عشر: قول من زعم أن يحيى بن سعيد القطّان غلط في قوله ركعتين لقول ابن عمر: نسيت وأنّ الوهم دخل عليه من ذكر الرّكعتين بعد خروجه- صلى الله عليه وسلم « [والمغلّط] هو الغالط، وكلامه مردود، فإنّ يحيى ذكر الركعتين قبل وبعد، فلم يهم من موضع إلى موضع، ولم ينفرد يحيى بن سعيد بذلك حتّى يغلط، بل تابعه من سبق ذكرهم في القصّة، والعجب من الإقدام على تغليط جبل من جبال الحفظ بقول من خفي عليه وجه الجمع بين الحديثين، فقال بغير علم، ولو سكت لسلم.
السابع عشر: قال الحافظ: رحمه الله تعالى- جمع بين روايتي فليح، وأيوب، وابن عون عن نافع عن ابن عمر أنه قال:«نسيت أن أسأل بلالا» وفي لفظ: «أسألهم كم صلّى» وبين رواية غير نافع عن ابن عمر أنه سأل عن ذلك، فقيل له ركعتان باحتمال أن ابن عمر اعتمد في قوله في رواية مجاهد، وابن أبي مليكة وغيرهما عنه ركعتين على القدر المتحقّق، وذلك أن بلالا أثبت له أنّه صلّى، ولم ينقل إن النبي- صلى الله عليه وسلم تنفل في النّهار بأقل من ركعتين، وكانت الركعتان متحقّقا وقوعهما، لما عرف بالاستقراء من عادته- صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فقوله: ركعتين من كلام ابن عمر، لا من كلام بلال، قال الحافظ: ووجدت ما يؤيد هذا، ويستفاد منه جمع آخر بين الحديثين، وهو ما أخرجه عمر بن شبة في كتاب مكة من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر في هذا الحديث:«فاستقبلني بلال فقلت: ما صنع رسول الله- صلى الله عليه وسلم ههنا؟ فأشار بيده أن صلّى ركعتين بالسّبابة والوسطى» ، فعلى هذا فيحمل قوله: «نسيت أن
أسأله كم صلّى على أنه لم يسأله لفظا ولم يجبه لفظا وإنما استفاد منه صلاة ركعتين بإشارته لا بنطقه، وأما قوله في رواية أخرى: ونسيت أن أسأله كم صلى» فيحمل على أن مراده أنّه لم يتحقق هل زاد على ركعتين أولا؟، وقال شيخه الحافظ أبو الفضل العراقي: فيحتمل أن ابن عمر وإن كان سمع من بلال أنّه صلّى ركعتين لم يكتف بذلك في أنه لم يصل غيرهما، لأنّ من صلّى أربعا أو أكثر، يصدق عليه أنه صلى ركعتين على القول بأنّ مفهوم العدد ليس بحجّة كما هو المرجّح في الأصول، فلعلّ الذي نسي أن يسأل عنه بلالا في أنّه هل زاد على ركعتين بشيء أم لا؟. قال الحافظ ابن حجر: وأمّا قول بعض المتأخرين: يجمع بين الحديثين بأن ابن عمر سأل بلالا، ثم لقيه مرّة أخرى، فسأله، ففيه نظر من وجهين: أحدهما أنّ الذي يظهر أنّ القصّة وهو سؤال ابن عمر عن صلاته في الكعبة لم يتعدد، لأنه أتى في السّؤال بالفاء المعقّبة في الرّوايتين معا، فدل على أن السؤال عن ذلك كان واحدا في وقت واحد. ثانيهما أنّ راوي قول ابن عمر «نسيت» هو نافع مولاه، ويبعد مع طول ملازمته له إلى وقت موته أن يستمرّ على حكاية النسيان، ولا يتعرض لحكاية التذكر لقدر صلاته- والله تعالى أعلم.
الثامن عشر: قال الحافظ: لا يعارض إثبات أسامة في رواية ابن عمر عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم صلّى في البيت ما رواه ابن عبّاس عن أسامة إن النبي- صلى الله عليه وسلم لم يصلّ في البيت لإمكان الجمع بينهما، لأن أسامة حين أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه بكونه لم يره- صلى الله عليه وسلم حين صلّى، وقال الحافظ في موضع آخر: تعارضت الرواية عن أسامة في ذلك فتترجّح رواية بلال من جهة أنه مثبت وغيره ناف، ومن جهة أنه لم يختلف عليه في الإثبات، واختلف على من نفى.
وقال الإمام النووي وغيره: يجمع بين إثبات بلال، ونفي أسامة بأنهم لمّا دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدّعاء، فرأى أسامة النبي- صلى الله عليه وسلم يدعو، فاشتغل أسامة بالدّعاء في ناحية، والنبي- صلى الله عليه وسلم في ناحية، ثم صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده منه واشتغاله بالدّعاء، ولأن بإغلاق الباب تكون ظلمة مع احتمال أن يحجبه بعض الأعمدة، فنفاها عملا بظنه.
وقال الإمام المحب الطبريّ: يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته- انتهى. ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بإسناد جيد رجاله ثقات عن ابن أبي ذؤيب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة قال:
«دخلت مع النبي- صلى الله عليه وسلم في الكعبة فرأى صورا، فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فضرب به الصّور» ، قال القرطبي فلعله [استصحب النّفي] بسرعة عوده انتهى قلت: هو مفرّع علي إن هذه
القصّة وقعت عام الفتح، فإن لم يكن فقد روى عمر بن شبة في كتاب مكة من طريق علي بن بذيمة بالموحدة، وزن عظيمة التّابعي، قال:«دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم الكعبة. ودخل معه بلال، وجلس أسامة على الباب، فلمّا خرج وجد أسامة قد احتبى، فأخذ بحبوته فحلها» .
الحديث فلعله احتبى فاستراح فنعس، فلم يشاهد صلاته، فلما سئل عنها نفاها مستصحبا للنفي، لقصر زمن احتبائه، وفي كل ذلك إنما نفى رؤيته، لا ما في نفس الأمر. وبعض العلماء حمل الصلاة المثبتة على اللّغويّة، والمنفيّة على الشّرعيّة، ويردّ هذا الحمل ما تقدم في بعض طرقه الصحيحة: أنه صلى ركعتين، فظهر أنّ المراد الشّرعية لا مجرد الدعاء. وقال المهلب [ (1) ] شارح البخاري: يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرّتين. صلّى في إحداهما ولم يصلّ في الأخرى، وقال ابن حبان: الأشبه عندي في الجمع، أن يجعل الخبران في وقعتين، فيقال، لمّا دخل الكعبة في الفتح صلّى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصّلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها، لأن ابن عبّاس نفاها وأسند ذلك إلى أسامة وأخيه الفضل، وابن عمر أثبتها، وأسند ذلك إلى أسامة، وإلى بلال وأسامة أيضا، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض. قال الحافظ: وهو جمع حسن لكن تعقّبه النووي بأنه لا خلاف أنه- صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح لا في حجة الوداع، ويشهد له ما رواه الأزرقي عن سفيان بن عيينة عن غير واحد من أهل العلم: أنه- صلى الله عليه وسلم إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح، ثم حجّ فلم يدخلها، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرّتين ويكون المراد بالواحدة الّتي في خبر ابن عيينة واحدة السّفر لا الدّخول، وقد وقع عند الدّارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع. قلت: قال الدّارقطني في سننه: واعتمد القاضي عز الدين بن جماعة ذلك. واستدلّ له أيضا بأن الإمام أحمد قال في مسنده: حدثنا هشيم قال: أخبرنا عبد الملك عن عطاء، قال: قال أسامة بن زيد: دخلت مع النبي- صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وهلله وكبّره، وخرج ولم يصلّ، ثم دخلت معه في اليوم الثّاني، فقام، ودعا ثمّ صلّى ركعتين، ثم خرج فصلى ركعتين خارج البيت مستقبل وجه الكعبة، ثم انصرف، فقال:«هذه القبلة» ورواه أحمد بن منيع. قلت: لم أقف على هذا الحديث في مجمع الزوائد للهيثمي، ولا في إتحاف المهرة للأبوصيري، لا في كتاب الصلاة، ولا في كتاب الحج فالله أعلم. والّذي
في مجمع الزوائد عن ابن عباس قال: دخل النبي- صلى الله عليه وسلم الكعبة، فصلّى بين السّاريتين ركعتين، ثم خرج وصلّى بين الباب وبين الحجر ركعتين، ثم قال:«هذه القبلة» ثم
[ (1) ] هو المطلب بن أحمد بن أسيد الأسدي من تصانيفه شرح الجامع لصحيح البخاري توفي سنة 435، انظر معجم المؤلفين 13/ 32.
دخل مرة أخرى، فقام يدعو ولم يصلّ. رواه الطبراني في الكبير،
قال الهيثمي: فيه أبو مريم، روى عن صغار التّابعين، ولم أعرفه، وبقية رجاله موثقون، وفي بعضهم كلام.
وروى الأزرقي عن عبد المجيد بن عبد العزيز عن أبيه قال: بلغني أنّ الفضل ابن عباس دخل مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم يومئذ- أي يوم الفتح- فقال: لم أره صلّى فيها، قال أبي: وذلك فيما بلغني أن النبي- صلى الله عليه وسلم استعانه في حاجة فجاء وقد صلّى ولم يره. قال عبد المجيد: قال أبي، وذلك أنه بعثه فجاء بذنوب من ماء زمزم يطمس به الصّور الّتي في الكعبة، فلذلك لم يره صلّى. قلت: وأيضا أنه- صلى الله عليه وسلم أرسله وأسامة في ذلك- كما تقدّم في أسامة- واعتمد الإمام تقيّ الدّين الفاسي في تاريخه من هذه الأجوبة ما رواه أبو داود الطيالسي عن أسامة، وتعقب ما سواه بكلام نفيس جدا فراجعه فإنّك لا تجده في غير كتابه، وذكره هنا ليس من غرضنا.
التاسع عشر: تقدّم أنه- صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، وأنه جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وفي رواية جعل عمودا عن يساره وعمودين عن يمينه وفي أخرى عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وفي رواية بين العمودين اليمانيين، وفي أخرى بين العمودين تلقاء وجهه، وبين العمودين المقدمين، قال المحب الطبري في الأحكام الكبرى: وهذا يؤيد رواية من روى أنه جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره لأن الباب قريب من الحجر الأسود، جانح إلى جهة اليمين، ويفتح في جهة المشرق فإذا دخل منه وصلى تلقاء وجهه بين العمودين المقدمين اليمانيين والبيت يومئذ على ستة أعمدة فقد جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه، وصلّى إلى جهة المغرب، وقوله اليمانيّين قد يشكل فإنها ثلاثة صفّ وجعل اثنين منها يمانيين ليس بأولى من جعلهما شامييّن، والجواب: أنه إنّما جعل اثنين منهما يمانيين لأنّ مقرّ الثلاثة بصفة يمانيّ وبصفة شاميّ، فمن وقف بين المتمحض يمانيا وبين المشترك بين اليمن والشام جاز أن يقال فيه: وقف بين اليمانيين باعتبار ما نسب منه إلى اليمن تجوّزا ومن وقف بين المتمحض شاميا وبين المشترك جاز أن يقال فيه: وقف بين الشّاميين لما ذكرناه، أو تقول لما وقف بينهما كان هو إلى جهة اليمن أقرب، فأطلق عليهما يمانيين اعتبارا به، والأول أظهر، ولا تضادّ بين هذا وبين قوله عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره، فإنّ من ضرورة جعل عمودين عن يمينه أن يكون عمودا عن يمينه والآخر مسكوتا عنه، وليس في اللّفظ ما ينفيه، وقال الحافظ: ليس بين رواية: جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره مخالفة، لكن قوله في رواية مالك: وكان البيت يومئذ على ستّة أعمدة مشكل، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ويمكن الجمع بين الرّوايتين بأنّه حيث ثنّى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك، ويرشد إلى ذلك
قوله: وكان البيت يومئذ، لأنّ فيه إشعارا بأنّه تغيّر عن هيئته الأولى. قال الكرماني: لفظ العمود جنس يشمل الواحد والاثنين فهو مجمل بيّنته رواية «وعمودين» ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثّلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت، والثالث على غير سمتهما، ولفظ المقدّمين في الحديث السابق مشعر به قال الحافظ: ويؤيده رواية مجاهد عن ابن عمر عند البخاري في باب «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى» ، «فإن فيها بين السّاريتين اللّتين عن يسار الدّاخل» وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار، وأنّه صلّى بينهما، فيحتمل أنه كان ثمّ عمود آخر عن اليمين، لكنّه بعيد أو على غير سمت العمودين فيصحّ قول من قال:
جعل عن يمينه عمودين، وقول من قال: جعل عمودا عن يمينه، وجوّز الكرماني احتمالا آخر، وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفّة، فصلّى إلى جنب الأوسط فمن قال: جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره لم يعتبر الّذي صلّى إلى جنبه، ومن قال: عمودين اعتبره وجمع بعض المتأخّرين باحتمال تعدّد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث، وقد جزم البيهقيّ بترجيح رواية أنه جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره. وقال المحب الطبري في صفوة القرى إنه الأظهر.
العشرون: لا خلاف في دخوله- صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم الفتح، وتقدم في التنبيه الثامن عشر: أنه دخل في ثاني الفتح، وذكر بعضهم أنّه دخلها في عمرة القضية، والصّحيح خلافه، فقد قال البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى- رضي الله عنه أنه لم يدخلها، وذكر بعضهم أنّه دخلها في عمرة القضية وحجة الوداع، وسيأتي هناك تحقيق ذلك أن شاء الله تعالى.
الحادي والعشرون: اختلف في قدر إقامته- صلى الله عليه وسلم بمكة كما تقدم في القصة، وجمع الإمام البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عدّ يوم الدّخول والخروج، ومن قال سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عدّ أحدهما. وأما رواية خمس عشرة فضعفّها النّوويّ من الخلاصة. قال الحافظ: وليس بجيّد لأنّ رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق كما تقدم بيانه في القصة، وإذا ثبت أنّها صحيحة فلتحمل على أن الرّاوي ظنّ أنّ الأصل سبع عشرة فحذف منها يومي الدّخول والخروج، فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة، أرجح الرّوايات، ويرجّحها أيضا أنّها أكثر الرّوايات الصّحيحة، قال الحافظ: وحديث أنس لا يعارض حديث ابن عباس أي السابق في آخر القصّة، لأن حديث ابن عباس في الفتح وحديث أنس كان في حجة الوداع، وبسط الكلام على بيان ذلك، وقال في موضع آخر: الذي أعتقده أنّ حديث أنس إنما هو في حجّة الوداع فإنها هي السفرة الّتي أقام فيها بمكّة عشرة أيام، لأنّه دخل اليوم الرابع وخرج اليوم الرابع عشر، ثم قال الحافظ: ولعل
البخاري أدخله في هذا الباب إشارة إلى ما ذكرت، ولم يفصح بذلك تشحيذا للأذهان، ووقع في رواية الإسماعيلي: فأقام بها عشرا يقصر الصّلاة حتى رجع إلى المدينة، وكذا هو في باب قصر الصّلاة عند البخاري، وهو يؤيد ما ذكرته، فإنّ مدّة إقامتهم في سفرة الفتح حتّى رجعوا إلى المدينة أكثر من ثمانين يوما.
الثاني والعشرون: في بيان غريب ما سبق.
الأطناب: جمع طنب- بضم الطاء المهملة والنون حبل الخباء- بكسر الخاء المعجمة أي الخيمة.
الجوزاء- بفتح الجيم وسكون الواو، وبالزّاي والمدّ: نجم يقال إنها تعرض في جوز السّماء، أي وسطها.
الأفواج والأفاويج- جمع فوج: الجماعة من الناس.
الابتهاج: السرور.
خزاعة- بضم الخاء المعجمة وتخفيف الزاي وعين مهملة الدئل- بكسر الدال المهملة، وسكون الهمزة وتسهل.
رزن- براء تفتح وتكسر- كما ذكره صاحبا المحكم والباهر- فزاي ساكنة، وتفتح، كما في الإملاء، فنون.
ذؤيب: تصغير ذئب.
سلمى- بفتح السين المهملة.
كلثوم- بضم الكاف، وسكون اللّام، وبالثّاء المثلثة.
أنصاب الحرم- بالنون، والصاد المهملة: حجارة تجعل علامات بين الحل والحرم.
منخر بني كنانة- بنون، فخاء معجمة، فراء: أي المتقدّمون منهم: لأن الأنف هو المتقدّم من الوجه.
كنانة- بكسر الكاف.
يودون- بضمّ التّحتيّة، وبالمهملة: من الدية.
بنو- بكر- بفتح الموحدة، وسكون الكاف.
حجز الإسلام: منع.
الحديبية: تقدم الكلام عليها في غزوتها.