الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر قدوم أبي بصير على رسول الله- صلى الله عليه وسلم ورده إليهم وما حصل له ولأصحابه من الفرج
روى عبد الرزاق والإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي عن المسور بن مخرمة، والبيهقي عن ابن شهاب الزّهريّ [ (1) ] . إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة من الحديبية أتاه أبو بصير عتبة- بضم العين المهملة- ابن أسيد- بوزن أمير- بن جارية- بجيم- الثقفي، حليف بني زهرة- مسلما قد أفلت من قومه- فسار على قدميه سعيا، فكتب الأخنس بن شريق، وأزهر بن عبد عوف الزّهريّ إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم كتابا وبعثا خنيس- بمعجمة ونون وآخره مهملة- مصغّر- ابن جابر من بني عامر بن لؤيّ، استأجراه ببكر بن لبون، وحملاه على بعير، وكتبا يذكران الصّلح الذي بينهم، وأن يردّوا إليهم أبا بصير، فخرج العامريّ ومعه مولّى له يقال له كوثر دليلا، فقد ما بعد أبي بصير بثلاثة أيام فقرأ أبي بن كعب الكتاب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه، وأشهدنا بينك وبيننا من ردّ من قدم عليك من أصحابنا فابعث إلينا بصاحبنا.
فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم أبا بصير أن يرجع معهما، ودفعه إليهما فقال: يا رسول الله تردّني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فقال: «يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر وأن الله- تعالى جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا» ، فقال: يا رسول الله تردّنّي إلى المشركين؟!! قال: «انطلق يا أبا بصير، فإنّ الله سيجعل لك فرجا ومخرجا» فخرج معهما،
وجعل المسلمون يسرّون إلى أبي بصير: يا أبا بصير أبشر فإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا، والرّجل يكون خيرا من ألف رجل، فافعل وافعل: يأمرونه بقتل اللذين معه، وقال له عمر: أنت رجل، ومعك السيف، فانتهيا به عند صلاة الظهر بذي الحليفة، فصلى أبو بصير في مسجدها ركعتين، صلاة المسافر، ومعه زاد له من تمر يحمله، يأكل منه. ودعا العامري وصاحبه ليأكلا معه فقد ما سفرة فيها كسر فأكلوا جميعا وقد علّق العامريّ سيفه في الجدار وتحادثا. ولفظ عروة: فسلّ العامريّ سيفه ثمّ هزّه فقال: لأضربنّ بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوما إلى الليل. فقال له أبو بصير: أصارم سيفك هذا؟ قال: نعم، قال: ناولنيه أنظر إليه إن شئت، فناوله إيّاه، فلمّا قبض عليه ضربه به حتى برد. قال ابن عقبة: ويقال بل تناول أبو بصير السّيف بفيه وصاحبه نائم، فقطع إساره ثمّ ضربه به حتّى برد، وطلب الآخر فجمز مذعورا مستخفيا، وفي لفظ: وخرج كوثر هاربا يعدو نحو المدينة وهو عاضّ على أسفل ثوبه قد بدا طرف ذكره،
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 329 في الشروط وأبو داود في الجهاد باب 167 وأحمد 4/ 331 والبيهقي في الدلائل 4/ 107 وفي السنن 9/ 221 وعبد الرزاق في المصنف (9720) وانظر البداية والنهاية 4/ 176.
والحصى يطير من تحت قدميه من شدّة عدوه، وأبو بصير في أثره، فأعجزه
وأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه بعد العصر، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم حين رآه:«لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: «ويحك مالك» قال: قتل والله صاحبكم صاحبي وأفلت منه ولم أكد، وإني لمقتول. واستغاث برسول الله- صلى الله عليه وسلم فأمّنه، وأقبل أبو بصير فأناخ بعير العامريّ. ودخل متوشّحا سيفه. فقال: يا رسول الله قد وفت ذمّتك وأدّى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«ويل أمّه مسعر حرب [ (1) ] » وفي لفظ «محشّ حرب، لو كان معه رجال» وفي لفظ له أحد
قال عروة ومحمد بن عمر: وقدّم سلب العامريّ لرسول الله- صلى الله عليه وسلم ليخمسه، فقال:«إني إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالّذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت» وفي الصحيح أن أبا بصير لما سمع
قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم «ويل امّه مشعر حرب لو كان معه أحد»
عرف أنّه سيرده، فخرج أبو بصير ومعه خمسة كانوا قدموا معه مسلمين من مكة حين قدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم فلم يكن طلبهم أحد حتى قدموا سيف البحر، ولمّا بلغ سهيل بن عمرو قتل أبو بصير العامريّ اشتدّ عليه وقال: ما صالحنا محمدا على هذا. فقالت قريش: قد برئ محمد منه قد أمكن صاحبكم منه فقتله بالطريق، فما على محمد في هذا؟ فأسند سهيل ظهره إلى الكعبة وقال: والله لا أؤخّر ظهري حتّى يودى هذا الرجل، قال أبو سفيان بن حرب: إنّ هذا لهو السّفه، والله لا يودى ثلاثا- وأنّى قريش تديه وإنما بعثته بنو زهرة؟ فقال الأخنس بن شريق: والله ما نديه، ما قتلناه ولا أمرنا بقتله، قتله رجل مخالف فأرسلوا إلى محمد يديه. فقال أبو سفيان بن حرب: لا، ما على محمد دية ولا غرم قد برئ محمد. ما كان على محمد أكثر مما صنع، فلم تخرج له دية فأقام أبو بصير وأصحابه بسيف البحر، وقال ابن شهاب: بين العيص وذي المروة من أرض جهينة على طريق عيرات قريش.
قال محمد بن عمر: لما خرج أبو بصير لم يكن معه إلّا كفّ تمر فأكله ثلاثة أيام، وأصاب حيتانا قد ألقاها البحر بالسّاحل فأكلها، وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكّة خبر أبي بصير، فتسللوا إليه.
قال محمد بن عمر: كان عمر بن الخطاب هو الذي كتب إليهم بقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم لأبي بصير «ويل أمّه محش حرب لو كان له رجال» وأخبرهم أنه بالسّاحل، وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي ردّه رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بالحديبية، فخرج هو وسبعون راكبا ممّن أسلموا فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم في
[ (1) ] مشعر حرب أي موقدها، انظر المعجم الوسيط 1/ 432.
هدنة المشركين، وكرهوا الثواء بين ظهراني قومهم، فنزلوا مع أبي بصير، ولمّا قدم أبو جندل على أبي بصير سلم له الأمر، لكونه قرشيا فكان أبو جندل يؤمّهم، واجتمع إلى أبي جندل- حين سمع بقدومه- ناس من بني غفار وأسلم وجهينة، وطوائف من الناس حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل- كما عند البيهقي عن ابن شهاب- لا تمرّ بهم عير لقريش إلّا أخذوها وقتلوا من فيها، وضيّقوا على قريش، فلا يظفرون بأحد منهم إلّا قتلوه.
ومما قاله أبو جندل بن سهيل في تلك الأيام:
أبلغ قريشا عن أبي جندل
…
أنّا بذي المروة في السّاحل
في معشر تخفق راياتهم
…
بالبيض فيها والقنا الذّابل
يأبون أن تبقى لهم رفقة
…
من بعد إسلامهم الواصل
أو يجعل الله لهم مخرجا
…
والحقّ لا يغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه
…
ويقتل المرء ولم يأتل
فأرسلت قريش إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب يسألونه ويتضرعون إليه أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهم، وقالوا من خرج منّا إليك فأمسكه فهو لك حلال غير حرج أنت فيه. وقال: فإن هؤلاء الرّكب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره، فكتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير وأبي جندل يأمرهما أن يقدما عليه، ويأمر من معهما ممّن اتّبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم فلا يتعرضوا لأحد مر بهم من قريش وعيراتها، فقدم كتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم على أبي بصير وهو يموت. فجعل يقرؤه، ومات وهو في يديه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا.
وقدم أبو جندل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ناس من أصحابه ورجع سائرهم إلى أهليهم، وأمنت بعد ذلك عيرات قريش.
قال عروة: فلمّا كان ذلك من أمرهم علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضيّة أنّ طاعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم خير لهم فيما أحبّوا وفيما كرهوا من رأى من ظن أن له قوّة هي أفضل مما خص الله تعالى به رسوله من الفوز والكرامة- صلى الله عليه وسلم
ولمّا دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم عام القضية وحلق رأسه قال: «هذا الذي وعدتكم» .
ولمّا كان يوم الفتح أخذ المفتاح
وقال: «ادعوا لي عمر بن الخطاب. فقال: «هذا الّذي قلت لكم» .
ولما كان في حجة الوداع وقف بعرفة وقال: «أي عمر هذا الذي قلت لكم إني رسول الله- صلى الله عليه وسلم والله ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبية، وكان الناس قصر
رأيهم عمّا كان،
وكان أبو بكر- رضي الله عنه يقول: ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبية، وكان النّاس قصر رأيهم عمّا كان بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم وبين ربّه، والعباد يعجلون، والله- تعالى- لا يعجل لعجلة العبد حتى يبلغ الأمور ما أراد، لقد رأيت سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائما عند المنحر يقرّب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم بدنه ورسول الله- صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلّاق فحلق رأسه فأنظر إلى سهيل يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر امتناعه أن يقرّ يوم الحديبية بأن يكتب:«بسم الله الرحمن الرّحيم» فحمدت الله- تعالى- الذي هداه للإسلام.
ذكر ما أنزل الله سبحانه وتعالى في شأن غزوة الحديبية: قال الله سبحانه وتعالى «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً»
بيّنا وظاهرا، وهذا إخبار عن صلح الحديبية، وسمّاه فتحا لأنه كان بعد ظهوره على المشركين حتّى سألوه الصّلح، وتسبب عنه فتح مكة، وفرغ به- صلى الله عليه وسلم لسائر العرب فغزاهم، وفتح مواضع.
وروى البخاري عن أنس- رضي الله عنه في الآية قال: الفتح صلح الحديبية [ (1) ] .
وروى أيضا عن البراء رضي الله عنه قال: تعدّون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكّة فتحا، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرّضوان يوم الحديبية.
قال الحافظ رحمه الله يعني قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وهذا موضع وقع فيه اختلاف قديم: والتحقيق: أنه يختلف باختلاف المراد من الآيات. فقوله- تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً المراد بالفتح هنا الحديبية، لأنها كانت مبدأ الفتح المبين على المسلمين لما ترتّب على الصلح الذي وقع من الأمن ورفع الحرب وتمكّن من كان يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك، كما وقع لخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وغيرهما، ثم تبعت الأسباب بعضها بعضا، إلى أن كمل الفتح.
قال الزهري: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه إنما كان الكفر حيث القتال، فلمّا أمن الناس كلّهم، كلّم بعضهم بعضا، وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلّا بادر إلى الدخول فيه، فلقد دخل في تينك السّنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر.
[ (1) ] البخاري 8/ 447 (4834) .
قال ابن هشام: ويدل عليه أنه- صلى الله عليه وسلم خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج بعد سنتين إلى فتح مكّة في عشرة آلاف انتهى.
وأما قوله- تعالى- في هذه السّورة: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً فالمراد به فتح خيبر على الصحيح، لأنها وقعت فيها المغانم الكثيرة، وقسمت خيبر على أهل الحديبية، وأما قوله- تعالى: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً فالمراد به الحديبية، وأما قوله- تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وقوله- صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح» [ (1) ] فالمراد به فتح مكّة باتّفاق، فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال بعون الله.
وقال في موضع آخر: ومما ظهر من مصلحة الصلح المذكور غير ما ذكره الزّهري، أنه كان مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجا» فكانت الهدنة معناها كذلك، ولمّا كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح سميّت فتحا، لأنّ الفتح في اللغة فتح مغلق، والصّلح كان مغلقا حتّى فتحه الله- تعالى. وكان من أسباب فتحه صدّ المسلمين عن البيت، فكان في الصورة الظاهرة ضيماً للمسلمين، وفي الصورة الباطنة عزاً لهم، فإن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وكانوا قبل لا يتكلمون عندهم بذلك إلّا خفية.
وظهر من كان يخفى إسلامه، فذلّ المشركون من حيث أرادوا العزّة، وقهروا من حيث أرادوا الغلبة، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ اللام للعلة الغائيّة، جعل الغفران علة للفتح من حيث إنه سبب عن جهاد الكفّار والسّعي في إعلاء الدين، وإزاحة الشّرك وتكميل النّفوس النّاقصة قهرا، ليصير ذلك بالتّدريج اختيارا، وتخليص الضّعفة من أيدي الظّلمة، وتقدم الكلام على هذه الآية في أواخر تنبيهات المعراج، ويأتي له تتمة في الخصائص وَيُتِمَّ بالفتح المذكور نِعْمَتَهُ إنعامه بإِعلاء الدين وضم الملك إِلى النُّبُوّة عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ في تبليغ الرسالة وإقامة مراسيم الديانة صِراطاً طريقا مُسْتَقِيماً يثبّتك عليه، وهو دين الإسلام وَيَنْصُرَكَ الله به نَصْراً عَزِيزاً ذا عز لا ذلّ معه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ الثّبات والطّمأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ حتى يثبتوا، حتى لا تقلق النفوس وتدحض الأقدام لِيَزْدادُوا إِيماناً يقيناً مَعَ إِيمانِهِمْ يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها، أو أنزل فيه السّكون إلى ما جاء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم لِيَزْدادُوا إِيماناً بالشرائع مَعَ إِيمانِهِمْ بالله واليوم الآخر وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فلو أراد نصرَ دينه بغيركم لفعل وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بخلقه حَكِيماً في صنعه، أي لم يزل متّصفاً بذلك، ثم ذكر- تعالى- القصة في
[ (1) ] أخرجه من حديث ابن عباس البخاري 6/ 3 (2783) ومسلم 2/ 986 (445/ 1353) .
رسول الله- صلى الله عليه وسلم وفي أصحابه حتى انتهى إلي ذكر البيعة فقال عز وجل إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ بيعة الرضوان بالحديبية إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أي ما يبايعون أحدا إلّا الله، أي ليست تلك المبايعة مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم بل مع الله- تعالى- وكما روعيت المشاكلة بين قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ وبين قوله إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ بنى عليها قوله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ على سبيل الاستعارة التخييلية تتميما لمعنى المشاكلة، وهو كالترشيح للاستعارة، أي إذا كان اللَّه- تعالى- مبايعا، ولا بدّ للمبايع- كما تقرّر واشتهر- من الصّفقة لليد فتخيّل اليد لتأكيد المشاكلة، وإلّا، فجلّ جنابه الأقدس عن الجارحة، والمعنى أن الله تعالى- مطّلع على مبايعتهم فيجازيهم عليها فَمَنْ نَكَثَ نقض البيعة فَإِنَّما يَنْكُثُ يرجع وبال نقضه على نفسه وَمَنْ أَوْفى ثبت بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ في مبايعته فَسَنُؤْتِيه بالفوقية والنون أَجْراً عَظِيماً وهو الجنة، ثم ذكر تعالى ما المنافقون يعتلّون به إذا لقوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال تبارك وتعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ من الأَعراب حول المدينة، الذين خلّفهم الله- تعالى- عن صحبتك لمّا طلبتهم ليخرجوا معك إلى مكة، خوفا من تعرّض قريش لك عام الحديبية إذا رجعت منها شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا عن الخروج معك فَاسْتَغْفِرْ لَنا اللَّه- تعالى- من ترك الخروج معك، قال سبحانه وتعالى مكذبا لهم يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ أي من طلب الاستغفار والاعتذار ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فهم كاذبون في اعتذارهم قُلْ فَمَنْ استفهام بمعنى النّفي، أي لا أحد يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا بفتح الضّاد- ما يضركم كقتل، وخلل في المال والأهل وعقوبة عن التخلف- وبضمها- أي [الهزال وسوء الحال] أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً ما يضاد ذلك، لأنهم ظنّوا أنّ تخلفهم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضّرر، ويعجّل لهم النّفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم تبارك وتعالى أنه إن أراد بهم شيئاً من ذلك لم يقدر أحد على دفعه بَلْ هنا وفيما يأتي للانتقال من غرض إلى آخر كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيعلم تخلفكم وقصدكم فيه بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً أي ظننتم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون، وَزُيِّنَ ذلِكَ عدم الانقلاب فِي قُلُوبِكُمْ فتمكنّ فيها وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ هذا وغيره وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً بواو وراء جمع بائر أي هالكين عند الله- تعالى- بهذا الظّن وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا أعددنا وهيّئنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً نارا شديدة وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يديره كيف يشاء يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ إذ لا وجوب عليه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً ولم يزل متّصفا بذلك، ثم ذكر إن النبي- صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا انطلقوا إلى مغانم ليأخذوها التمس المخلّفون الخروج لعرض من الدنيا، فقال تبارك وتعالى سَيَقُولُ لك الْمُخَلَّفُونَ المذكورون إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ
لِتَأْخُذُوها هي مغانم خيبر، فإنه- صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة مدة ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها، وغنم أموالا كثيرة فخصّها بهم ذَرُونا اتركونا نَتَّبِعْكُمْ لنأخذ منها يُرِيدُونَ بذلك أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ وقرأ حمزة والكسائيّ بكسر الكاف، وهو جمع كلام- أي مواعيده بغنائم خيبر أهل الحديبية خاصة قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا نفي بمعنى النهي كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل عودنا فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نصيب معكم من الغنائم فقلتم ذلك بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ يعلمون من الدين إِلَّا قَلِيلًا منهم قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ المذكورين اختيارا سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ أصحاب شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ حال مقدّرة- هي المدعو إليها في المعنى أَوْ هم يُسْلِمُونَ فلا يقاتلون فَإِنْ تُطِيعُوا إلى قتالهم يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ عن الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ إثم في ترك الجهاد وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ بالياء والنون جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فصّل الوعد وأجمل الوعيد مبالغة في الوعد لسبق رحمته ثم جمل ذلك بالتكرار على سبيل التّعميم فقال: وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ كذلك عَذاباً أَلِيماً إِذ الترهيب هنا أنفع من التّرغيب.
ثم ذكر- تعالى- من بايع تحت الشجرة فقال عز وجل لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ بالحديبية تَحْتَ الشَّجَرَةِ هي سمرة كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمة، أو سدرة كما رواه مسلم عن جابر فَعَلِمَ اللَّه تعالى ما فِي قُلُوبِهِمْ من الصدق والوفاء فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ الطمأنينة وسكون النفس بالتشجيع عَلَيْهِمْ ثم ذكر ما أثابهم عن ذلك فقال: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها من يهود خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، فقسّمها رسول الله- صلى الله عليه وسلم بينهم وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً غالبا حَكِيماً أي لم يزل متّصفا بذلك وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها من الفتوحات التي تفتح لكم إلى يوم القيامة فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ غنيمة خيبر، ثمّ ذكّرهم نعمته عليهم بكفّ أيدي العدوّ عنهم فقال تعالى: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ في عيالكم لمّا خرجتم وهمّت بهم اليهود، فقذف الله- عز وجل في قلوبهم الرّعب، وقيل:
كفّ أيدي أهل مكّة بالصلح وَلِتَكُونَ هذه الكفّة أو الغنيمة المعجلة- عطفا على مقدّر أي لتشكروه آيَةً علامة لِلْمُؤْمِنِينَ يعرفون بها أنهم من الله- تعالى- بمكان، أو صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم في وعدهم فتح خيبر حين رجوعه من الحديبية وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي طريق التّوكل عليه، وتفويض الأمر إليه- تعالى- وَأُخْرى صفة مغانم،
فيقدّر مبتدأ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها بعد، لما كان فيها من الجولة، والمراد: فارس والرّوم قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها علم إنها ستكون لكم وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً لأن قدرته دائمة لا تختصّ بشيء دون شيء وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالحديبية ولم يصالحوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ لانهزموا ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحرسهم وَلا نَصِيراً ينصرهم سُنَّةَ اللَّهِ مصدر مؤكَّد بمضمون الجملة قبله من هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين، أي سنّ الله- تعالى- ذلك سنّة الَّتِي قَدْ خَلَتْ مضت في الأمم كما قال- تعالى- لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 21] مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تغييرا منه وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي كفار مكة وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ بالحديبية مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ فإن ثمانين طافوا بعسكركم ليصيبوا منكم غرّة فأخذوا، فأتى بهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، فكان ذلك سبب الصّلح وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من مقاتلتهم، وقرأ أبو عمرو بالتحتية بَصِيراً فيجازيهم عليه هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عن الوصول إليه وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً عليكم، معكوفا: محبوسا، حال أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ الذي ينحر فيه عادة وهو الحرم بدل اشتمال وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ موجودون بمكة مع الكفار لَمْ تَعْلَمُوهُمْ بصفة الإيمان أَنْ تَطَؤُهُمْ تقتلوهم مع الكفار لو أذن لكم في الفتح، بدل اشتمال فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ من جهتهم مَعَرَّةٌ مكروه، بوجوب الدّية، أو الكفارة بقتلهم، أو التأسف عليهم، أو غير ذلك بِغَيْرِ عِلْمٍ منكم به، وضمائر الغيبة به للصنفين بتغليب الذكور، وجواب لولا محذوف أي لأذن لكم في الفتح لكن لم يؤذن فيه حينئذ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ كالمؤمنين المذكورين لَوْ تَزَيَّلُوا تميزوا عن الكفار لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من أهل مكة حينئذ بأن نأذن لكم في فتحها عَذاباً أَلِيماً مؤلماً إِذْ جَعَلَ متعلق بِعذَّبنا الَّذِينَ كَفَرُوا فاعل فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ الأنفة من الشيء حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ بدل من حميّة، وهي صدّهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن المسجد الحرام فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فصالحوهم، على أن هذا يعود من قابل، ولم يلحقهم من الحميّة ما لحق الكفّار حتّى يقاتلوهم وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأضيفت إلى التقوى لأنها سببها وَكانُوا أَحَقَّ بِها من الكفار وَأَهْلَها عطف تفسير وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي لم يزل متّصفا بذلك، ومن معلومه تعالى أن المؤمنين أهلها لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم في النوم عام الحديبية قبل خروجه أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين ويحلقون رؤوسهم ويقصرون، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، فلّما خرجوا معه وصدّهم الكفّار بالحديبية ورجعوا، وشقّ عليهم ذلك، وراب بعض المنافقين