الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهدوا بيعة الرّضوان؟ قال: خمس عشرة مائة، قلت فإنّ جابر بن عبد الله قال: أربع عشرة مائة، قال: يرحمه الله توهّم، هو حدّثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة [ (1) ] .
وروى الشيخان، وابن جرير عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين [ (2) ] .
أفاد الواقديّ أنّ أسلم كانت في الحديبية مائة رجل.
وروى سعيد بن منصور والشيخان عن جابر بن عبد الله قال: كنّا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فقال لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم «أنتم خير أهل الأرض»
[ (3) ] .
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي عن جابر بن عبد الله، ومسلم عن أم مبشّر- رضي الله عنهما إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال:«لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة»
[ (4) ]
وروى الإمام أحمد بسند- رجاله ثقات- عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه قال: لما كان يوم الحديبية قال لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «لا توقدوا نارا باللّيل» فلما كان بعد ذلك قال: «أوقدوا واصطنعوا فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدّكم»
[ (5) ] .
فلمّا نظر سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص، ومن كان معهم من عيون قريش من سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب اشتدّ رعبهم وخوفهم، وأسرعوا إلى القضية.
ثم أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل» .
ذكر الهدنة وكيف جرى الصلح يوم الحديبية
روى ابن إسحاق وأبو عبيد وعبد الرزاق والإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه، ومحمد بن عمر عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، والشيخان عن سهيل بن حنيف أن عثمان لما قدم من مكة هو ومن معه رجع سهيل بن عمرو وحويطب ومكرز إلى قريش فأخبروهم بما رأوا من سرعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 507 (4153) .
[ (2) ] البخاري في المصدر السابق (4155) ومسلم 3/ 1485 (75/ 1857) .
[ (3) ] أخرجه البخاري 7/ 507 (4154) ، وأخرجه مسلم 3/ 1484 (71/ 1856) .
[ (4) ] أخرجه أبو داود (4653) والترمذي (3860) وأحمد 3/ 350 وابن المبارك في الزهد (498) وابن سعد 2/ 1/ 73 ومسلم في الفضائل باب 37 (163) .
[ (5) ] أخرجه أحمد 3/ 26 والحاكم 3/ 36 وابن أبي شيبة 8/ 481، 14/ 443 وأبو نعيم في تاريخ أصفهان 2/ 169.
إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب اشتدّ رعبهم، فقال أهل الرأي منهم: ليس خير من أن نصالح محمدا على أن ينصرف عنّا عامه هذا، ولا يخلص إلى البيت حتى يسمع من سمع بمسيره من العرب أنّا قد صددناه، ويرجع قابلا فيقيم ثلاثا وينحر هديه وينصرف، ويقيم ببلدنا ولا يدخل علينا، فأجمعوا على ذلك. فلما أجمعت قريش على الصلح والموادعة بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب ومكرز وقالوا لسهيل: ائت محمدا فصالحه وليكن في صلحك ألّا يدخل عامه هذا، فو الله لا تحدّث العرب أنه دخل علينا عنوة فأتى سهيل رسول الله- صلى الله عليه وسلم
فلما رآه رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: «قد أراد القوم الصّلح حين بعثوا هذا» وفي لفظ: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «سهل أمركم»
وجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم متربعا، وكان عباد بن بشر وسلمة بن أسلم بن حريش على رأسه- وهما مقنّعان في الحديد- فبرك سهيل على ركبتيه فكلم رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأطال الكلام وتراجعا، وارتفعت الأصوات وانخفضت، وقال عباد بن بشر لسهيل: اخفض من صوتك عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم والمسلمون حول رسول الله- صلى الله عليه وسلم جلوس، فجرى بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم وبين سهيل القول حتى وقع الصلح على أن توضع الحرب بينهما عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم بعضا، وأن يرجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم عامه هذا، فإذا كان العام المقبل قدمها فخلّوا بينه وبين مكة، فأقام فيها ثلاثا فلا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب لا يدخلها بغيره، وأنّه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليّه- وإن كان على دين محمّد- ردّه إلى وليّه، وأنه من أتى قريشا ممن اتّبع محمدا لم يردوه عليه، وأن بينهم وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال [ (1) ] ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.
فكره المسلمون هذه الشروط وامتعضوا منها، وأبى سهيل إلّا ذلك فلما اصطلحوا ولم يبق إلا الكتاب
وثب عمر بن الخطاب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست نبيّ الله حقا؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: علام نعطي الدّنيّة في ديننا؟ ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «إني عبد الله ورسوله ولست أعصيه ولن يضيّعني وهو ناصري» قال: أو ليس كنت تحدثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف حقا؟ قال: «بلى، أفأخبرتك أنّك تأتيه العام؟ قال: لا: قال: «فإنّك آتيه ومطوّف به» ،
فذهب عمر إلى أبي بكر متغيّظا ولم يصبر،
[ (1) ] الإسلال: السّرقة، انظر المعجم الوسيط 1/ 448.
فقال: يا أبا بكر: أليس هذا نبيّ الله حقا؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟
أليس قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدّنيّة في ديننا ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: أيّها الرّجل أنه رسول الله وليس يعصي ربّه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق. وفي لفظ فإنّه رسول الله. فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، قال: أو ليس كان يحدّثنا أنّه سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قال: لا. قال: فإنّك آتيه ومطوّف به. فلقي عمر من هذه الشّروط أمرا عظيما [ (1) ] . وقال كما في الصحيح: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، وجعل يردّ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم الكلام فقال أبو عبيدة بن الجراح- رضي الله عنه: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول ما يقول، تعوّذ بالله من الشّيطان واتّهم رأيك، قال عمر:
فجعلت أتعوذ بالله من الشيطان حياء فما أصابني شيء قط مثل ذلك اليوم وعملت بذلك أعمالا- أي صالحة- لتكفر عني ما مضى من التوقف في امتثال الأمر ابتداء كما عند ابن إسحاق وابن عمر الأسلمي. قال عمر: فما زلت أتصدّق وأصوم وأصلّي وأعتق من الّذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الّذي تكلمت به حتّى رجوت أن يكون خيرا.
وروى البزار عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه قال: اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أردّ أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم برأيي، وما ألوت على الحق، قال: فرضي رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأبيت حتى قال: «يا عمر تراني رضيت وتأبى»
[ (2) ] .
فقال سهيل: هات، اكتب بيننا وبينك كتابا،
فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم عليّا- كما في حديث البراء عند البخاري في كتاب الصّلح وكتاب الجزية، ورواه إسحاق بن راهويه من حديث المسور ومروان، وأحمد، والنسائي، والبيهقي والحاكم- وصححه عن عبد الله بن مغفل [ (3) ]، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«اكتب بسم الله الرحمن الرّحيم» ، فقال سهيل- وأسلم بعد ذلك- أمّا الرّحمن الرّحيم فو الله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب اكتب في قضيّتنا ما نعرف. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلّا بسم الله الرحمن الرّحيم. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم «اكتب باسمك اللهمّ» ثم قال: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم» فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن
[ (1) ] البخاري 4/ 26، 125، أخرجه مسلم 3/ 1412 (94/ 1785) والطبراني في الكبير 6/ 109 وابن سعد 1/ 1/ 20، وانظر المجمع 3/ 312، 5/ 67.
[ (2) ] أخرجه الدولابي في الكنى 2/ 69.
[ (3) ] عبد الله بن مغفل: بمعجمة وفاء ثقيلة، ابن عبيد بن نهم: بفتح النون وسكون الهاء، أبو عبد الرحمن المزني، صحابي، بايع تحت الشجرة، ونزل البصرة، مات سنة سبع وخمسين، وقيل بعد ذلك، التقريب 1/ 453.
البيت، ولا قاتلناك، اكتب في قضيّتنا ما نعرف، اكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم لعلي امحه، فقال على: ما أنا بالّذي «أمحاه» وفي لفظ «أمحاك» وفي حديث محمد ابن كعب القرظيّ: فجعل عليّ يتلكّأ، وأبى أن يكتب إلّا محمد رسول الله، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: اكتب فإنّ لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد
[ (1) ] انتهى.
وذكر محمد بن عمر أن أسيد بن الحضير وسعد بن عبادة أخذا بيد علي ومنعاه أن يكتب إلّا «محمد رسول الله» ، وإلّا فالسّيف بيننا وبينهم، فارتفعت الأصوات، فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويومئ بيده إليهم: اسكتوا. فقال: أرنيه، فأراه إياه فمحاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم بيده وقال: اكتب محمد بن عبد الله. قال الزهري: وذلك لقوله- صلى الله عليه وسلم لا يسألوني خطّة يعظّمون بها حرمات الله إلّا أعطيتهم إياها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم لسهيل على أن تخلّوا بيننا وبين البيت، فنطوف، فقال سهيل: لا والله لا تحدّث العرب أنّا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب. فقال سهيل: على أنه لا يأتيك منّا أحد بغير إذن وليّه- وإن كان على دينك إلّا سددته إلينا فقال المسلمون: سبحان الله، أيكتب هذا؟ كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم إلينا سيجعل الله له فرجا ومخرجا» [ (2) ] .
وفي حديث عبد الله بن مغفل عند الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم بعد أن ذكر نحو ما تقدم، قال فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السّلاح فثاروا إلى وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأسماعهم- ولفظ الحاكم بأبصارهم- فقمنا إليهم فأخذناهم،
فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم «هل جئتم في عهد أحد وهل جعل لكم أحد أمانا» ؟
فقالوا: لا. فخلّى سبيلهم فانزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [سورة الفتح 24]
[ (3) ] .
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، والثلاثة عن أنس قال:
لما كان يوم «الحديبية» هبط على رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكّة في
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 357 (2699) ، وأحمد 4/ 328، 4/ 86، 5، 23، 33 والبيهقي 9/ 220، 227 وعبد الرزاق في المصنف (9720) ، والطبري في التفسير 26/ 59، 63 وابن كثير في التفسير 7/ 324 وانظر المجمع 6/ 145، 146.
[ (2) ] انظر التخريج السابق وأخرجه أبو داود في الجهاد باب (167) واحمد 4/ 329، 330 والسيوطي في الدّر المنثور 6/ 76.
[ (3) ] أخرجه أحمد 4/ 87 والبيهقي 6/ 319 والحاكم في المستدرك 2/ 461 وابن الجوزي في زاد المسير 7/ 438 وانظر الدر المنثور 6/ 78.
السّلاح من قبل جبل التّنعيم يريدون غرّة رسول الله- صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم، فأخذوا فعفا عنهم [ (1) ] .
وروى عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلاً من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقال له ابن زنيم اطلع الثنية «يوم الحديبية» فرماه المشركون فقتلوه، فبعث نبي الله- صلى الله عليه وسلم خيلا، فأتوا باثني عشر فارسا، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم «هل لكم عهد أو ذمّة» ؟ قالوا: لا. فأرسلهم
[ (2) ] .
وروى الإمام أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، عن سلمة بن الأكوع. رضي الله عنه قال: إن المشركين من أهل مكة أرسلونا في الصّلح فلما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فاضطجعت في ظلّها، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله- صلى الله عليه وسلم فأبغضهم وتحوّلت إلى شجرة أخرى، فعلّقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم فاخترطتّ سيفي فاشتددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم، وجعلته في يدي، ثم قلت: والّذي كرّم وجه محمد- صلى الله عليه وسلم لا يرفع أحد منكم رأسه إلّا ضربت الّذي في عينيه، ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم وجاء عمّي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز من المشركين يقوده حتّى وقفناه على رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال: دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثنياه فعفا عنهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح 24] فبينما الناس على ذلك إذ أبو جندل- بالجيم والنّون وزن جعفر- بن سهيل ابن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكّة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، وكان أبوه سهيل قد أوثقه في الحديد وسجنه، فخرج من السّجن واجتنب الطّريق وركب الجبال حتّى أتى «الحديبية- فقام إليه المسلمون يرحّبون به ويهنّئونه، فلما رآه أبوه سهيل قام إليه فضرب وجهه بغصن شوك وأخذ بتلبيبه
ثم قال: «يا محمد، هذا أوّل ما أقاضيك عليه أن تردّه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم «إنّا لم نقض الكتاب بعد» قال فو الله إذا لا أصالحك على شيء أبدا. قال: «فأجزه لي» قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: «بلى فافعل» . قال:
ما أنا بفاعل.
فقال مكرز وحويطب: بلى قد أجزناه لك. فأخذاه فأدخلاه فسطاطا فأجازاه وكفّ عنه أبوه. فقال أبو جندل أي معاشر المسلمين أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا
[ (1) ] أخرجه مسلم 3/ 1442 (133/ 1808) ، وأحمد 3/ 124 والغرة هي الغفلة أي يريدون أن يصادفوا منه ومن أصحابه غفلة عن التأهب لهم ليتمكنوا من غدرهم والفتك بهم.
[ (2) ] أخرجه الطبري 26/ 59 وذكره السيوطي في الدر المنثور 6/ 76.
ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذّب عذابا شديدا،
فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم صوته وقال: يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنّا قد عقدنا مع القوم صلحا وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدا، وإنّا لا نغدر»
ومشى عمر بن الخطاب إلى جنب أبي جندل، وقال له: اصبر واحتسب فإنّما هم المشركون وإنّما دم أحدهم دم كلب، وجعل عمر يدنى قائم السّيف منه. قال عمر: رجوت أن يأخذ السّيف فيضرب به أباه. قال فضنّ الرّجل بأبيه. [ (1) ]
وقد كان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم قد خرجوا وهم لا يشكّون في الفتح لرؤيا رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فلمّا رأوا ما رأوا من الصّلح والرجوع وما تحمل عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل علي الناس من ذلك أمر عظيم حتّى كادوا يهلكون. فزادهم أمر أبي جندل على ما بهم، ونفذت القضية وشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين:
أبو بكر وعمر، وعبد الرحمن ابن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة وعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهم ومكرز بن حفص وهو مشرك.
فلما فرغ من قضيّة الكتاب
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «قوموا فانحروا ثم احلقوا» فو الله ما قام رجل منهم، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فاشتدّ ذلك عليه، فدخل على أم سلمة فقال:
«هلك المسلمون، أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا» . وفي رواية: «ألا ترين إلى النّاس أمرهم بالأمر فلا يفعلونه- وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي» .
فقالت: يا رسول الله، لا تلمهم فإنّهم قد دخلهم أمر عظيم ممّا أدخلت على نفسك من المشقّة في أمر الصّلح، ورجوعهم بغير فتح يا نبي الله اخرج ولا تكلّم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فجلى الله- تعالى- عن الناس بأم سلمة- فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم واضطبع [ (2) ] بثوبه، فخرج فأخذ الحربة ويمّم هديه وأهوى بالحربة إلى البدن رافعا صوته «بسم الله والله أكبر» ونحر، فتواثب المسلمون إلى الهدي وازدحموا عليه ينحرونه حتى كاد بعضهم يقع على بعض، وأشرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في الهدي، فنحر البدنة عن سبعة، وكان هدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم سبعين بدنة، وكان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثّنيّة، فلما صدّه المشركون ردّ وجوه البدن [ (3) ] .
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 330 والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 331.
[ (2) ] اضطبع: أخذ الإزار أو البرد فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره، انظر النهاية 3/ 73.
[ (3) ] أخرجه البخاري 3/ 257 وأبو داود في الجهاد باب 167 واحمد 4/ 331 والبيهقي في الدلائل 4/ 106 وعبد الرزاق (9720) والطبري 26/ 63 وابن أبي شيبة 14/ 450.
قال ابن عباس: لما صدّت عن البيت حنّت كما تحنّ إلى أولادها. رواه الإمام أحمد والبيهقي [ (1) ] . فنحر رسول الله- صلى الله عليه وسلم بدنه حيث حبسوه وهي الحديبية، وشرد جمل أبي جهل من الهدي وهو يرعى وقد قلد وأشعر. وكان نجيبا مهريا في رأسه برّة من فضة، أهداه ليغيظ بذلك المشركين، فمر من الحديبية حتى انتهى إلي دار أبي جهل بمكة، وخرج في أثره عمرو بن عنمة بن عديّ الأنصاري، فأبى سفهاء مكّة أن يعطوه حتّى أمرهم سهيل بن عمرو بدفعه إليه، قيل: ودفعوا فيه عدّة نياق،
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم «لولا أن سمّيناه في الهدي فعلنا» ،
ونحره عن سبعة، ونحر طلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، بدنات ساقوها.
وروى ابن سعد عن أبي سفيان عن جابر قال: نحر رسول الله- صلى الله عليه وسلم سبعين بدنة عام الحديبية، البدنة عن سبعة، وكنّا يومئذ ألفا وأربعمائة، ومن لم يضح أكثر ممن ضحى، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم مضطربا في الحل وإنّما يصلّي في الحرم. وبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم من هديه بعشرين بدنة لتنحر عنه عند «المروة» مع رجل من أسلم، فلما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم من نحر البدن دخل قبة له من أدم حمراء ودعا بخراش- بمعجمتين- بن أمية بن الفضل الكعبي، فحلق رأسه ورمى شعره على شجرة كانت إلى جنبه من سمرة خضراء، فجعل الناس يأخذون الشّعر من فوق الشّجرة فيتحاصونه، وأخذت أمّ عمارة طاقات من شعره فكانت تغسلها للمريض وتسقيه فيبرأ، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا.
وحلق بعض المسلمين وقصّر بغض،
فأخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم رأسه من قبته وهو يقول: رحم الله المحلقين، قيل: يا رسول الله والمقصرين قال: «رحم الله المحلّقين ثلاثا» . ثم قال و «المقصرين»
[ (2) ] .
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنهم قالوا: يا رسول الله ما بال المحلّقين ظاهرت عليهم الترحيم؟ قال: لأنّهم لم يشكّوا [ (3) ] . ورواه البيهقي موقوفا.
وبعث الله تعالى ريحا عاصفة فاحتملت أشعارهم فألقتها في الحرم كما رواه ابن سعد عن مجمع بن يعقوب عن أبيه، وأقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم «بالحديبية تسعة عشر يوما، ويقال عشرين ليلة، ذكره محمد بن عمر، وابن سعد. قال ابن عائذ: وأقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم في غزوته هذه شهرا ونصفا.
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 4/ 152.
[ (2) ] أخرجه الحاكم 4/ 230 والبيهقي 5/ 236 والدعاء للمحلّفين متفق عليه من حديث ابن عمر البخاري 3/ 561 (1727) ومسلم 2/ 945 (317/ 1301) .
[ (3) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 4/ 151.