الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نزلت، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ متعلق بصدق، أو حال من الرّؤيا، وما بعدها تفسير لها لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ أي جميع شعورها وَمُقَصِّرِينَ شعورها، وهما حالان مقدرتان لا تَخافُونَ حال مؤكدة أو استئناف: أي لا تخافون بعد ذلك فَعَلِمَ في الصلح ما لَمْ تَعْلَمُوا من الصلاح فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي الدخول فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر، وتحقّقت الرّؤيا في العام القابل، ويأتي الكلام على تفسير بقيّة السّورة في الخصائص أن شاء الله تعالى.
تنبيهات
الأول: الحديبية: بحاء مهملة مضمومة، فدال مهملة مفتوحة فموحدة مكسورة فتحتية مفتوحة. قال الإمام الشافعي- رحمه الله وأهل اللغة وبعض أهل الحديث- رحمهم الله التّحتيّة مخففة. وقال أكثر أهل الحديث مشددة. قال النووي- رحمه الله فهما وجهان مشهوران.
وقال في المطالع: ضبطنا التخفيف عن المتقنين وأما عامة الفقهاء والمحدّثين فيشدّدونها. وقال البكري- رحمه الله أهل العراق يشدّدون، وأهل الحجاز يخففون.
وقال النحّاس- رحمه الله سألت كلّ من لقيت ممّن أثق بعلمه عن «الحديبية» فلم يختلفوا عن قراءتها مخففة.
قال أحمد بن يحيى [ (1) ]رحمه الله لا يجوز فيها غيره، ونصّ في البارع على التخفيف. وحكى التّشديد ابن سيده- رحمه الله في المحكم، قال في تهذيب المطالع: ولم أره لغيره، وأشار بعضهم إلى أنّ التثقيل لم يسمع حتى يصح، ووجهه أن التّثقيل إنما يكون في المنسوب، نحو الإسكندريّة فإنها منسوبة إلى الإسكندر وأمّا الحديبية فلا تعقل فيها النّسبة، وياء النسبة في غير منسوب قليلة، ومع قلته موقوف على السماع. والقياس أن يكون أصلها حدباء بزيادة «ألف للإلحاق ببنات الأربعة، فلما صغرت انقلبت الألف ياء» ، وقيل: حديبة، وشهد لصحة هذا أقوالهم لييلة بالتّصغير، ولم يرد لها مكبّر فقدّره الأئمة ليلة لأن المصغّر فرع المكبّر، ويمتنع وجود فرع بدون أصله.
قال المحب الطبري- رحمه الله: هي قريبة من مكة أكثرها في الحرم.
وفي صحيح البخاري عن البراء «الحديبية» بئر. قال الحافظ- رحمه الله يشير إلى أنّ
[ (1) ] أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني بالولاء، أبو العباس، المعروف بثعلب: إمام الكوفيين في النحو واللغة. كان راوية للشعر، محدثا، مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة، ثقة حجة. ولد ومات في بغداد. وأصيب في أواخر أيامه بصمم فصدمته فرس فسقط في هوة، فتوفي على الأثر سنة 291 هـ من كتبه «الفصيح و «قواعد الشعر» و «شرح ديوان زهير» ، انظر الأعلام 1/ 267.
المكان المعروف بالحديبية سمي ببئر كانت هنالك، هذا اسمها، ثم عرف المكان كلّه بذلك، وبينها وبين مكة نحو مرحلة واحدة، وبين المدينة تسع مراحل الثاني: قالوا: كانت سنة ست، قاله الجمهور، في ذي القعدة، وقال هشام ابن عروة عن أبيه- رحمهما الله- في شوال، وشذّ بذلك هشام عن الجمهور. وقد وافق أبو الأسود عن عروة الجمهور. وفي البخاري عن عائشة- رضي الله عنها قالت: ما اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلّا في ذي القعدة، وفيه عن أنس- رضي الله عنه اعتمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة، فذكر منها عمرة الحديبية [ (1) ] .
الثالث: اختلفت الروايات في عدّة من كان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم فيها، ففي رواية عبد العزيز الأفاقي عن الزّهري في حديث المسور، ومروان: ألف وثمانمائة.
وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء: كنّا أربع عشرة مائة.
وفي رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق كانوا ألفا وأربعمائة أو أكثر.
وفي رواية لسالم بن أبي الجعد عن جابر: أنّهم كانوا خمس عشرة مائة، وكذلك رواية سعيد بن المسيّب عنه، وكذلك رواية ابن أبي شيبة عن مجمع بن جارية.
قال الحافظ- رحمه الله والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال ألف وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألف وأربعمائة ألغاه. ويؤيده قول البراء في رواية عنه: كنّا ألفا وأربعمائة أو أكثر، واعتمد على هذا الجمع النووي- رحمه الله.
وأما البيهقي- رحمه الله فمال إلى التّرجيح، وقال: إن رواية من قال ألفا وأربعمائة أرجح، ثم روى من طريق أبي الزبير ومن طريق سفيان بن عمر بن دينار، كلاهما عن جابر كذلك.
ومن رواية معقل بن يسار عن سلمة بن الأكوع، والبراء بن عازب ومن طريق قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه، ومعظم هذه الطرق عن مسلم.
ووقع عند ابن سعد- رحمه الله في حديث معقل بن يسار: زهاء ألف وأربعمائة، وهو أيضا في عدم التحديد.
وأما قول عبد الله بن أبي أوفى- رحمه الله: كنّا ألفا وثلاثمائة كما رواه البخاري، فيمكن حمله على ما أطلع عليه، واطلع غيره على زيادة أناس لم يطّلع هو عليهم، والزيادة من الثّقة مقبولة. أو العدد الّذى ذكره عدد المقاتلة. والزّيادة عليها من الأتباع ومن الخدم والنّساء والصّبيان الّذين لم يبلغوا الحلم.
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 439 (4148) ومسلم 2/ 916 (217/ 1253) وسيأتي في هديه- صلى الله عليه وسلم في الحج.
وأمّا قول ابن إسحاق- رحمه الله إنّهم كانوا سبعمائة فلم يوافقه أحد عليه، لأنه قاله استنباطا من قول جابر- رضي الله عنه: نحرنا البدنة عن عشرة، وكانوا نحروا سبعين بدنة.
وهذا لا يدل على أنّهم لم ينحروا غير البدن، مع أنّ بعضهم لم يكن أحرم أصلا. وقال ابن القيم: ما ذكره ابن إسحاق غلط بيّن، واستدلّ به من أنّهم نحروا سبعين بدنة، والبدنة جاء إجزاؤها عن سبعة وعن عشرة، وهذا لا يدل على ما قاله فإنّه قد صرّح أن البدنة في هذه العمرة عن سبعة، فلو كانت السّبعون عن جميعهم كانوا أربعمائة وتسعين رجلا، وقد قال في تمام الحديث بعينه: إنّهم كانوا ألفا وأربعمائة.
وأما ما وقع في حديث المسور ومروان عن البخاري أنهم خرجوا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم بضع عشرة مائة، فيجمع أيضا بأنّ الّذين بايعوا كانوا كما تقدم. وأما الّذين زادوا على ذلك فكانوا غائبين عنها، كمن توجّه مع عثمان- رضي الله عنه إلى مكة، على أنّ لفظ البضع يصدق على الخمس والأربع، فلا تخالف.
وجزم ابن عقبة بأنّهم كانوا ألفا وستمائة، وفي حديث سلمة بن الأكوع عند ابن أبي شيبة ألفا وسبعمائة. وحكى ابن سعد: أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين. وهذا إن ثبت تحرير بالغ.
وزاد ابن مردويه عن ابن عبّاس، وفيه ردّ على ابن دحية، حيث زعم أنّ سبب الاختلاف في عددهم، أنّ الّذي ذكر عددهم لم يقصد التّحديد، وإنما ذكره بالحدس والتّخمين.
الرابع: في أخذه- صلى الله عليه وسلم ذات اليمين عن خالد وجيشه، جواز الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش طلبا لغرّتهم.
الخامس: في استشارته- صلى الله عليه وسلم أصحابه، استحباب مشورة الإمام رعيّته وجيشه استخراجا لوجه الرأي، واستطابة لنفوسهم، وأن يخصّص به بعضهم دون البعض.
السادس:
في قوله- صلى الله عليه وسلم: ما خلأت وما ذاك لها بخلق،
جواز الحكم على الشّيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه، وإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد مثلها منه لا تنسب إليه ويردّ على من نسبه إليها ممّن، لا يعرف صورة حاله، لأن خلأ القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنّه الصّحابة جميعا صحيحا، ولم يعاتبهم النبي- صلى الله عليه وسلم بعذرهم في ظنّهم.
السابع:
قوله- صلى الله عليه وسلم حبسها حابس الفيل:
أي حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، وقصة الفيل مشهورة، وتقدّمت الإشارة إليها. ومناسبة ذكرها أن الصّحابة لو دخلوا مكّة على تلك الصّورة وصدّتهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدّماء ونهب الأموال، كما لو قدّر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم
الله- تعالى- في الموضعين أنّه سيدخل في الإسلام خلق منهم، وسيخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون. وكان بمكة في الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طرق الصحابة مكّة لما أمن أن يصاب منهم ناس بغير عمد كما أشار إلى ذلك تبارك وتعالى في قوله: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ [الفتح 25] الآية.
الثامن: استبعد المهلب جواز إطلاق حابس الفيل على الله عز وجل، وقال: المراد حبسها أمر الله سبحانه وتعالى. وتعقّب بأنه يجوز إطلاق ذلك في حق الله- تعالى- فيقال:
حبسها الله حابس الفيل، وإنما الذي يمكن أن يمنع تسميته- تعالى- حابس الفيل ونحوه، كما أجاب به بن المنير، وهو مبني على الصحيح من أن الأسماء توقيفيّة.
وقد توسّط الغزاليّ وطائفة فقالوا: محلّ المنع ما لم يرد نص بما يشتقّ منه بشرط ألّا يكون ذلك الاسم المشتقّ منه مشعرا بنقص، فيجوز تسميته بالواقي وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ [غافر 9] ولا يجوز تسميته البنّاء وإن ورد في قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات 47] التاسع:
في قوله- صلى الله عليه وسلم: «حبسها حابس الفيل»
جواز التّشبيه من الجهة العامّة، وإن اختلفت الجهة الخاصّة، لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه النّاقة كانوا على حقّ محض، ولكن جاز التّشبيه من جهة أراده الله- تعالى- منع الحرم مطلقا، أما من أهل الباطل فواضح، وأمّا من أهل الحقّ فللمعنى الذي تقدم ذكره في الرابع.
العاشر:
قوله- صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطّة..
. إلى آخره» . قال السهيلي رحمه الله: لم يقع في شيء من طرق الحديث، أنه قال إن شاء الله- تعالى- مع أنّه مأمور في ذلك في كلّ حال.
قال: والجواب عن ذلك إنه كان أمرا واجبا حتما، فلا يحتاج معه للاستثناء، وتعقب بأنّه- تعالى- قال في هذه القصّة لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ فقال: إن شاء الله، مع تحقيق وقوع ذلك تعليما وإرشادا، فالأولى أن يحمل على أنّ الاستثناء سقط من الراوي، أو كانت القصّة قبل نزول الأمر بذلك، ولا يعارضه كون الكهف مكّية، إذ لا مانع من أن يتأخّر نزول بعض السّورة،
وفي قوله- صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده»
إلخ تأكيد القول باليمين ليكون أدعى إلى القبول. وقد حفظ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعا، كما سيأتي بسط ذلك في بابه.
الحادي عشر: في حديث البراء في شفير بئر الحديبية أنه- صلى الله عليه وسلم توضّأ فمضمض
ودعا ثم صبّه فيها، وفي حديث المسور، ومروان إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم انتزع سهما من كنانته ثمّ أمرهم أن يجعلوه فيها، ويمكن الجمع بأن الأمرين وقعا معا، ويؤيّد ذلك ما رواه محمد بن عمر من طريق أوس بن خولي أنه- صلى الله عليه وسلم توضأ في الدّلو ثمّ أفرغه فيها وانتزع السّهم ثمّ وضعه فيها، وهكذا ذكر أبو الأسود عن عروة أنه- صلى الله عليه وسلم تمضمض في الدّلو وصبّه في البئر، ونزع سهما من كنانته فألقاه فيها ففارت.
الثاني عشر: اختلف في النّازل بالسّهم، فعند ابن إسحاق عن رجال مِن أسلم: أنّه ناجية بن جندب. قال ابن إسحاق: وزعم بعض أهل العلم أنّه البراء بن عازب.
وروى محمد بن عمر عن خالد بن عبادة الغفاريّ قال: أنا الذي نزلت بالسّهم، ويمكن الجمع بأنّهم تعاونوا على ذلك.
الثالث عشر: في حديث جابر- رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم كان بين يديه بالحديبية ركوة فتوضّأ فيها ثمّ أقبل النّاس نحوه فقال «ما لكم؟ فقالوا: يا رسول الله: ليس عندنا ما نتوضّأ ولا نشرب إلا ما في ركوتك. قال: فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم يده في الرّكوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضّأنا.
وجمع ابن حبّان بين حديث جابر هذا وبين ما تقدم بأنّ ذلك وقع مرّتين في وقتين، وقال ما تقدم في حديث البراء والمسور ومروان غير ما في حديث جابر، وكان حديثه قبل قصّة البئر، وقال في موضع آخر في حديث جابر في الأشربة من كتاب البخاريّ أنّ نبع الماء كان حين حضرت صلاة العصر عند إرادة الوضوء، وحديث البراء كان لإرادة ما هو أعم من ذلك، ويحتمل أن الماء انفجر من أصابعه ويده في الرّكوة وتوضّأ كلهّم وشربوا، وأمر حينئذ بصب الماء الّذي في الرّكوة في البئر فتكاثر الماء فيها.
الرابع عشر: اقتصر بديل بن ورقاء على قوله: تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤيّ، لكون قريش الذين كانوا بمكّة أجمع ترجع أنسابهم إليهما، وبقي من قريش بنو سامة بن لؤي، ولم يكن بمكّة منهم أحد، وكذلك قريش الظّواهر، وتقدّم بيانهم في من اسمه القريشي.
قال هشام بن الكلبي: بنو عامر بن لؤي وكعب بن لؤي هما الصريحان لا شكّ فيهما، بخلاف سامة وعوف، أي ففيهما خلاف، قال: وهم قريش البطاح، بخلاف قريش الظّواهر وفي موالاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
الخامس عشر:
قوله- صلى الله عليه وسلم «إن أظهر فإن شاءوا»
إلخ إنّما ردّد- صلى الله عليه وسلم الأمر مع أنّه جازم بأنّ الله سينصره ويظهره، لوعده- تعالى- له بذلك على طريق التّنزّل مع الخصم وفرض الأمر على ما زعم الخصم، ولهذه النكتة حذف القسم الأوّل وهو التّصريح بظهور غيره،
وقوله
- صلى الله عليه وسلم بعد ذلك «ولينفذنّ الله أمره»
- بضم أوله وكسر الفاء، أي ليمضينّ الله- تعالى- أمره في نصر دينه، وحسن الإتيان بهذا الجزم بعد ذلك التّرديد للتنبيه على أنه لم يورده إلا على سبيل الفرض، ووقع التصريح بذكر القسم الأول في رواية ابن إسحاق كما في القصة، فالظّاهر أنّ الحذف وقع من بعض الرواة.
السادس عشر: قول عروة لقريش ألستم بالوالد وأ لست بالولد هو الصّواب، ووقع لبعض رواة الصّحيح عكس ذلك، وزعم أن كل واحد منكم كالولد، وقيل: معناه أنتم حي قد ولدني، لكون أمّي منكم، وهذا هو الصحيح، لأنه كان لسبيعة بنت عبد شمس.
السابع عشر: في قيام المغيرة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم بالسّيف، جواز القيام على رأس الأمين له بقصد الحراسة، ونحوها من ترهيب العدوّ ولا يعارضه النّهي عن القيام على رأس الجالس، لأن محلّه إذا كان على وجه العظمة والكبر.
الثامن عشر: كانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه ولا سيما عند الملاطفة، وفي الغالب إنّما يفعل ذلك النظير، بالنظير لكن كان الرسول- صلى الله عليه وسلم يغضي لعروة عن ذلك استمالة له وتأليفا له، والمغيرة يمنعه إجلالا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم وتعظيما.
التاسع عشر: في تعظيم الصحابة رضوان الله عليهم- رسول الله- صلى الله عليه وسلم ما ذكره يعد إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه عروة من فرارهم، وكأنّهم قالوا بلسان حالهم: من يحبّ إمامه هذه المحبّة ويعظّمه هذا التّعظيم كيف يظنّ به أنّه يفرّ عنه ويسلمه لعدوّه بل هم أشدّ اغتباطا به وبدينه ونصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضا بمجرد الرحم.
العشرون: استشكل قوله- صلى الله عليه وسلم في مكرز هذا رجل فاجر أو غادر مع أنه لم يقع منه في قصة الحديبية فجور ظاهر، بل فيها ما يشعر بخلاف ذلك كما سبق في القصّة، وفي إجازته أبا جندل لأجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم لمّا امتنع سهيل بن عمرو- رضي الله عنه قبل إسلامه، وأجيب: قال محمد بن عمر في مغازيه في غزوة «بدر» أن عتبة بن ربيعة قال لقريش:
كيف نخرج من مكة وبنو كنانة خلفنا لا نأمنهم على ذرارينا؟ قال: وذلك أنّ حفص بن الأخيف- بخاء معجمة فتحتية وبالفاء- والد مكرز كان له ولد وضيء فقتله رجل من بني بكر ابن عبد مناة بدم لهم، كان في قريش، فتكلّمت قريش في ذلك، ثم اصطلحوا، فعدا مكرز بن حفص بعد ذلك على عامر بن يزيد، سيّد بني بكر غرّة فقتله، فنفرت من ذلك كنانة، فجاءت وقعة بدر في أثناء ذلك، وكان مكرز معروفا بالغدر وتقدّم في القصة أنه أراد أن يبيّت للمسلمين بالحديبية، فكأنه- صلى الله عليه وسلم أشار إلى هذا.
الحادي والعشرون: في صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه: إنه أول من بايع.
وروى الطبراني وغيره كما في القصّة عن الشّعبي [ورواه] ابن منده عن ذر بن حبيش- رحمهما الله- إن أول من بايع أبو سنان الأسدي، والجمع [ممكن] بينهما.
الثاني والعشرون: في حديث سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه أنهم بايعوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم على الموت، وفي حديث جابر وغيره: على أنّهم لا يفرّوا، وقال الحافظ:
لا تنافي بينهما، لأن المراد بالمبايعة على الموت ألّا يفرّوا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولا بدّ، وهو الّذي أنكره نافع وعدل إلى قولهم، بل بايعهم على النّصر، أي على الثّبات، وعدم الفرار، سواء أفضى ذلك إلى الموت أم لا. وقال في موضع آخر: من أطلق أن بيعته كانت على الموت أراد لازمها لأنّه إذا بايع على ألّا يفرّوا لزم من ذلك أن يثبت، والّذي يثبت إمّا أن يغلب وإمّا أن يؤسر، والذي يؤسر إمّا أن ينجو وإما أن يموت، ولمّا كان الموت لا يؤمن في مثل ذلك أطلقه الرّاوي، وحاصله أنّ أحدهما حكى صورة البيعة والآخر حكى ما تؤول إليه.
الثالث والعشرون: من الصحابة رضي الله عنهم من بايع مرّتين، وهو عبد الله بن عمر، وقد اختلف في سبب مبايعته قبل أبيه رضي الله عنهما، كما تقدم في القصة عن نافع عنه.
وجمع بأنه بعثه يحضر الفرس ورأى الناس مجتمعين فقال أنظر ما شأنهم فغدا يكشف حالهم فوجدهم يبايعون فبايع وتوجّه إلى الفرس فأحضرها، وأعاد حينئذ الجواب على أبيه فخرج وخرج معه فبايع عمر وبايع ابن عمر مرة أخرى.
الرابع والعشرون: من الصحابة رضي الله عنهم من بايع ثلاث مرات، وهو سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه طلب ذلك منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه بايع قبل.
قال المهلب: أراد صلى الله عليه وسلم أن يؤكّد بيعته لسلمة لعلمه بشجاعته وغنائه في الإسلام وشهرته بالثبات، فلذلك أمره بتكرير المبايعة ليكون له في ذلك فضيلة.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون سلمة لما بدر إلى المبايعة ثم قعد قريبا، واستمرّ الناس يبايعون إلى أن خفوا، أراد صلى الله عليه وسلم منه أن يبايع لتتوالى المبايعة معه ولا يقع فيها تخلّل، لأن العادة في مبدإ كل أمر أن يكثر من يباشره فيتوالى، فإذا تناهى قد يقع بين من سيجيء آخرا تخلّل ولا يلزم من ذلك اختصاص سلمة بما ذكره، والواقع أن الذي أشار إليه المهلب من حال سلمة في الشجاعة وغيرها لم يكن ظهر بعد» لأنه إنّما وقع منه بعد ذلك في غزوة ذي قرد كما سيأتي، حيث استعاد الصرح الّذي كان المشركون أغاروا عليه، فاستلب ثيابهم، وكان آخر أمره أن أسهم له رسول الله- صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والرّاجل.
فالأولى أن يقال تفرّس فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم ذلك فبايعه مرتين، وأشار إلى أنه سيقوم في الحرب مقام رجلين فكان كذلك.
قلت: ولم يستحضر الحافظ ما وقع عند مسلم: أنه- صلى الله عليه وسلم بايعه ثلاث مرّات، ولو استحضره لوجّهه.
الخامس والعشرون: الحكمة في قطع عمر الشّجرة في إخفاء مكانها أنه لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن من تعظيم الجهّال لها حتّى ربّما أفضى بهم أنّ لها قوّة نفع وضرّ كما نراه الآن شاهدا فيما دونها، وإلى ذلك أشار عمر بقوله:«كانت رحمة من الله» ، أي كان إخفاؤها بعد ذلك رحمة من الله تعالى، ويحتمل أن يكون معنى قوله «رحمة من الله» أي كانت الشجرة موضع رحمته ومحل رضوانه لانزاله الرضى على المؤمنين عندها. وقول المسيّب والد سعيد أنسيناها، وفي لفظ نسيناها، أي نسينا موضعها بدليل قوله:
فلم نقدر عليها.
وفي رواية عند الإسماعيلي فعمى علينا مكانها. وقول المسيّب وابن عمر: أنهما لم يعلما مكانها، لا يدل على عدم معرفتها أصلا، فقد قال جابر كما في الصحيح: لو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة، فهذا يدل على أنّه كان يضبط مكانها بعينه، وإذا كان في آخر عمره بعد الزمان الطويل يضبط موضعها، ففيه دلالة على أنه كان يعرفها بعينها، قبل أن يقطعها عمر- رضي الله عنه.
السادس والعشرون: جزم ابن إسحاق وابن سعد والجمهور بأن مدّة الصّلح عشر سنين، ورواه الحاكم عن علي- رضي الله عنه ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنّها كانت سنتين، وكذا وقع عند ابن عقبة، ويجمع بأنّ الذي قاله ابن إسحاق هي المدة الّتي وقع الصّلح فيها حتّى وقع نقضه على يد قريش كما سيأتي بيانه في غزوة الفتح.
وأما ما وقع في كامل ابن عديّ ومستدرك الحاكم، والأوسط للطّبراني من حديث ابن عمر أنّ مدّة الصّلح كانت أربع سنين، فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصّحيح.
السابع والعشرون: الذي كتب كتاب الصّلح بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم وبين سهيل، علي بن أبي طالب- رضي الله عنه كما رواه البخاري في كتاب الصلح عن البراء بن عازب- رضي الله عنهما، وعمر بن شبه من حديث سلمة بن الأكوع، وإسحاق بن راهويه عن الزّهيري. وروى عمر بن شبة عن عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه قال: الكتاب عندنا كتبه محمد بن مسلمة، ويجمع بأن أصل كتاب الصلح، بخطّ علي- رضي الله عنه كما في الصحيح، ونسخ مثله محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو، وقال الحافظ: ومن الأوهام ما ذكره
عمر بن شبة بعد أن روى أن اسم كاتب الكتاب بين المسلمين وقريش علي بن أبي طالب من طرق، ثمّ روى من طريق آخر أنّ اسم الكاتب محمد بن مسلمة، ثم قال: حدثنا يزيد بن عائشة يزيد بن عبيد الله بن محمد التيمي قال: كان اسم هشام بن عكرمة بغيضا، وهو الذي كتب الصحيفة فشلّت يده فسماه رسول الله- صلى الله عليه وسلم هشاما.
قال الحافظ: وهو غلط فاحش، فإنّ الصّحيفة الّتي كتبها هشام بن عكرمة هي التي اتّفقت عليها قريش لما حصروا بني هاشم وبني عبد المطلب في الشّعب، وذلك بمكة قبل الهجرة- أي كما سبق، فتوهّم عمر بن شبة أن المراد بالصحيفة كتاب القصة التي وقعت بالحديبية، وليست كذلك، بل بينهما نحو عشر سنين.
الثامن والعشرون: وقع في بعض طرق حديث البراء بعد أن ذكر امتناع علي- رضي الله عنه من محو «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم» فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله» إلى آخره، وسيأتي الكلام على ذلك في الخصائص إن شاء الله تعالى.
التاسع والعشرون: امتناع علي- رضي الله عنه من محو لفظ «رسول الله صلى الله عليه وسلم» من باب الأدب المستحبّ، لأنّه لم يفهم من النبي- صلى الله عليه وسلم تحتيم محو عليّ بنفسه، ولهذا لم ينكر عليه، ولو تحتّم محوه بنفسه لم يجز لعلىّ تركه، ولما أقرّه النبي- صلى الله عليه وسلم على المخالفة. وفي قوله- صلى الله عليه وسلم «فإن لك مثلها- تعظيما- وأنت مضطهد» : أي مقهور، معجزة ظاهرة لما وقع لعلي- رضي الله عنه في التحكيم كما سيأتي في ترجمته.
الثلاثون: قال الخطابي-رحمه الله تعالى-: تأوّل العلماء ما وقع في قصّة أبي جندل على وجهين.
أحدهما: أن الله- تعالى- قد أباح «التّقيّة» إذا خاف الهلاك، ورخصّ له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن [كان] يمكنه التورية، فلم يكن ردّه إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجود السّبيل إلى الخلاص من الموت بالتّقيّة.
والوجه الثاني: أنّه إنما ردّه إلى أبيه، والغالب أنّ أباه لا يبلغ به الهلاك، وإن عذّبه أو سجنه فله مندوحة بالتّقية أيضا، وأمّا ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله- تعالى- يبتلي به صبر عباده المؤمنين.
الحادي والثلاثون: اختلف العلماء رحمهم الله، هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم، على ما دلت عليه قصّة أبي جندل وأبي بصير. وقيل: لا. وإن الذي وقع في القصّة: منسوخ، وإن ناسخه «أنا
بريء من مسلم بين المشركين» وهو قول الحنفية، وعند الشّافعية ضابط جواز الرّد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب الثاني والثلاثون: قال النووي- رحمه الله وافق النبي- صلى الله عليه وسلم في ردّ من جاء من المشركين في ترك كتابته بسم الله الرحمن الرحيم وكتب باسمك اللهم، وفي ترك كتابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم وفي ردّ من جاء منهم إلى المسلمين دون من جاء من المسلمين إليهم وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور، أما البسملة وباسمك اللهم فمعناها واحد، وكذلك قوله:«محمد بن عبد الله» هو أيضا رسول الله- صلى الله عليه وسلم وليس في ترك وصف الله تعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفى ذلك ولا في ترك وصفه- صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة لا ينفيها، ولا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتبوا ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك، وإنما شرط ردّ من جاءنا منهم ومنع من ذهب إليهم فقد بين النبي- صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحكمة فيه بقوله:
«من ذهب منّا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا» . ثم كان كما قال- صلى الله عليه وسلم فجعل الله للذين جاءونا منهم وردّهم إليهم فرجا ومخرجا. ثم كان كما قال- صلى الله عليه وسلم.
الثالث والثلاثون: في إتيان عمر أبا بكر رضي الله عنهما وإجابة أبي بكر لعمر بمثل ما أجاب به رسول الله- صلى الله عليه وسلم دلالة على أنه أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله- صلى الله عليه وسلم وأعلمهم بأمور الدّين وأشدهم موافقة لأمر الله- تعالى- وسبق في باب إرادة الصّديق الهجرة قبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم وردّ ابن الدغنة له، وقوله لقريش، إن مثله لا يخرج، ووصفه بنظير ما وصفت به خديجة- رضي الله عنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم من كونه يصل الرّحم ويحمل الكلّ ويعين على نوائب الحق وغير ذلك. فلما كانت صفاتهما متشابهة من الابتداء، استمر ذلك إلى الانتهاء، ولم يذكر عمر أنّه راجع أحدا بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر، وذلك لجلالة قدره وسعة علمه عنده.
الرابع والثلاثون: قول عمر- رضي الله عنه فعملت لذلك أعمالا، قال بعض الشراح- رحمهم الله: أي من الذّهاب والمجيء والسؤال والجواب، لم يكن ذلك شكّا من عمر، بل طلبا من كشف ما خفي عليه، وحثا على إذلال الكفّار، لما عرف من قوّته في نصرة الدّين.
انتهى.
قال الحافظ: وتفسير الأعمال بما ذكر مردود، بل المراد الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التّوقّف في الامتثال ابتداء. وقد ورد عن عمر التّصريح بمراده بقوله: «أعمالا
لأتقى» ، ورواية ابن إسحاق: فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به. وعند الواقدي من حديث ابن عباس: قال عمر:
لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا، وأما قوله: ولم يكن شكّ، فإن أراد نفي الشّكّ فواضح، وقد وقع في رواية ابن إسحاق أن أبا بكر لما قال له الزم غرزه فإنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم، قال عمر: أنا أشهد أنه رسول الله، وإن أراد نفي الشك في وجود المصلحة وعدمها فمردود، وقد قال السهيلي- رحمه الله هذا الشّكّ ما لا يستمر صاحبه عليه، وإنما هو من باب الوسوسة، كذا قال الحافظ. والذي يظهر أنه توقّف معه ليقف على الحكمة في القصّة، وتنكشف عنه الشبهة، ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبيّ، وإن كان في الأول لم يطابق اجتهاده الحكم، بخلاف الثّانية، وهي هذه القصة، وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه، وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه، بل هو مأجور، لأنه مجتهد فيه.
الخامس والثلاثون: إنّما توقّف المسلمون في النّحر والحلق بعد الأمر بهما، لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للنّدب، أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور، وتخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، ويسوغ لهم ذلك، لأنه كان زمان وقوع التشريع. ويحتمل أن يكونوا أبهتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذّل عند أنفسهم مع ظهور قوّتهم واقتدارهم- في اعتقادهم- على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة، وأخّروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم كما سبق في القصة من كلام أم سلمة- رضي الله عنها في قولها «لا تلمهم» إلخ.
السادس والثلاثون: في كلامه- صلى الله عليه وسلم لأم سلمة في توقف الناس عن امتثال أمره، جواز مشاورة الأمر المرأة الفاضلة، وفضل أم سلمة ووفور عقلها، حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أمّ سلمة، كذا قال وقد استدرك بعضهم عليه بنت شعيب في أمر موسى.
السابع والثلاثون: لا يعدّ ما وقع من أبي بصير من قتله الرّجل الذي جاء في طلبه غدرا لأنه لم يكن في جملة من دخل في المعاقدة التي بين النبي- صلى الله عليه وسلم وبين قريش، إلا أنه إذ ذاك كان محبوسا بمكة، لكنه لمّا خشي أنّ المشرك يعيده إلى المشركين درأ عن نفسه بقتله، ودافع عن دينه بذلك، ولم ينكر عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم ذلك.
الثامن والثلاثون: في حديث المسور، ومروان بعد ذكر قصة أبي بصير، فانزل الله- تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [الفتح 24] ظاهره أنها نزلت في
شأن أبي بصير، وفيه نظر، والمشهور في سبب نزولها ما رواه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع، ومن حديث أنس بن مالك، وأحمد، والنسائي بسند صحيح من حديث عبد الله بن مغفل أنها أنزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرّة فظفر المسلمون بهم، فعفا عنهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم وقيل في سبب نزولها غير ذلك.
التاسع والثلاثون: قال البلاذري- رحمه الله قال العلماء: والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده الظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكّة وإسلام أهلها كلهم ودخول النّاس في دين الله أفواجا، وذلك أنهم قبل الصّلح لم يكونوا يختلطون، ولا يتظاهر عندهم أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم كما، هو ولا يخلون بمن يعلمهم بها مفصّلة، فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة، وذهب المسلمون إلى مكة وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم، وسمعوا منهم أقوال النبي- صلى الله عليه وسلم مفصلّة بجزئياتها، ومعجزاته الظّاهرة، وأعلام نبوته المتظاهرة، وحسن سيرته، وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك، فمالت نفوسهم إلى الإيمان حتّى بدر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلّهم لما كان تمهّد لهم من الميل، وكانت العرب في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي.
الأربعون: في بيان غريب ما سبق المعرفين: الواقفين بعرفة.
استنفروا: استنجدوا واستنصروا.
يعرضوا له بحرب- بفتح التحتية وكسر الراء.
فأبطأ عليه: بفتح الهمزة أوله وآخره.
ذو الجدر: فتح الجيم وسكون الدال المهملة: سرح على ستة أميال من المدينة. بناحية فيها كانت فيه لقاح رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
ذو الحليفة- بضم الحاء المهملة، وفتح اللام، وسكون التحتية بعدها فاء.
صحار- بصاد مضمومة فحاء مهملتين فألف: قرية باليمن.
قلّد بدنه: علق في عنقها قطعة من حبل ليعلم أنه هدي فيكفّ الناس عنها.
أشعرها- بالشين المعجمة: وخز سنامها حتى يسيل الدم فيعلم أنه هدي.
البيداء: الشرف الذي قدام ذي الحليفة في طريق مكة.
الأبواء: بفتح الهمزة وسكون الموحدة وبالمد: قرية من عمل الفرع.
القلائد: جمع قلادة.
جثّامة: بفتح الجيم وتشديد الثّاء المثلثة.
إيماء: بكسر أوله وسكون التحتية وبالمد.
رحضة: براء مفتوحة فحاء مهملة تفتح وتسكن فضاد معجمة مفتوحة.
خفاف- بخاء معجمة مضمومة وفاءين الأولى مخففة.
العتر: بكسر العين المهملة وسكون الفوقية وبالراء: نبت ينبت متفرّقا فإذا قطع أصله خرج منه شيء شبه اللبن، وهو المرزجوش.
الضّغابيس- بضاد فغين معجمة فألف فموحدة: وهو صغار القثاء وقيل: هو نبت ينبت في أصول الثمام يصلق بالخل والزيت ويؤكل. والثمام: بالثاء المثلثة.
الهوام: جمع هامّة بالتشديد، يطلق على ما يدبّ من الحيوان كالقمل ونحوه.
الجحفة- بجيم مضمومة، فحاء مهملة، ففاء، فتاء تأنيث: تقدم الكلام عليها في غزوة [بدر] قمّ بالبناء للمفعول، أي كنس.
الفرط- بفتحتين، المتقدم في طلب الماء.
شاهت وجوههم: قبحت تكل- بضم الفوقية وفتح الكاف: أي يتكل بعضكم على بعض.
ارتجت مكة: اضطربت.
راعهم: أفزعهم.
عنوة- بفتح العين المهملة، وسكون النون، وفتح الواو: أخذ الشيء قهرا وكذا إذا أخذ صلحا فهو من الأضداد، والمراد هنا الأول.
عين تطرف: تنظر وتتحرك.
كراع- بكاف مضممومة فراء مخففة فألف فعين مهملة: وهو طرف الغميم بغين معجمة مفتوحة، وهو واد بين رابغ والجحفة، وكراع كل شيء طرفه.
الأحابيش: بحاء مهملة، فألف، فموحدة مكسورة فتحتية فشين معجمة: واحدها
أحبوش بضمتين، وهم: بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، وبنو الحرث وبنو عبد مناة ابن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، وتقدم الكلام على ذلك مبسوطا في غزوة بدر.
أجلبت: استحثثت الناس لطلب العدو.
بلدح- بموحدة مفتوحة، فلام ساكنة، فدال مفتوحة، فحاء مهملتين: وهو واد في طريق التنعيم إلى مكة.
غدير: بغين معجمة مفتوحة، فدال مهملة مكسورة.
الأشطاط- بشين معجمة، وطاءين مهملتين: جمع شط وهو جانب الوادي، ووقع في بعض نسخ الصحيح لأبي ذر الهروي بإعجام الطاءين.
عسفان- بعين مضمومة، فسين ساكنة مهملتين، ففاء: قرية بينها وبين مكة ثلاثة مراحل.
العوذ- بعين مهملة مضمومة فواو ساكنة، فذال معجمة: جمع عائذ: وهي الناقة ذات اللّبن.
المطافيل: الأمهات اللّاتي معهن أطفالهن، يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان ليتزوّدوا ألبانها، ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنّى بذلك عن النساء معهن الأطفال، والمراد خرجوا معهم نساؤهم وأولادهم لإرادة طول المقام، وليكون أدعى إلى عدم الفرار.
قال ابن فارس- رحمه الله: كل أنثى وضعت فهي إلى سبعة أيام عائذ، والجمع عوذ، كأنها سميت بذلك لأنها تعوذ ولدها وتلتزم الشغل به، وقال السّهيلي: سميت بذلك وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها لأنها تعطف عليه بالشفقة والحنوّ، كما قالوا تجارة رابحة وإن كانت مربوحا فيها.
لبسوا جلود النمور: كناية على شدّة الحقد والغضب، تشبيها بأخلاق النمور، وقيل:
هو مثل يكنى به عن إظهار العداوة والتنكير، ويقال للرجل الذي يظهر العداوة لبس لي جلد نمر.
ذي طوى- بتثليث الطاء المهملة والفتح: أشهر واد بمكة.
ويح: كلمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها.
وافرين: كاملين.
تنفرد هذه السّالفة- بسين مهملة، ولام مكسورة بعدها فاء: صفحة العنق، كنّى بذلك عن القتل، لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه. وقال الداودي الشارح: المراد الموت، أي حتّى أموت ويحتمل أن يكون أراد أنه يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم.