الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر قدوم بديل بن ورقاء الخزاعي ورسل قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما اطمأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم بالحديبية: جاءه بديل بن ورقاء- وأسلم بعد ذلك- في رجال من خزاعة، منهم: عمرو بن سالم، وخراش بن أميّة وخارجة بن كرز، ويزيد بن أميّة وكانوا عيبة نصح لرسول الله- صلى الله عليه وسلم بتهامة، منهم المسلم ومنهم الموادع. لا يخفون عنه بتهامة شيئا. فلما قدموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم سلّموا، فقال بديل بن ورقاء: جئناك من عند قومك، كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، قد نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان، يقسمون بالله لا يخلّون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم،
فوعى بديل مقالة رسول الله وقال: سأبلّغهم ما تقول، وعاد وركبه إلى قريش، فقال ناس منهم: هذا بديل وأصحابه، وإنّما يريدون أن يستخبروكم فلا تسألوهم عن حرف واحد، فلما رأى بديل أنّهم لا يستخبرونه قال: إنّا جئنا من عند محمد، أتحبّون أن نخبركم عنه؟ فقال عكرمة بن أبي جهل، والحكم بن العاص- وأسلما بعد ذلك- مالنا حاجة بأن تخبرونا عنه، ولكن أخبروه عنّا إنه لا يدخلها علينا عامه هذا أبدا حتى لا يبقى منّا رجل، فأشار عليهم عروة بن مسعود الثّقفي- وأسلم بعد ذلك- بأن يسمعوا كلام بديل فإن أعجبهم قبلوه وإلا تركوه، فقال صفوان ابن أميّة والحارث بن هشام- وأسلما بعد ذلك- أخبرونا بالذي رأيتم وسمعتم، فقال بديل لهم: إنكم تعجلون على محمد- صلى الله عليه وسلم إنه لم يأت لقتال إنما جاء معتمرا وأخبرهم بمقالة النبي- عليه الصلاة والسلام فقال عروة: يا معشر قريش أتتّهمونني؟ قالوا: لا.
قال: ألستم بالوالد! قالوا: بلى. قال: ألست بالولد؟ قالوا: بلى وكان عروة لسبيعة بنت عبد شمس القرشية. قال: «ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ لنصركم فلمّا تبلّحوا عليّ نفرت إليكم بنفسي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: قد فعلت، ما أنت عندنا بمتّهم. قال: إني لكم ناصح، وعليكم شفيق، لا أدّخر عنكم نصحا، فإن بديلا قد جاءكم خطة رشد لا يردّها أحد أبدا إلا أحد شرّ منها. فاقبلوها منه، وابعثوني حتّى آتيكم بمصداقها من عنده، وأنظر إلى من
معه، وأكون لكم عينا آتيكم بخبره، فبعثته قريش إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، تركت كعب ابن لؤي وعامر بن لؤي على أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، قد لبسوا جلود النّمور، وهم يقسمون بالله لا يخلّون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم، وإنما أنت ومن قاتلهم بين أحد أمرين أن تجتاح قومك ولم يسمع برجل اجتاح قومه وأهله قبلك. أو بين أن يخذلك من ترى معك، وإني والله لا أرى معك وجوها وإني لا أرى إلا أوباشا، وفي رواية: فإني لأرى أشوابا [ (1) ] من الناس، لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم، وخليقا أن يفرّوا ويدعوك. وفي رواية: وكأني بهم لو قد لقيت قريشا أسلموك فتؤخذ أسيرا، فأيّ شيء أشدّ عليك من هذا؟ فغضب أبو بكر- وكان قاعدا خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال: أمص بظر اللّات، أنحن نخذله أو نفرّ عنه؟! فقال عروة: من ذا؟ قالوا: أبا بكر. فقال عروة: أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجيبنّك.
وكان عروة قد استعان في حمل دية فأعانه الرجل بالفريضتين والثلاث، وأعانه أبو بكر بعشر فرائض فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة، وطفق عروة كلّما كلّم رسول الله- صلى الله عليه وسلم مسّ لحية رسول الله- صلى الله عليه وسلم والمغيرة ابن شعبة قائم على رأس رسول الله- صلى الله عليه وسلم بالسيف، - على وجهه المغفر- لمّا قدم عروة لبسها، فطفق المغيرة كلّما أهوى عروة بيده ليمسّ لحية النّبيّ- عليه الصلاة والسلام يقرع يده بنعل السّيف ويقول: أكفف يدك عن مسّ لحية رسول الله- صلى الله عليه وسلم قبل ألّا تصل إليك، فإنّه لا ينبغي لمشرك أن يمسّه. فلما أكثر عليه غضب عروة وقال: ويحك!! ما أفظّك وأغلظك! وقال: ليت شعري!! من هذا الذي آذاني من بين أصحابك؟ والله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشرّ منزلة.
فتبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم وقال: «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة»
فقال عروة: وأنت بذلك يا غدر، والله ما غسلت عنك غدرتك بعكاظ إلّا أمس، لقد أورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر- وسيأتي في ترجمة المغيرة بيان هذه الغدرة.
وجعل عروة يرمق أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم بعينه، فو الله ما يتنخّم رسول الله- صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلوا على وضوئه، ولا يسقط شيء من شعره إلا أخذوه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه، تعظيما له.
فلما فرغ عروة من كلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم وردّ عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم مثل ما قال لبديل بن ورقاء وكما عرض عليهم من المدة. فأتى عروة قريشا، فقال: يا قوم إني وفدت إلى
[ (1) ] الأوشاب الأوباش، والأخلاط من الناس، انظر المعجم الوسيط 2/ 1045.
الملوك: كسرى وقيصر والنجاشي وإني والله ما رأيت ملكا قط أطوع فيما بين ظهرانيه من محمد في أصحابه، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، وليس بملك والله ما تنخّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه أيّهم يظفر منه بشيء، ولا يسقط شيء من شعره إلّا أخذوه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، ولا يتكلّم رجل منهم حتى يستأذن، فإن هو أذن له تكلم، وإن لم يأذن له سكت، وقد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها، قد حرزت القوم، واعلموا أنكم إن أردتم منهم السيف بذلوه لكم، وقد رأيت قوما لا يبالون ما يصنع بهم إذا منعتم صاحبهم، والله لقد رأيت معه نساء ما كنّ ليسلمنه أبدا على حال، فروا رأيكم فأتوه يا قوم، واقبلوا ما عرض عليكم، فإني لكم ناصح، مع إني أخاف أن لا تنصروا على رجل أتى زائرا لهذا البيت معظّما له، معه الهدى ينحره وينصرف، فقالت قريش: لا تتكلم بهذا يا أبا يعفور، أو غيرك تكلم بهذا؟ ولكن نردّه عامنا هذا، ويرجع إلى قابل، فقال: ما أراكم تصيبكم قارعة. فانصرف هو ومن تبعه إلى الطّائف.
فقام الحليس وهو بمهملتين- مصغّر- ابن علقمة الكناني وكان من رؤوس الأحابيش ولا أعلم له إسلاما فقال: دعوني آتيه. فقالوا: ائته. فلما أشرف على رسول الله- صلى الله عليه وسلم
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «هذا فلان من قوم يعظّمون البدن وفي لفظ «الهدى، ويتألّهون، فابعثوها له» فبعثت له، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي عليها قلائدها، قد أكلت أوبارها من طول الحبس، ترجّع الحنين، واستقبله الناس يلبّون قد أقاموا نصف شهر، وقد تفلوا وشعثوا، صاح وقال: سبحان الله «ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت أبى الله أن تحج لخم وجذام وكندة وحمير ويمنع ابن عبد المطلب، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت هلكت قريش وربّ الكعبة. إنّ القوم إنما أتوا عمّارا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم «أجل يا أخا بني كنانة» .
وذكر ابن إسحاق ومحمد بن عمر، وابن سعد: أنه لم يصل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم لمّا رأى ذلك إعظاما لما رأى فيحتمل إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم خاطبه من بعد، فرجع إلى قريش فقال: إني رأيت ما لا يحل منعه، رأيت الهدي في قلائده قد أكل أوباره معكوفا عن محلّه والرّجال قد تفلوا وقملوا أن يطوفوا بهذا البيت، والله ما على هذا حالفناكم، ولا عاقدناكم، على أن تصدوا عن البيت من جاءه معظّما لحرمته مؤدّيا لحقه. وساق الهدى معكوفا أن يبلغ محلّه. والذي نفسي بيده لتخلّنّ بينه وبين ما جاء له، أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد.
فقالوا: كفّ عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به، وفي لفظ اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك، كلّ ما رأيت من محمد مكيدة.