الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلوبهم وهو بهم رءوف رحيم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- ولكنه كان مثلهم ينتظر تأويلها ولأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان وذلك واضح أيضا في قوله تعالى {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19) أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يوضح للنبي صلى الله عليه وسلم ما أنزل من آيات.
النقطة الرابعة والأخيرة: هي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حين ينزل عليه القرآن في أول عهده بالوحي يتلقفه متعجلًا فيحرك به لسانه وشفتيه طالبًا لحفظه وخشية ضياعه من صدره، ولم يكن ذلك معروفًا من عادته في تحضير كلامه لا قبل دعواه النبوة ولا بعدها، ولا كان ذلك من عادة العرب، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على المتابعة الحرفية حتى ضمن الله له حفظه وبيانه بقوله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة: 16) وقوله سبحانه وتعالى {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114) فهل هذا توجيه لأحد كتب الكلام من تلقاء نفسه وقاله من ذاته؟ لا والله، فكل ذلك دليل قاطع على أن القرآن كتاب مقدس من عند الله وليس من كلام النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
الإعجاز اللغوي
النقطة الثالثة التي نحن معها ونختم بها -إن شاء الله- هي نقطة الإعجاز اللغوي:
وكما يقال نعود إلى ما ابتدأنا به وما سنستمر عليه -إن شاء الله- فهذه النقطة هي مادتنا وهي منهجنا طيلة عامنا الدراسي، وهي الإعجاز اللغوي، بالطبع لن نذكر في هذا المقام إلا أن نبين أن الإعجاز اللغوي هو الذي دار حوله الكلام في القرآن الكريم، ونحاول أن نبين في عجالة المراد بالإعجاز اللغوي وما قيل في إعجاز القرآن من الناحية اللغوية، وما تُعرض له في هذا المجال بإجمال؛ لأننا سنفصل بعد ذلك وجوه الإعجاز اللغوي، فأشير فقط إلى أن القرآن معجز بالمعنى الذي يفهم منه لفظ الإعجاز على إطلاقه؛ معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني، ومعجز كذلك في حقائقه.
فإذا ما نظرنا إلى إعجازه اللغوي جاز لنا أن نكرر ما قاله الرافعي رحمه الله: أن العرب قامت فيهم دولة الكلام، ولكنها بقيت بلا مَلك حتى جاءهم القرآن، فملك القرآن سر الفصاحة، وجاءهم منها بما لا قبل لهم برده ولا حيلة لهم معه، فكانوا يفرون منه في كل وجه ثم لا ينتهون إلا إليه؛ إذ يرونه أخذ عليهم بفصاحته وإحكام أساليبه جهات النفس العربية.
هذا مجمل قضية الإعجاز اللغوي؛ أنت العرب أقروا أن هذا الكلام لا طاقة لهم به ولا يستطيعون أن يضاهوه أو أن يحاكوه.
هذه المسألة نناقشها بكلام علمي، سمة البحث العلمي هو تناول المسألة بهذا الجانب؛ بمعنى أننا نعرض كلامًا في هذه المسألة، هذا الذي يشكك في أن القرآن معجز في لغته، وفي أن القرآن تكوّن من كلام العرب وأساليب العرب، وهو كما يقولون يقال؛ أي أن القرآن لم يخرج عن سنن العرب في كلامهم؛ يعني الشيخ أثار المسألة بهذا الوجه، يقول يأتي قائل ويقول إني أقرأ القرآن فلا أجده يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية؛ فمن حروفهم ركبت كلماته، ومن كلماتهم ألفقت جمله وآياته، وعلى مناهجهم في التأليف جاء تأليفه، فأي جديد في مفردات القرآن لم يعرفه العرب من موادها وأبنيتها؟ وأي جديد في تركيب القرآن لم تعرفه العرب من طرائقها ولم تأخذ به في مذاهبها؟ حتى نقول إنه قد جاءهم بما فوق طاقتهم اللغوية!!
هذه هي الشبهة التي يثيرها من لا إيمان له، يأتي ويقول هذا الكلام، أي جديد في لغة القرآن ليس في كلام العرب كي نقول أن القرآن معجزة لغوية؟
يجيب الشيخ ويقول: أما أن القرآن الكريم لم يخرج في لغته عن سنن العرب في كلامهم إفرادًا وتركيبًا؛ فذلك في جملته حق لا ريب فيه، وبذلك كان أدخل في
الإعجاز وأوضح في قطع الأعذار، هذا كلام الله سبحانه وتعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيّ} (فصلت: 44) فهم لو جاءهم الكتاب على غير لغة العرب لكان ذلك أدعى للبس عليهم ولقالوا: لا نفهمه ولا نعرفه!! إنما القرآن جاء على لغتهم ليكون أدعى في الإعجاز كيف ذلك؟ اللغة فيها العام والخاص، يقول الشيخ: وذلك أن اللغة فيها العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين، وفيها العبارة والإشارة والفحوة والإيماء، وفيها الخبر والإنشاء وفيها الجمل الاسمية والفعلية، وفيها النفي والإثبات وفيها الحقيقة والمجاز، وفيها الإطناب والإيجاز، وفيها الذكر والحذف وفيها الابتداء والعطف وفيها التعريف والتنكير وفيها التقديم والتأخير، ومن كل هذه المسالك ينفذ الناس إلى أغراضهم، غير ناكبين بوضع منها عن أوضاع اللغة جملةً، بل هم في شعابها يتفرقون وعند حدودها يلتقون.
بيد أنه ليس شيء من هذه المسالك بالذي يَجمُل في كل موطن، وليس شيء منها بالذي يقبح في كل موطن، إذًا لهان الأمر على طالبه ولأصبحت البلاغة في لسان الناس طعمًا واحدًا وفي سمعهم نغمة واحدة، فإن الطريق الواحد قد يبلغك مأمنك حينًا ويقصر بك عن غايتك حينًا آخر، ورب كلمة تراها في موضع ما كالخرزة الضائعة، ثم تراها بعينها في موضع آخر كالدرة اللامعة، فالشأن إذًا في اختيار هذه الطرق؛ أيها أحق بأن يسلك في غرض غرض وأيها أقرب توصيلًا إلى مقصد مقصد.
إذًا الجديد في لغة القرآن أنه في كل شأن يتناوله من شئون القول يتخير له أشرف المواد وأمسها رحمًا بالمعنى المراد، وأجمعها وأمسها رحمًا بالمعنى المراد،
وأجمعها للشوارد وأقبلها للامتزاج، ويضع كل مثقال ذرة في موضعها الذي هو أحق بها وهي أحق به؛ بحيث لا يجد المعنى في لفظه إلا مرآته ناصعة وصورته الكاملة ولا يجد اللفظ في معناه إلا وطنه الأمين وقراره المكين، لا يومًا أو بعض يوم، بل على أن تذهب العصور وتجيء العصور، فلا المكان يريد بساكنه بدلا، ولا الساكن يبغي عن منزله حولا، وعلى الجملة يجيئك من هذا الأسلوب بما هو المثل الأعلى في صناعة البيان.
هذا ما يتميز به القرآن الكريم؛ أنه في لغته عمومًا بهذه الصورة التي هي فوق طاقة البشر ويستدل الشيخ بشيء جميل على هذه المسألة؛ أننا لا نستطيع أن نقدر قيمة القرآن كما قدره هؤلاء الذين آمنوا به وهؤلاء الذين لم يؤمنوا به وكفروا به وجحدوا، فيقول الشيخ: أنت أحد اثنين؛ إما أنك تعرف لغة العرب معرفة وثيقة وتستطيع أن تحكم، وإما أنك جاهل بلغة العرب وأسرار كلامهم، فلا تستطيع أن تحكم؛ فإن كنت جاهلًا بلغة العرب يكفيك شهادة العربي الفصيح، فإن قلت: أقبل شهادة من عربي يؤمن بالقرآن نأتيك بشهادة من كفر بالقرآن:
هذا مثال ذكره الشيخ بقصة الوليد بن المغيرة، هذا الوليد!! ماذا يقول الوليد؟ عندما أتاه أبو جهل وعرض عليه أن يطعن في القرآن بعدما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يقول الوليد لأبي جهل: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر؛ لا برجزه ولا بقصيدِه ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من هذا!! ووالله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة!! وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله!! وإنه ليعلو ولا يُعلى!! وإنه ليحطم ما تحته!!
هذه شهادة الوليد بن المغيرة -الذي لم يؤمن بالقرآن- في القرآن كلغة وكمعجزة لغوية.
أما إن كنت الرجل الثاني؛ بمعنى أنك تعرف لغة العرب، فيقول الشيخ: أما إن كنت قد أُوتيت حظك من معرفة فروق الكلام والميز بين أساليبه، فاقرأ ما شئت من خطب العرب وأشعارها وحِكمها وأمثالها ورسائلها ومحاورتها متتبعًا في ذلك عصور الجاهلية والإسلام على اختلاف طبقاتها، ثم افتح صفحةً من هذا الكتاب العزيز وانظر ماذا ترى؟
أسلوب عجب، ومنهج في الحديث فذٌّ مبتكر، كأن ما سواه من أوضاع الكلام منقول، وكأنه بينها على حد قول بعض الأدباء وضع مرتجل، لا ترى سابقًا جاء بمثاله ولا لاحقًا طَبع على غراره، فلو أن آيةً منه جاءتك في جمهرة من أقوال البلغاء لدلت على مكانها، واستمازت من بينها كما يستميز اللحن الحساس بين ضروب الألحان، أو الفاكهة الجديدة بين ألوان الطعام.
كلام جميل من شيخنا دراز يوضّح به الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم، ونحمد الله سبحانه وتعالى ونصلي على رسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.