الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحلك المواقف التي وضع فيها كفعله سبحانه وتعالى برسوله الكريم عندما أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ورفعه إلى السموات العلى وجعله يرى من آيات ربه الكبرى؛ كل ذلك من المعجزات، ولكن ذلك ليس هو عين معجزة النبي صلى الله عليه وسلم فعين معجزة النبي -صلوات الله وسلامه عليه- في الكتاب الذي أرسل به للعالمين -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
لذلك نجد الفرق بين القرآن والكتب الأخرى؛ القرآن تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه؛ لأنه هو عين معجزة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بخلاف الكتب الأخرى لم يتكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها، فدخلها التحريف والتبديل والنسيان، أما القرآن تعهد الله به:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) وذلك لبقاء المعجزة بمنهجها وحفظ المنهج بالمعجزة.
أوجه إعجاز القرآن
أما السؤال الثالث الذي نتعرض له فهو كما يقال: بيت القصيد، وغاية المريد؛ بمعنى: أن هذا السؤال هو الذي يستحق أن نقف عنده، لماذا؟ لأنه هو موضوع مادتنا طوال العام إن شاء الله سبحانه وتعالى.
وهو الوقوف على أوجه إعجاز القرآن، أو بيان كيفية إعجازه أهل الفصاحة والبيان وإخراسه كل إنسان:
في ذلك المضمار الذي هو بيان أوجه الإعجاز تسابق المتسابقون واجتهد المصنفون، بدليل أن دراستنا حول وجه من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم وهو الجانب اللغوي؛ ليتبين لنا لما عجز العرب عن معارضة القرآن والإتيان بمثله، ذلك السؤال الذي تنازعه أهل الأهواء وأهل الحق على السواء؛ فذهب المعتزلة
إلى القول بالصرفة وسيأتي بيانها، وذهب الأشاعرة إلى أن سر الإعجاز ما به من الإخبار عن الغيبيات ولنا مع ذلك وقفة أيضا إن شاء الله، وهناك من يقول: إن إعجاز القرآن في معانيه دون ألفاظه، وهناك من يقول: إن إعجاز القرآن في نظمه، وهناك من يقول: إن إعجاز القرآن في خلوه من التناقض، وفي العصر الحديث عصر العلم والتكنولوجيا كما يحلو لهم أن يطلقوا عليه ظهر الاهتمام بما يسمى الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وهناك جهود وجهود حول إبراز أوجه جديدة للإعجاز في القرآن الكريم، كما فعل الأستاذ رءوف أبو سعدة في كتابه العلم الأعجمي في القرآن مفسرا بالقرآن، ووضع تحت هذا العنوان عبارة "وجه جديد في إعجاز القرآن الكريم".
كذلك لا بد لنا قبل أن نبين أوجه الإعجاز أن نفرق بين شيئين:
أولًا: بين إعجاز القرآن في ذاته، وبين تحديه: أي نفرق بين كون القرآن في ذاته معجزًا وبين كونه تحدى به رسول الله صلى الله عليه وسلم العرب، فالقرآن في ذاته كله إعجاز؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فمن ثَم فأسراره لا تنتهي وعلومه لا تنقضي فكما أن منزله سبحانه وتعالى كما قال أبي العتاهية:
وفي كل شيء له آية
…
تدل على أنه الواحد
فإن كتابه الأسمى وكلامه الأعظم يجوز لنا أن نقول وفي كل حرف له آية تدل على أنه المعجز، فأما إعجازه في تحديه فهو بيان سبب عجز من أنزل عليهم عن الإتيان بمثله أو معارضته وهم أرباب الفصاحة وأهل البلاغة، بلغوا ذراها وخبروا منتهاها ومع
ذلك لم يلجئوا إلا إلى السيف في إخماد دعوة الحق معلنين عجزهم عن الإتيان بمثله أو عشر سور مثله مفتريات أو سورة من مثله كما سنبين إن شاء الله.
وما ورد من محاولة بعضهم معارضة القرآن كان عبارة عن سفاهات وافتراءات وكلام، كما قال الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) هو أخس من أن نشتغل به وأسخف من أن نفكر فيه، ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام؛ يقصد ما حكي عن مسيلمة الكذاب في ادعائه أنه يستطيع أن يعارض القرآن وفي ادعائه أنه أوحي إليه مثل القرآن، وأن الله سبحانه وتعالى جعله نبيّا مشاركًا لرسولنا الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وان الله أنزل عليه مثل ما أنزل على النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-؛ هذا القول الذي ورد في الكتب عنه كما قال الباقلاني أخس من أن نشتغل به:
يعني يقول: والليل الدامس والذئب الهامس ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس، ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى ما بين صفاء وحشا، ضفدع بنت ضفدعين نقي ما تنقين أعلاكِ في الماء وأسفلكِ في الطين لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض ولقريش مثلها ولكن قريشا قوم يعتدون والمبديات ذرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا والطاحنات طحنا والخابزات خبزا.
كلام هراء وكلام يعني لا يستحق أن يوقف عنده، ولكنه ذُكر في الكتب لبيان كيف أن هذا الكذاب الضال خدع بعض الناس وتبعه بعض الناس على هذا الهراء الذي يقول؛ لتعلم أيها الابن الكريم كيف عصمك الله سبحانه وتعالى وشرّفك بهذا الدين، هذا الاستفسار الذي سأله أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه عندما جاءه بعض الناس من اليمامة وسألهم عما يقول مسيلمة فأخبروه بمثل هذا الكلام أو نحوه، فقال: سبحان الله هذا الكلام لا يكون عن إل؛ أي لا يخرج عن ربوبية يعني فكيف كنتم تصنعون يعني كيف استطاع أن يخدع بعضكم وأن يسير البعض وراءه وهو يقول هذا الهراء.
فمن ثَم كان الاهتمام ببيان إعجاز القرآن في لغته، وكيف جاء بديع النظم عجيب التأليف متناهيًا في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه؛ لأن هذا هو أساس التحدي الذي أعلنه النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى
أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88) وهو تحدّ باق إلى قيام الساعة، هذا التحدي الذي مضى أكثر من أربعة عشر قرنا على إعلانه ولم يبطله جاحد به ولا مكذّب له.
وقد تبارى الناس في بيان ذلك على مر العصور ابتداءً بالخطابي والرماني والباقلاني، ومرورًا بعبد القادر الجرجاني وختامًا بالرافعي ودراز والسامرائي وغيرهم كثير من المتخصصين المعاصرين كأبي موسى وبيومي ولاشين وفضلا عن المفسرين كالزمخشري والآلوسي وسيد قطب وابن عاشور، وما ذكرته من أسماء إنما هو على سبيل التمثيل لا الحصر، فكم من متعرض لهذا المجال وكم من أناس تحدثوا عن إعجاز القرآن الذي بهر العقول بما فيه من جمال؛ لأنه تنزيل رب العالمين سبحانه وتعالى.
هذا الوجه من الإعجاز هو الذي جعل القرآن معجزًا من جميع الوجوه؛ نظمًا ومعنىً ولفظًا، لا يشبهه شيء من كلام المخلوقين أصلًا مميزًا عن خطب الخطباء وشعر الشعراء باثني عشر معنى لو لو يكن للقرآن غير معنى واحد من تلك المعاني لكان معجزًا، فكيف إذا اجتمعت جميعًا فيه.
هذا كلام الفيروز أبادي عندما عرض لأوجه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، أوجزها بوجود اثني عشر معنى في القرآن الكريم، وبدأ في بيانها والتمثيل لها، فذكر:
أولها: إيجاز اللفظ مع تمام المعنى على سبيل الحذف، كقوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (يوسف: 82) أي واسأل أهل القرية. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} (البقرة: 177) أي: ولكن البر بر من آمن. أو على سبيل الاختصار كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} (البقرة: 179).
ثانيها: تشبيه الشيء بالشيء كقوله تعالى {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} (النور: 36){أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} (إبراهيم: 18) وكما قيل الأمثال سرج القرآن.
وثالثها: استعارة المعاني البديعة كالتعبير عن تكوير الليل والنهار بالسلخ {وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} (يس: 37)، والتعبير عن المضي والقيام بالصدع {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) هذه الآية الكريمة عندما سمعها أعرابي سجدَ، فسألوه عن سبب سجوده قال: سجدت في هذا المقام لفصاحة هذا الكلام.
أما رابعها: فهو تلاؤم الكلمات والحروف بما فيه من جمال المقال وكمال الكلام: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} (النمل: 44){يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} (يوسف: 84){فَأَدْلَى دَلْوَهُ} (يوسف: 19) تلاؤم الحروف؛ كل ذلك- أذكر كلام الفيروز أبادي مع التمثيل لأنه هو موضوع دراستنا؛ سنقف عند كل شيء من ذلك بالتفصيل إن شاء الله سبحانه وتعالى أما في هذا الدرس فهو معرض لما سنتناوله ومدخل لما سندرسه؛ فلذلك أكتفي بذكر المثال دون التعريج بتوضيحه كاملا.
أما خامسها: فهو فواصل الآيات ومقاطعها، فصورةٌ فواصلها على حرف كسورة طه {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 1 - 5) تجد أنها تنتهي بحرف الألف، كذلك سورة القمر تنتهي بحرف الراء:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (القمر: 2) إلى آخر الآيات، وهناك صور تنتهي فواصلها على حرفين كصورة الفاتحة بين الميم والنون: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 1 - 7)، فبين الميم والنون سورة الفاتحة وكذلك صورة ق تجدها على حرفين أيضا.
وأما سادس هذه المعاني: فهو تجانس الألفاظ: وتجانس الألفاظ يكون على سبيل المزاوجة: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (النساء: 142){وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} (الشورى: 40){هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلَاّ الإِحْسَان} (الرحمن: 60)، أو من قبيل المناسبة كقوله تعالى:{ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم} (التوبة: 127){تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ} (النور: 37) فهذا من التلاؤم والتناسب بين الكلمات.
أما سابعها: فهو تصريف القصص والأحوال بألفاظ مختلفة وعبارات متنوعة، لو تأملها الغوّاص لعلم أن ما كرر فيها من ألفاظ إنما جاء للطائف وأسرار.
فثامنها: تضمين الحكم والأسرار، فعلى سبيل المثال سورة الفاتحة نصفها الأول يتضمن أحكام الربوبية ونصفها الثاني يقتضي أسباب العبودية، وذلك مثال وكذلك كل ما في القرآن من كلمة؛ إنما هي عبارة عن كنز معان وبحر حقائق، وكما تضمنت آيات القرآن جوامع الأشياء فهناك آية تجمع مكارم الأخلاق كقوله سبحانه وتعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين} (الأعراف: 199)، وهناك آية تجمع حاجات الكائن الحي:{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) وهناك آيةٌ تبين كيف يُساس الناس وما هو مقاصد التشريع، وما الذي يريده الله سبحانه وتعالى منهم:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90) هذا جانب تعرّض له العلماء، ولنا معه وقفه ان شاء الله سبحانه وتعالى في الآيات الجوامع.
أما تاسعها: فهو المبالغة في الأمر والنهي باستخدام الأسماء تارة وباستخدام الأفعال تارة أخرى؛ الأسماء كقوله سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد} ، والأفعال:{وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا} (الإسراء: 12){قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} (الإنسان: 16){وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} (الفرقان: 39).
أما عاشرها: فهو حسن البيان: حسن البيان لجميع أحكام الشريعة؛ المقاصد والأغراض والمصالح والأسباب، كل ذلك مؤيد بالآيات القرآنية فإذا أردت دليلا للوحدانية تجد قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) وإذا أردت آية ترشد لمصالح الصيانة والعفة تجد قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} (النور: 32) ولرعاية مصالح النفوس: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179) ولبيان أركان الإسلام: {أَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} (النساء: 77){كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة: 183){وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97)، ولبيان المعاملات:{وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275){إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (البقرة: 282)، ذلك كثير في كتاب الله سبحانه وتعالى مما يميز حسن البيان في بيان الأحكام الشرعية وأحكام الشريعة التي جاء بها النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما الحادي عشر: فهو الإخبار عما كان، وضرب له الفيروزآبادي أمثلة من تخليق العرش والكرسي وحال الحملة والخزنة وكيفية اللوح والقلم ووصف السدرة وطوبى وسير الكواكب ودور الأفلاك ورفع السماء وتمهيد الأرض.
وأما الثاني عشر: فهو الإخبار عما يكون، كأخبار الموت والقبر والبعث والنشر والقيامة والحساب والعقاب والعرض والحوض والسؤال ووزن الأعمال والميزان والصراط
…
إلى غير ذلك مما جاء به القرآن الكريم وبينه رسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
هذا الذي ذكره صاحب (البصائر) أي الفيروزآبادي لا نستطيع الزعم بأنه كل معاني الإعجاز، بل لا نسلم بأنه جلها فكم من أشياء أخر ذكرها المهتمون بهذه القضية، بل لا نستطيع حصر الإعجاز والتحدي في الجانب اللغوي فقط؛ لأن اللغة إطار توضع فيه المعاني، وكم في المعاني من أسرار لا يعلمها إلا مكور الليل على النهار ومن جاد عليهم من عباده الأخيار؛ فذلك علم يمنحه الله سبحانه وتعالى هبة وفضلا لمن يشاء.
ولك أن تتأمل -أيها الطالب النجيب- كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكون القرآن أنه معجزة ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط أو نظمه وأسلوبه فقط، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط، ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط، ولا من جهة سلب قدرتهم عن معارضته فقط؛ بل هو آيةٌ بينة معجزة من وجوه متعددة؛ من جهة اللفظ ومن جهة النظم ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته، وغير ذلك، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الميعاد، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية، التي هي الأمثال المضروبة كما قال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (الكهف: 54)، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَاّ كُفُورًا} (الإسراء: 89) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 27، 28).
وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجةٌ على إعجازه، ولا يناقض ذلك، بل كل قوم تنبهوا بما تنبهوا.