الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يتعلق بحذف المتعلقات، وحذف المفعول به
ما يتعلق بحذف المتعلقات الذي يتعلق بالفعل، أو الذي يكمن الجملة من جار ومجرور ونحوه.
مما ذكروه في حذف المتعلقات حذف المضاف، وهو كثير في القرآن الكريم، واهتم العلماء بعده والتمثيل له، ومن ذلك قوله تعالى:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 78) أي: جاهدوا في سبيل الله. وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) فالأصل: ومَثَل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع، ثم حُذف المضاف وهو داع؛ رفعًا لشأنه في اللفظ عن أن يقرن بهذا الذي ينعق بما لا يسمع. كذلك من حذف المتعلقات حذف المضاف إليه كقوله تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (الأعراف: 142) أي: بعشر ليال. وقوله سبحانه وتعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (الروم: 4) أي: من قبل ذلك ومن بعده.
وهذا الحذف مشهور معلوم، يقره النحاة كما يقره أهل البلاغة، ويبحثون عن سر الجمال في هذا الحذف والغرض منه؛ أما دلالته فهي واضحة مثال قول الله سبحانه وتعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} (يوسف: 82) يقدرون: واسأل أهلَ القرية. {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} (البقرة: 93) أي: وأشربوا في قلوبهم حب العجل.
هذا من نماذج حذف المضاف، وحذف المضاف إليه يكون بذكر ما يدل عليه من سياق الكلام.
وكذلك من حذف المتعلقات: حذف الموصوف، كقوله تعالى:{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} (ص: 52) أي: حور قاصرات الطرف. وكقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (مريم: 59، 60) أي: عمِل عملًا صالحًا، فالعرف العربي في السياق اللغوي يقبل مثل هذا الحذف؛ لأن الصفة بشيوعها يكتفَى بها عن الموصوفِ. و {اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} (سبأ: 11) أي: دُروعًا سابغات.
وهذه أمثلة مشهورة يعدها النحاة ويذكرها البلاغيون.
حذف الصفة: مثل قوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (الكهف: 79) أي: يأخذ كل سفينة سليمة، بدليل قوله تعالى:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} وإلا لو كان يأخذ كل سفينة غصبًا لَأَخَذَ السفينة، فهي سفينة ولكنه لم يأخذها؛ لأنها معيبة، فهنا يلزم تقدير الصفة التي يتأتَّى معها صحة المعنى. وكذلك في قول بني إسرائيل لموسى عليه السلام:{قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي: بالحق الواضح أو البين، وإلا لو كانوا يقولون له عليه السلام:{الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} أي: أنهم كانوا مكذبين له، لم يكونوا أصلًا ممن آمَن به وممن يتوجه لهم خطاب موسى عليه السلام وكذلك في قوله تعالى:{بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} (ص: 51) أي: شراب كثير، وهنا الحذف بدليل ذِكْرِه قبل ذلك، فهو مفهوم من السياق.
حذف القسم: مثل قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (الأحزاب: 60) أي: والله لئن لم ينته. وكذلك حذف جواب القسم، وهو كثير في القرآن: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ *وَاللَّيْلِ إِذَا
يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (الفجر: 1 - 5) وتقدير الجواب: لتبعثن يا كفارَ مكةَ. وكذلك حذف الشرط: كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) أي: إن تتبعوني يحببكم الله، وكقوله تعالى:{فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} (مريم: 43) أي: فإن تتبعني أهدك صراطًا سويًّا. كذلك حذف جواب الشرط، وحذفه قد يكون لمجرد الاختصار، كقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (يس: 45، 46).
كما يكون حذفه للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف؛ قصدًا للمبالغة، كقوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} (الزمر: 73) كأنه قيل: قد حصلوا على النعيم المقيم الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير، وإنما سار هذا الحذف هنا في مثل هذا أبلغ من الذكر؛ لأن النفس تذهب في كل مذهب، ولو ذُكِرَ الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنته العبارة.
ومن حذف المتعلقات أيضًا: حذف المعطوف، كقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} (الحديد: 10) والتقدير: لا يستوي منكم مَن أنفق من قبل الفتح وقاتل ومَن أنفق من بعده وقاتل، بدليل قوله تعالى:{أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} (الحديد: 10).
هذه وغيرها مما ذكر من حذف المتعلقات أشياء نبه عليها البلاغيون وعدُّوه في مصنفاتهم، وهي من أبواب الإعجاز في القرآن الكريم؛ بسبب أنها تُفهم من السياق، وأنها على طريقة العرب في كلامهم، فيتبينها مَن ينظر في كتاب الله سبحانه وتعالى-
وكثير منها يُقر عند أهل العلوم الثلاثة الذين يتضافرون على خدمة كتاب الله: علم النحو، وعلم البيان والمعاني، وعلم التفسير، فهذه العلوم الثلاثة تتضافر على بيان ما في كتاب الله سبحانه وتعالى.
يبقى في حذف المتعلقات ما أُفرد له حديث، وهو الكلام عن حذف المفعول به.
وقبل الكلام عن حذف المفعول به نفرغ من الكلام عن الحذف ببيان: أن مِن أنماط الحذف حذفُ الجملة، كقوله تعالى:{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (البقرة: 60) والتقدير: فضرب فانفجرت، فهنا حذف السبب وذكر المسبب. وكقوله تعالى:{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} (الأنفال: 8). وا لتقدير: فعل الله ما فعل من كثرة قوة أهل الشرك؛ ليحق الح ق ويبطل الباطل. فحذف المسبب وذكر السبب.
ومن نماذج حذف أكثر من جملة في القرآن، وذلك أكثر ما يكون في القصص القرآني: قوله تعالى في سورة يوسف: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:45 - 46] عندما قص الملك رؤياه على نزيل السجن مع يوسف عليه السلام الذي كان ساقيًا للملك، فقال لهم:{أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون} فبعدها جاء الخطاب القرآني {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} فهنا حذف جمل، وهناك تفصيلات جزئية تعرف من السياق وتوصل بها إلى الكلام المباشر مع يوسف عليه السلام وهذا الحذف يفهمه من ينظر في سياق الآيات {أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون} فأرسلوه إلى يوسف، فقابل يوسف فقال له:{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا} .
وكذلك في قوله تعالى {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الفرقان: 36] أي: فأتياهم، فأبلغاهم الرسالة، فكذبوهما؛ فدمرناهم تدميرًا.
وكما قلت: هذا الحذف يكثر في القصص القرآني الكريم، وكل ما ذكر من هذه الأنماط في الحذف يدرك في البلاغة فيما يسمى "إيجاز الحذف".
والآن نفرغ للكلام عن المفعول به وحذف المفعول به:
وأولًا: نقول: لماذا يفرد المفعول به بحديث دون غيره من المتعلقات؟
بيَّن الجرجاني أن حذف المفعول ينماز عن سائر المتعلقات بأنه تكثر لطائفه، وتدق أسراره، وكأن المزايا فيه أخلب، وما يظهر بسببه من الحسن والرونق أعجب؛ بذا أفرد البلاغيون بعد ذلك جريًا على ما فعله الجرجاني في (دلائل الإعجاز) أفردوا الحديث عن حذف المفعول به، وما به من أسرار بلاغية.
ثانيًا: أنهم أيضًا عندما يتحدثون عن حذف المفعول به لا بد أن يقدموا مسلمات يذكرونها أولًا، وهو أن حذف المفعول به يتعلق بالفعل المتعدي؛ لأن الفعل اللازم لا يحتاج إلى مفعول به، وكذلك أنهم يقدمون إلى بيان أن هناك من الأفعال المتعدية ما ينزل منزلة اللازم؛ فلا يحتاج أيضًا إلى مفعول به، فهذا لأنه ربما المتحدث لا يقصد أن يخبر بشيء أكثرَ من أنه يخبر بوقوع الفعل، فإذا أراد أن يخبر بوقوع الفعل اكتفى بذكره، وإذا أراد أن يذكر وقوع الفعل ومَن فعله اكتفى بذكر الفعل والفاعل.
والخلاصة: أن تعرف الفرق بين قولك: وقع ضَرْب، وبين قولك: أعطى محمد، وبين قولك: أعطى محمد الذهب، ولكل جملة من هذه الجمل معنًى محدد وغرض معين ومقام مختص بها، لا تفيد واحدة منها معنى الأخرى، ولا تصلح مكانها، فهنا إيرادة فعل المتعدي من غير مفعول يقع في الكلام على طريقين:
- أولًا: أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل من غير نظر إلى شيء وراء ذلك، وهذا موجود في كتاب الله سبحانه وتعالى وأمثلته كثيرة. يعني: أمثلته من كلامهم أن تقول: فلان يأمر وينهَى، ويعطي ويمنع، فأنت تريد الإخبارَ عن فلان أنه هو الذي يفعل كذا، ولا تريد الإخبارَ عما يأمر به أو عما ينهى عنه أو ما يعطيه، أو ما يمنعه، ولذلك أنت تثبت المعنى للفاعل، واستدلوا لذلك بآيات عديدة في كتاب الله سبحانه وتعالى كقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} (البقرة: 245) وقوله تعالى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} (الأعراف: 158) سبحانه وتعالى فإثبات الإحياء والإماتة والقبض والبسط لله عز وجل.
ومما جاء على ذلك واستدلوا به قولُه تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النجم: 43، 44){وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (النجم: 48) فالمعنى: هو الذي منه الإحياء والإماتة والإغناء والإقناء، وهكذا كل موضع كان القصد فيه أن يثبت المعنى في نفسه فعلًا للشيء، أو أن يخبر بأن من شأنه أن يكون منه أو لا يكون إلا منه، أو لا يكون منه، فإن الفعل لا يعدى هناك؛ لأن تعديته تنقض الغرض وتغير المعنى، كقول الله سبحانه وتعالى:{رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} (البقرة: 258) أي: يكون منه الإحياء وتكون منه الإماتة من غير النظر إلى مَن أحياه الله وإلى مَن أماته. وكقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) أي: هل يستوي من يكون منه العلم ومن لم يكن منه العلم من غير النظر إلى معلوم؟
ويقول الزمخشري في قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17) والمفعول الساقط مِن: {لَا يُبْصِرُونَ} من قبيل المتروك المطروح الذي لا يُلتفت إلى إخطاره بالبال، لا مِن قبيل المقدر المنوي، كأن الفعل غير متعد أصلًا، نحو:{يَعْمَهُونَ} في قوله تعالى: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الأنعام: 110).
هذا ما ذهبوا إليه أولًا من حذف المفعول ليس لغرض بلاغي واضح أكثر من هذا الغرض، هو أننا نريد أن نثبت الفعلَ للفاعل دون النظر إلى المفعول الذي وقع عليه الفعل.
ومن بديع ما ذكره البلاغيون في هذه المسألة قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} (القصص: 23، 24) فالآيتان تصور موقفَ موسى عليه السلام من ابنتي شعيب حين حضرتَا إلى بِئر مَدين؛ لتسقي ما معهما من دواب، وقد اشتمل أسلوب الآيتين على أربعة أفعال متعدية، حُذفت مفعولاتُها جميعًا؛ إذ المعنى: وجد عليه أُمةً من الناس يسقون أغنامهم أو مواشيهم، وامرأتين تذودان غنمهما، قالتَا: لا نسقي غنمنا، فسقَى لهما غنمهما، ثم إنه لا يخفَى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يُترك ذكره ويؤتَى بالفعل مطلقًا، وما ذاك إلا أن الغرض في أن يُعلم أنه كان من الناس في تلك الحالة سقي، ومن المرأتين ذَوْدٌ، وأنهما قالتا: لا يكون مِنَّا سقي حتى يصدر الرعاء، بمعنى: أن يفرغ الرعاء من سقي ما معهم من المواشي والدواب، وأنه كان لموسى عليه السلام من بعد ذلك سقي، فأما ما كان المسقي غنمًا أم إبلًا أم غيرَ ذلك، فخارجٌ عن الغرض، وموهمٌ خلافه.
وذاك أنه لو قيل: وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما، جاز أن يكون: لم يذكر الذَّوْد من حيث هو ذود بل من حيث هو ذودُ غنمٍ، حتى لو كان مكان الغنم إبلًا، لم يذكر الذود، كما أنك إذا قلت: ما لك تمنع أخاك، كنتَ منكرًا المنعَ، لا من حيث هو منع بل من حيث هو منعُ أخٍ.
وهذا الذي ذكره عبد القاهر في تحليل الآية الكريمة.
وقد أسهبوا أيضًا في بيان هذه النقطة بأن من الحذف ما يخفَى، ومنه ما هو ظاهر، بمعنى: أنك إذا ما قلت مثلًا: أصغيتُ إليك، فواضح أن المفعول هنا هو كلمة أُذني، أصغيتُ أذني إليك، أما هناك من الحذف للمفعول ما يكون متبادرًا -واضحًا- إلى المتحدث، إلا أن حذفه كان وراءه سِر بلاغي أكثرَ من مجرد أن يكون حَذْفًا، وهذا ما نبه عليه الجرجاني وذكر له أمثلةً من أشعارهم ومن كلامهم، تدل على أن الحذف أتَى بوظيفة بلاغية أجملَ وأقوى من مجرد أنه يكون حذفًا لمفعول هو معلوم. من ذلك قول البحتري في مدحه المعتز بالله، وتعريضه بأخيه المستعين بالله. يعني: هو يمدح الخليفة ويعرِّض بأخيه الذي كان يزعم أنه له حق في الخلافة.
فيقول البحتري:
شَجْو حساده وغيظ عِداه
…
أن يرى مبصر ويسمع واع
فأنت تفهم ابتداءً: أن المفعول المحذوف: أن يرى مبصر آثاره ومحاسنه، وأن يسمع واع أخبارَه وأوصافه، لكن الشاعر هنا تناسَى هذين المفعولين تمامًا، وأغضى طرفه عنهما، وكأنه لا وجود لهما، وكأنما يقول: إن محاسن المعتز وفضاءله يكفي فيها أن يقع عليها بصرُه، ويعيها سمع، حتى يعلم أنه مستحق للخلافة؛ لأن عين مَن يبصر لا تقع أينما اتجهت إلا على محاسنه ومناقبه، ولم ينتهِ إلى سمعه إلا كل طيب وعظيم من أخباره، ولذلك ترى حساده وليس شيء أشجى لهم وأغيظ من علمهم بأن ها هنا مبصرًا يرى، وسامعًا يعي، حتى ليتمنون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها، وأذن يعي معها؛ كي يخفى مكان استحقاقه بشرف الإمامة، فيجد بذلك سبيلًا إلى منازعته إياها.
استدل أيضًا بقول عمرو بن معديكرب:
فلو أن قومي أنطقتني رماحُهم
…
نطقت ولكن الرماح أجرتني
فهنا واضح أن الرماح أجرتني، وأن المحذوف هو ياء المتكلم، فالحذف هنا أدى وظيفة أكبر من مجرد حذف مفعول معلوم لدى المخاطب، فالشاعر هنا يبين أن قومه لم يبلوا بلاءً حسنًا ولم يستعملوا رماحهم ولا يظهروا قوتهم، ولو أنهم كانوا عملوا ذلك لكان ذلك مدعاةً بأن ينطق بمدحهم، وأن يذكر مفاخرهم، إلا أنهم عندما تقاعسوا عن ذلك أخرسوه، فلم يستطِعْ أن يتحدث، فلو قال:"ولو أن قومي أنطقتني رماحهم ولكن الرماح أجرت غيري". فذلك غير متصور، فلا هو لا يتحدث إلا عن نفسه؛ وذلك لأنه لا يريد إثبات أنه أُخرس عن مدح قومه، وإنما يريد أن يثبت أنه كان للرماح إجرار وحبس للألسن عن النطق، وأن يصحح وجودَ ذلك، فلو قال: أجرتني، جاز أن يتوهم أنه لم يعنَ بأن يثبت للرماح إجرارًا، بل الذي عناه أن يبين أنها أجرته، أي: أخرسته وقطعت لسانَه عن مدح قومه، فقد يُذكر الفعلُ كثيرًا والغرض منه ذكر المفعول، ومثاله الواضح في كلامنا عندما تقول لأحد: أضربتَ محمدًا؟ مثلًا، فإنك لا تنكر عليه الضربَ، وإنما تنكر عليه ضربَ محمدٍ دون غيره.
من الأغراض التي ذكروها لحذف المفعول: البيان بعد الإبهام، أو ما أَطلق عليه الجرجاني "الإضمار على شريطة التفسير". ومن لطيف ذلك قول البحتري:
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم
…
كرمًا ولم تهدم مآثرَ خالد
فالأصل في الكلام: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، ثم حلف ذلك من الأول؛ استغناءً بدلالته في الثاني عليه، ولا يخفى عليك أنك لو قلتَ: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، سِرتَ إلى كلام غث، وإلى شيء
يمجه السمع، وتعافه النفس، وذلك أن في البيان إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له لطفًا ونبلًا لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك النفس إلى بيانه وسماعه.
واستدلوا لذلك بأن هذا الأمر -أي: البيان بعد الإبهام- يكثر مع فعل المشيئة، وهو كثير في كتاب الله سبحانه وتعالى كقوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (الأنعام: 35) أي: لو شاء الله جمعهم لجمعهم. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) أي: لو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين.
ومثل فعل المشيئة في حذف المفعول ما في قوة المشيئة كفعل الاستطاعة، كقول القائل: ولو أني استطعت غضت طرفي فلم أبصر به حتى أراك، أي: لو أني استطعت غض طرفي غضته، وحكم المشيئة لا يختص بحرف "لو" وإنما يأتي على سائر أدوات الجزاء -حروف الجزاء- وأسماء الجزاء، حروف مثل "إنْ" فقوله تعالى:{فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} (الشورى: 24) وأسماء نحو "مَن" كقوله تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الأنعام: 39) فمعروف التقدير: فإن يشأ الله الختم على قلبه ختم، وإن يشأ الله إضلاله أضله. فهنا مِن حذف المفعول.
وتطرق الجرجاني إلى المواضعَ التي يُذكر فيها المفعولُ مع فعل المشيئة، فهو يقصر حذف المفعول مع فعل المشيئة، وإنما هناك مواضع يحسن فيها ويفضل فيها أن يذكر المفعول ولا يحذف، وذلك إذا كان الأمر الذي يتعلق بالمشيئة أمرًا عظيمًا أو غريبًا، فإنه يحصل هنا أن يصرح به، ويمثلون له بقول الشاعر:
قضى وطرًا منك الحبيب المودِّع
…
وحل الذي لا يُستطاع فيُدفع
ولو شئتُ أن أبكي دمًا لبكيتُه عليه
…
ولكن ساحة الصبر أوسع
فبكاء الدم شيء عجيب، ولو حذفه الشاعر فقال:"ولو شئتُ بكيت دمًا" لَمَا اطمئن إليه السامع ولا تلقاه بالقبول، لذا كان الأولى أن يصرح الشاعر بذكره؛ ليقرره في نفس السامع، ويؤنسَه به.
وخير ما يمثل له في هذا المجال ما ورد في القرآن الكريم من التصريح بفعل المشيئة في قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} (الزمر: 4) فذكر مفعول المشيئة أي: لو أراد الله اتخاذ الولد لاصطفى مما يخلق ما يشاء؛ لأن من الغرابة أن يَتخذ رب العالمين ولدًا. وكذلك: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} (الأنبياء: 17) فذكر المفعول وهو المصدر المؤول المكون من "أل" وما دخلت عليها في هذا المقام أبدع وأحسن من عدم ذكره؛ لأن الأمر المتعلق بالإرادة أو المشيئة هو أمر عجيب غريب على السامع، فلا بد أن يُذكر.
ومن الأغراض التي ذكروها لحذف المفعول: إرادة ذكره مرةً ثانيةً، بحيث يعمل الفعل في صريح لفظه لا في ضميره العائد عليه؛ إظهارًا لكمال العناية بوقوع الفعل عليه. ويمثلون له بقول البحتري:
قد طلبنا فلم نجد لك في
…
السؤدد والمجد والمكارم مثلًا
فالتقدير: قد طلبنا مِثلًا فلم نجد لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلًا، فلم يذكر المفعول أولًا ويعمل فيه الضمير ثانيًا فلو قال: قد طلبنا مثلًا فلم نجده، لم يكن مثل هذا القول الذي قاله في بيان المعنى؛ وهذا لأنه لو قال: قد طلبنا مثلًا، ربما يشعر بجواز أن يكون له مثل؛ لأن العاقل لا يطلب إلا ما هو موجود، أما حَذْف المفعول ها هنا يبين أنه لا يوجد أصلًا "مثلًا" لهذا الممدوح الذي يذكره، ولذلك بعضهم أطلق على هذا الغرض أنه من التحرز عن مواجهة الممدوح بما لا يليق، فلو قال له:"مثلًا"، ابتداءً، ربما ظن الممدوح أنه يقلل من شأنه، وأن هناك مَن يضاهيه.
من الأشياء التي ذكروها أيضًا لحذف المفعول: دفع توهم السامع في أول الأمر إرادة غير المراد، وذكروا له قول الشاعر:
وكم ذُدت عني من تحامل حادث
…
وسورة أيام حززنَ إلى العظم
فالتقدير: حززن اللحم إلى العظم، فحذف المفعول وتوصل إلى المتعلق بالفعل مباشرةً؛ لكي يؤكد مراده الذي يريده.
ولا نريد أن نقف كثيرًا عند الأبيات الشعرية.
ما ذكروه في القرآن الكريم من أغراض أضافوها لحذف المفعول:
فقالوا: من هذه الأغراض: قصد التعميم مع الاختصار، واستدلوا له بقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (يونس: 25) أي: يدعو جميع المكلفين، فحذف المفعول في الآية الكريمة شمل جميعَ مَن كلَّفهم الله سبحانه وتعالى ودعاهم إلى جنته وإلى باب كرامته، فكان الحَذْف هنا لقصد التعميم.
ومن الأغراض التي ذكروها في حذف المفعول: الحذف لمراعاة الوزن في الشعرن ورعاية الفاصلة في القرآن الكريم، ويمثلون للشعر بقول المتنبي:
بناها فأعلى والقَنا يقرع القنا
…
ومَوْج المنايا حولَها متلاطمُ
أي: بناها فأعلاها. أقر البلاغيون ذلك وذكروه في الشعر، ويُقبل منهم ذلك.
أما ما يتعلق بالقرآن الكريم؛ لأن حذف المفعول كان لأجل الفاصلة، فهذا ما يستحق أن يوقَف عنده. هم يستدلون بقوله تعالى:{وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 1 - 3) أي: وما قلاك، فحذف ضمير المخاطب الواقع مفعولًا به؛ رعايةً للفاصلة في الآية التي قبلها والآية التي بعدها. وقال بعضهم: إن حذف المفعول هنا لأجل الاختصار اللفظي؛ لظهور
المحذوف كما في قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 35) أي: والذاكرات لله.
والواقع أن الاختصار علة متحققة في كل مواقع الحذف، لكنه لا يعول عليه وحدَهُ في الأعم الأغلب منها، وإنما تَكمُنُ أغراض أخرى أهمُّ، كذلك فإن رعاية الفاصلة في القرآن الكريم لا ينبغي أن تكون غرضًا مستقلًّا وراءَ حذفِ المفعول أو حذف سواه، صحيح أن تناسق الإيقاع أداة بارزة في مجال النظم القرآني، لكن الاقتصار عليه لا يعدو أن يكون اقتصارًا على علة لفظية، والإعجاز البلاغي للقرآن لا يقف عند حدود اللفظ، وإنما تتآزر فيه الألفاظ والمعاني تآزرًا كاملًا. ولهذا نجد أحيانًا فاصلةً مختلفةً تقطع نَسَقًا موحدًا من فواصلَ متعددة؛ لاقتضاء الدلالة عليه.
وقد علقت الدكتورة عائشة عبد الرحمن -رحمها الله- على هذا الكلام بكلام بديع، تقول فيه: إن البيان الأعلى لا يتعلق في فواصله بمجرد دعاية شكلية للرونق اللفظي، وإنما تأتي الفواصل لمقتضيات معنوية مع نسق الإيقاع بها، وائتلاف الجَرْس بألفاظها التي اقتضته المعاني على نحو تتقاصر دونه بلاغة البلغاء، وفي مقدمة الأمثلة القرآنية التي يُستشهد بها طرح كاف الخطاب من الفعل:{قَلَى} في الآية السابقة، فليس إسقاطها كما تقول: اكتفاء بالكاف الأولى في: {وَدَّعَكَ} ، ولمشاكلة رءوس الآي كما ذهب الفراء، وليس رعايةً للفاصلة كما ذهب الفخر الرازي وبعضُ المفسرين.
وأيدت رأيها: بأن البيان القرآني عَدَلَ عن رعاية الفاصلة في الآيات بعدها، فقال تعالى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى: 9 - 11) فجاءت الفاصلة الأخيرة بحرف الثاء، وهو ليس
موجودًا في الفواصل السابقة، بل ليس موجودًا في الصورة كلها، وكان من الممكن أن تكون الفاصلة:"فخبِّر"؛ اتساقًا مع الفاصلتين السابقتين.
وهذا الذي ذكرته الدكتورة عائشة ينمُّ عن إحساسٍ مرهفٍ بالقرآن الكريم وبالآية، وبيان سر الحذف فيها أنه لا يتعلق بالفاصلة فحسب، وإن كان يعطي درسًا موسيقيًّا، ويعطي جمالًا في اللفظ، إلا أنه لا بد من غرض أسمى لهذا الحذف لا يقتصر فيه على اللفظ فقط. فمثلًا مما يُستأنث به في الآية الكريمة أن نقول: إن حذف المفعول كان لتجنب مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يحب، فلو قال سبحانه وتعالى:"قلاكَ" بمعنى كرهك، لا يناسب المقام الذي يُساق فيه الآياتُ من مقام إناس، وإشاعةِ الطمأنينة في نفسه، وتبديدِ بشعوره بالوحشة الذي أحسَّ بها بعد فتور الوحي وانقطاعه عنه فترةً من الزمن.
وبعدُ، فهذه هي أهم الأغراض التي ذكروها في حذف المفعول به، وكان الذكر والحذفُ من مظاهر النظم التي بينها الجُرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.