الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتعرض الرافعي رحمه الله للكلام عن قراء الشواذ، وبداية ظهورهم، وغير ذلك، وذلك أمر نحسمه بأن القراءات العشر المتواترة هي التي يتعبد بتلاوتها، وما عداها فهو شاذ.
الكلام عن قراءة التلحين
هو كلام عما ابتُدِع في القراءة والأداء مما بقي إلى يومنا هذا من اسخدام القراء لما يشبه الغناء الخفي، كأنهم -كما أطلق عليهم- المغبرة، الذين يغبرون بذكر الله، فيهللون، ويرددون الصوت بالقراءة وغيرها، وهذا النوع الذي ظهر في القرون الأولى واستمر إلى يومنا هذا، لنا معه وقفة؛ لأنه يتناول جانبين؛ جانب: يُتفق على أنه مردود ومرفوض، وأنه من البدع التي استحدثت في قراءة القرآن، والتي لا يجب أن يعول عليها، بل إنها تدور بين حكمين؛ إما الكراهة وإما الحرمة، الكراهة إذا حافظ على الحروف، أما إذا مطَّ الحرفَ وخرج به إلى غيره، وغيَّر أو زاد أو نقص في الحرف نتيجة ما فعله، فذلك محرم قولًا واحدًا؛ لأنه تغيير في كلام الله سبحانه وتعالى.
من أقسام النغم الذي أحدثوه فيما يسمى بقراءة التلحين: الترعيد، الترعيد: وهو أن يرعد القارئ صوته كأنه يرعد من البرد والألم، يقرأ وكأنه يرتعش متألمًا أثناء قراءته.
والترقيص: وهو أن يروم السكوت على الساكن، ثم ينقر مع الحركة كأنه في عَدْو وهرولة -يسرع- وكأنه أراد أن يقف فجرى، ورقَّص السامع بهذا الذي أحدثه.
والتطريب: وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغم به، فيمد في غير مواضع المد ويزيد في المد إن أصاب موضعه.
والتحزين: وهو أن يأتي بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع.
والترديد: وهو رد الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن واحد على وجه من تلك الوجوه.
هذه النماذج التي ذكرها الرافعي في حديثه عن قراءة التلحين، وهي نماذج واضحة وتُسمع من بعض القراء الذين يبالغون، وخاصةً ممن يقرءون في المناسبات وغير ذلك، تجده يريد أن يجذب انتباه السامعين إلى بيان صوته وإلى أدائه، فيقع في بعض هذه الأشياء، ولا يقع في ذلك إلا مَن لا وثوق في علمه من القُراء. وبحمد الله لم نسمع أمثال ذلك من القراء الأكابر المعتمدين في زماننا، لم يلجئوا إلى هذه الأساليب في قراءتهم، وإن كانوا يراعون المقامات الصوتية وغير ذلك مما تعلموه في عصورنا الحديثة كما يقال: تعلموه تعليمًا أكاديميًّا؛ لتحسين الصوت والتغني بالقرآن الكريم. إلا أن هذه الأشياء لم تظهر فاشيةً عند القراء المعتمدين الكبار الذين تؤخذ عنهم القراءة.
فذلك الجانب هو الذي يرفض من القراءة بالتلحين؛ لأنه ربما يؤدي -كما قلنا- لإبدال حرف مكان حرف، أو اختلاس حرف، فيقع من الكلمة وتنطق على غير مرادها، وضرب الشيخ هنا مثالًا ببعضهم عندما كان يقرأ قوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (الكهف: 79) فاختلس وجعلها "كأنها مسكين" يعني: "أما السفينة فكانت لمسكين لمسكين لمسكين!! ". فحذف الألف في قراءته،
اختلس الألف اختلاسًا، فكأنها تحولت من الجمع إلى الإفراد، وذلك كما قرأ بعضهم بيت شعر فقال:"بعض مفيها مفيها" بدلًا: "من ما فيها".
فهذا الاختلاس الذي تم هذا يرفض؛ لأنه غيَّر من الكلمة، وحولها من كلمة لأخرى، فلذلك يقول صاحب (جَمال القِراءة) -وهي (جمال القُراء، وكمال الإقراء) للعلم السخاوي في الكتاب صاحب (جمال القراءة) ويبدو والله أعلم أن المقصود هو السخاوي في كتابه (جمال القراء وكمال الإقراء) - إن أول ما غنَّى به القرآن قِراءة الهيثم: "أما السفينة
…
" فكما تقدم. فلعل ذلك أول ما ظهر من هذا النوع من قراءة التلحين الذي هو مرفوض؛ لأنه خروج عن قراءة القرآن كما أنزلها المولى سبحانه وتعالى لتجويدها وأحكامها، بل عد الشافعي ذلك من أفعال الزنادقة الذين وضعوا ما يسمى بالتغيير؛ ليصدوا الناس عن ذكر الله وقراءة القرآن، وهي إدخال الإنشاد واستخدام الأساليب التي تذهب جلالَ القرآن وقدسيته في النفوس إذا ما استخدم القرآن بالتلحين.
وبالجملة: فإن التعبد بفهم معاني القرآن في وزن التعبد بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراء المتصلة بالنبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.
أما الجانب الآخر في موضوع قراءة التلحين هو ما ورد في أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يسمى بالتغني بالقرآن. هناك فرق بين ما أحدثه القراء من هذه البدع المرفوضة، وبين ما أشار إليه نبينا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- في الأحاديث الصحيحة:((ما أذن لنبي يتغنَّى بالقرآن)) وفي رواية: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، يجهر به)) وحديث: ((ليس منا مَن لم يتغنى بالقرآن)). فالمراد بالتغني بالقرآن هو تحسين الصوت، بدليل الحديث المشهور عن أبي موسى رضي الله عنه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: ((لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك
البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود، فقال رضي الله عنه: أما والله لو علمت أنك تسمع قراءتي، لحبرتها لك تحبيرًا)).
هذا ما نص عليه ابن كثير رحمه الله في قوله: أن المراد تحسين الصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه، والخشوع والخضوع، والانقياد بالطاعة، أما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية، والقانون الموسيقي -كما يقولون- فالقرآن منزه عن هذا، ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب، وهذا محظور كبير نص الأئمة على النهي عنه؛ لأنه كما قلنا: لو خرج إلى التنطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرف أو ينقص حرف، فقد اتفق العلماء على تحريم ذلك.
أما التحزين بالقرآن وهو ما ذكره الرافعي رحمه الله على أنه صور من صور التلحين، أنه يقرأ على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع، فهذا ما ذهب إليه الرافعي رحمه الله لأن هذا الأصل في قراءة القرآن أن القارئ يُستحب له البكاء والتباكي لمن لم يقدر على البكاء والحزن والخشوع؛ وذلك لقوله تعالى:{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (الإسراء: 109) ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)) وفي الحديث الذي رواه أبو داود بسنده عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه وأرضاه- عن أبيه قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء)) وفي (الشعب) للبيهقي الحديث عن سعد بن مالك مرفوعًا: ((إن هذا القرآن نزل بحزن وكآبة، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)).
ولذا قال الغزالي رحمه الله: البكاء مستحب مع القراءة وعندها، فذلك أمر مطلوب. وأيضًا كي لا نتحامل على شيخنا الرافعي، فإن نستطيع أن نقول: إن