الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مزايا النظم وفساده
وننتقل الآن إلى نقطة في غاية الأهمية تتعلق بمزايا النظم وفساده.
ابتداءً ينص عبد القاهر الجرجاني رحمه الله على أن مزايا النظم ترجع إلى اختيار المعاني، يقول عبد القاهر الجرجاني: فَصْلٌ: في أن هذه المزايا في النظم بحسب المعاني والأغراض التي تؤم. يعني: أن عبد القاهر نص نصًّا صريحًا أن فساد النظم أو القول بحسنه وارتقائه مرتبطٌ بالمعاني التي تؤم، والأغراض التي بعبر عنها. هذا ابتداء.
وقام عبد القاهر رحمه الله بسرد شواهد على فساد النظم، وبذكر أشياء يعرَف بها مزايا النظم، فذلك يدفعنا إلى أن نتساءل أولًا قبل الحديث على المزايا والفساد: هل القضية في النظم هي قضية النحو؟ بمعنى: هل النظم هو معرفة قواعد اللغة العربية؟ سؤال آخر: هل يتطلب النظم معرفة سابقة بقواعد النحو؟
الواقع أن عبد القاهر الجرجاني لا يقصد بكلامه هذا أن النظم هو أن تكون عالمًا أو عارفًا باللغة العربية، فذلك ما وضَّحه عبد القاهر بأنه شُبهة، وأراد أن يرد عليها وأن يبينها في كتابه، ونص عليها نصًّا صريحًا، فيقول في (دلائل الإعجاز): واعلم أنَّا لم نوجب المزية من أجل العلم بأنفس الفروق والوجوه، فنستند إلى اللغة، ولكن أوجبناها للعلم بمواضعها، وما ينبغي أن يُصنَع فيها، فليس الفضل للعلم بأن الواو للجمع، والفاء للتعقيب بغير تراخٍ، وثم له بشرط التراخي، وإن لكذا، وإذا لكذا، ولكن لأن يتأتَّى لك إذا نظمت شعرًا وألفت رسالةً، أن تحسن التخير، وأن تعرف لكل من ذلك موضعًا.
ويقول أيضًا: وأمر آخر إذا تأمله الإنسان أنف من حكاية هذا القول، فضلًا عن اعتقاده -يعني: فضلًا عن أن يعتقد أن قضية النظم هي معرفة النحو-
يقول: هو أن المزية لو كانت تجب من أجل اللغة والعلم بأوضاعها وما أراده الواضع فيها، لكان ينبغي ألا تجب إلا بمثل الفرق بين الفاء وثم وإن وإذا، وما أشبه ذلك، مما يعبر عنه وضع لغوي، فكانت لا تجب في الفصل، وتَرْك العطف، وبالحذف، والتكرار، والتقديم والتأخير، وسائر ما هو هيئة يحدِثها لك التأليف، ويقتضيها الغرض الذي تؤم، والمعنى الذي تقصد، وكان ينبغي أن لا تجد المزية بما يبتدئ الشاعر والخطيب في كلامه من استعارة اللفظ بالشيء لم يُستَعَرْ له، وأن لا تكون الفضيلة إلا في استعارة قد تُعارِفت في كلام العرب، وكفَى بذلك جهلًا.
فهذا نص صريح من الجرجاني على أنه لا يقصد بكلامه أن تكون عارفًا فقط بقواعد اللغة العربية، وبالفروق التي نص عليها علماء النحو، ولكن القضية في توظيف هذه الأشياء في كلامك.
وأما السؤال الآخر: وهو هل يتطلب النظم معرفة سابقة بقواعد النحو؟
هذا أيضًا يُجاب عنه ببساطة: بأن شعراء الجاهلية -مثلًا- صاغوا شعرهم ولم يكن عندهم المصطلحات النحوية التي ذكرها علماء اللغة وعلماء النحو، وهذا مثال جليل واضح من فعل الأعرابي عندما سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدًا رسولَ الله، بنصب لفظ "رسول" صنَعَ ماذا؟ أي: أنه بحاسة اللغوية أدرك أن النظم على هذا النحو لا يستقيم؛ لأن الكلام لم يفِد، دون أن يعرف التعليل الاصطلاحي الذي يقوله النحويون في هذا الشأن، وهو أن رسولَ بالنصب تكون عطف بيان أو بدلًا من محمد، والبيان والبدل هما المبين والمبدل منه، وذلك يعني أن المعنى لم يكتمل، فأما في حالة رفع كلمة رسول فإنها تكون خبر أنَّ، ويتم المعنى. الأعرابي لا يعرف ذلك التعليل، ولكنه علمه بحاسته. وكذلك من صاغوا
شعرهم قبل أن تقعد قواعد اللغة، وتكون عِلمًا يعرف بهذه الصورة، صاغوا أشعارهم وأُخِذت عنهم اللغة، وكان ذلك دون معرفة بالمصطلحات النحوية.
فإذًا القضية التي يجب أن ننبه عليها بأن مقصدنا بالمزايا والفساد في الاستخدام النحوي، هو التخير، وهو تفضيل معنًى نحوي عن آخر في استخدامه لا مجرد العلم بقواعد اللغة، فإنه مِن البديهي أنه لن يخرج لنا أحد تراثًا أدبيًّا وهو لا يعرف لغة العرب، ويعتد بكلامه، فنأخذ عنه لغته، ذلك أمر معروف أنه مَن أراد أن يكتب شعرًا أو نثرًا أو إلى ذلك، لا بد أن يتخطى أولًا مرحلة تعلم اللغة العربية.
بيان هذه المزايا التي أشار إليها الجرجاني في النظم، وضربَ نماذجَ لها:
يبين عبد القاهر أن فساد النظم له شواهد اتفق الجميع على بيانها؛ بسبب الخلل في قواعد اللغة في التقديم والتأخير، والذكر والحذف، إلى غير ذلك، وضرب أمثلةً بأنهم لم يخالفوا على نقد قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملَّكًا
…
أبو أمه حي أبوه يقاربه
وقول المتنبي:
الطيب أنت إذا أصابك طيبُه
…
والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
وقوله أيضًا:
وفاؤكما كالرَّبع أشجاهُ طاسِمُه
…
بأن تُسعِدا والدَّمعُ أشفاه ساجمُه
فنظائر ذلك مما وصفوه بالفساد، وعابوه من جهة سوء التأليف، أن الفساد والخلل كان من تعاطي الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير صواب، وصنع من تقديم وتأخير أو حذف وإضمار، أو غير ذلك مما ليس له أن يصنعه، وما لا
يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم. وإذا ثبت ذلك، فإن سبب فساد النظم واختلاله ألا يعمل بقوانين هذا الشأن، ثبت أن سبب صحته أن يعمل عليها.
بيان نماذج رائعة عددها الجرجاني على مزايا النظم، وكلها في كتاب الله سبحانه وتعالى:
من النماذج التي تعرَّض لها الجرجاني ببيان روعة النظم، نضرب مثالًا بالتقديم والتأخير، وآخرَ للتنكير، لأن المسائل الأخرى سنتحدث عنها تفصيلًا، وكل في موضعه.
من مثال التقديم والتأخير عرض بقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} (الأنعام: 100) فيقول هنا بتقديم المفعول الثاني وتأخير المفعول الأول في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} على أن: {شُرَكَاءَ} مفعول أول للفعل جَعَلَ، وشبه الجملة هو المفعول الثاني لهذا الفعل. فيبين الجرجاني في هذه الآية الكريمة كيف كان للتقديم والتأخير أثرٌ عظيم، غير أن يقال: وجعلوا الجن شركاءَ لله، فإنه لو قُدِّم:{الْجِنَّ} على المفعول الأول، لربما توهم متوهم أن الإنكار على جعل:{الْجِنَّ} شركاءَ دون غيرهم، فإذا ما كان غيرهم جاز أن يكون هناك شريك -حاشا لله، والعياذ بالله من فهم مثل هذا المعنى- فأفاد التقديمُ والتأخيرُ صرف هذا المعنى كليةً، فإن الإنكار على جعلهم لله شركاء، سواء كان الجن أو غيرهم، فالجن منفصلة عن المفعولين.
ويؤكد أو يؤيد ما ذهب إليه الجرجاني في بيان هذه الآية أنه قرئ في الشواذ "الجنُّ" بالرفع، أي: هم الجن.
هذا مثال ضربه الجرجاني، وعندك في (دلائل الإعجاز) آيات عديدة بين فيها الجرجاني قضية النظم.
ومثال التنكير ذكره في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 179) فما أروعَ التنكيرَ في استخدام كلمة {حَيَاةٌ} ولم يقل "الحياة" فإنها لا تشمل الجميع، وإنما تشمل من تعلق بأمر القصاص بأنه يخرج من الحذر الذي يظهر في سياق الآية.
وكذلك هناك نماذج كثيرة ضربها الجرجاني في النظم لاختيار لفظ دون الآخر، كاختيار الموصول في قوله تعالى:{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} (يوسف: 23) وبدلًا مِن: "وروادته امرأة العزيز" أو: "وراودته امرأة الذي اشتراه من مصر" أو غير ذلك. وإنما عبر هنا بالذي: {هُوَ فِي بَيْتِهَا} تعبير بالموصول وصلته له فائدة لا يعطيها التعبير بالاسم الصريح.
إلى غير ذلك من النماذج التي اهتم العلماء ببيانها والكلام عنها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.