الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الحادي عشر
(تابع: القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز)
الإعجاز في تنوع أوجه القراءات فيما يتعلق ببعض مسائل الاعتقاد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبعد:
نتناول الإعجاز في تنوع أوجه القراءات القرآنية:
هذا الإعجاز الذي شمل جميعَ أركان الشريعة الإسلامية من عبادات وعقائد، وما يتعلق أيضًا من اجتهادات في المجالات اللغوية والبيانية.
نبدأ في حديثنا عن الإعجاز في تنوع أوجه القراءات فيما يتعلق ببعض مسائل الاعتقاد كجانب تطبيقي.
مطلب أفعال العباد:
هذه المسألة التي كثر فيها الكلام عند المتكلمين، نجد من القراءات المتواترة العشرية التي ثبتت ما يساعدنا على الحسم في هذه المسائل، أو بيان إعجاز القرآن منها. وذلك مثل قوله تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (الأعراف: 142) وقوله عز وجل: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} (طه: 80).
فهذه الآيات قرئت تواترًا: "واعدنا ووعدنا"، "واعدنا" بألف بعد الواو، "وواعدنا" دون ألف، وقراءة "وَعَدْنا" دون الألف في الفعل هذه القراءة صريحة في أن الفعل فِعلُ الله سبحانه وتعالى فالوعد منه ابتداءً، والقراءة الأخرى:"واعدنا" دلت على نسبة الأفعال إلى العباد على سبيل المجاز، فكأن موسى عليه السلام في اشتياق إلى لقاء المولى سبحانه وتعالى ومن ثَم كان إثبات الأفعال مجازًا أو على سبيل المجاز إلى العباد مع أن الله سبحانه وتعالى هو صاحب الفعل على الحقيقة، وهو سبحانه وتعالى الذي ابتدأ بوعد موسى عليه السلام وبإتمام هذا.
وكذلك عندنا قراءة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} (غافر: 37) قرئت: "وصد على السبيل" بالبناء بما لم يسم فاعله، أو بالبناء للمجهول، وقرئ:"وصد عن السبيل" بالبناء للمعلوم. وقيل: القراءتان قرئت تواترًا. وهذه القراءة - بالبناء للمفعول: "صُد عن السبيل" إخبار من الله سبحانه وتعالى عن انحراف فرعون وفجوره، وأن الله سبحانه وتعالى صَدَّ هذا الطاغية عن سبيل الحق، وعن طريق الهداية؛ لما بدر منه، وبما كان من تعنته، وبما كان من ادعائه الألوهية والربوبية، وما برز منه تجاه المولى سبحانه وتعالى. فجاءت القراءة الأخرى:"وصَد عن السبيل" بالبناء للمعلوم، بنسبة الفعل إلى فرعون؛ لأنه هو الذي فعل هذا الصد، فأفادت القراءة أن الأفعال للمولى سبحانه وتعالى وأنه قد تُنسب إلى العباد على سبيل المجاز، مع أن الله سبحانه وتعالى هو المالك المتصرف في خلقه كما يشاء.
مطلب آخر في مسائل الاعتقاد هذا المطلب ما يتعلق بالنبوات:
فالأنبياء هم أكرم خلق الله سبحانه وتعالى والأنبياء هم المعصومون المبرءون الذين اختارهم الله من صفوة خلقه؛ لكي يبلغوا رسالة ربهم، فالنبي يُعتقد فيه الكمال ويعتقد فيه أنه مرسل من الله سبحانه وتعالى مبرئًا من العيوب أو ما يشينه. فكانت القراءات في موضع من المواضع وفي بعض القراءات ما يؤكد هذا المعنى بما يختص به رسل الله سبحانه وتعالى قال المولى سبحانه وتعالى:{وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (التكوير: 24) فقرئت تواترًا: {بِضَنِينٍ} وقرئت: "بظنيين" أي: بالضاد وبالظاء، والمعنى يختلف على القراءتين، ولكنه ينصب في عِصمة الأنبياء، وفي بيان قدر الأنبياء المكرمين، فما هو على الغيب بضنين، أي: ببخيل.
فإن الرسول الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- لم يسأل المشركين أجرًا على ما أخبرهم به، ولم يبخل عليهم بما عنده من علم -فصلوات الله وسلامه عليه- كان يرغبهم في الجنة ويحذرهم من النار، ويدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهار، ومع ذلك لم يطلب منهم شيئًا:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الأنعام: 90) فكان ذلك علامة على صدق نبوته، بأنه لم يبخل عليهم بالعلم كعادة الكهان الذين كانوا لا يقدمون الخبر، أو لا يفيدون بالنبأ، إلا إذا أخذوا في المقابل أجرًا، وهو ما يسمى بالحلوان أو حلوان الكاهن.
والقراءة الأخرى: "وما هو على الغيب بظنيين" أي: بمتهم أنه صلى الله عليه وسلم ليس بمتهم فيما يخبِر به عن ربه سبحانه وتعالى فهو الصادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- يخبر بما أخبر به ربه سبحانه وتعالى وعلى القراءتين يتضح كمال عصمة الأنبياء.
كذلك عندنا أيضًا في القراءات ما يساعد وما يبين مسائل تتعلق بالسمعيات، أي: الغيبيات التي أخبر المولى سبحانه وتعالى. من ذلك: أمر الملائكة، فهؤلاء الملائكة المكرمون عباد الله الذين:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) هذه الملائكة نجد من القراءات ما يبين قدرَ هؤلاء الملائكة الكِرام، كقوله تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (الزخرف: 19) فقرئت: {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} جمع عبد، وقرئت:"عند الرحمن" وعند ظرف كما هو معلوم. فهاتان القراءتان بينت منزلة الملائكة الكرام عند الله سبحانه وتعالى فالقراءة على العندية بمعنى الظرف: أنهم مكرمون عند ربهم سبحانه وتعالى وأنهم لا يعصونه فيما يأمر به، فهذه العندية عنديةُ الفضل والقرب من الله تعالى؛ بسبب الطاعة.