الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استئناف الإثبات، احتيج إلى ما يربط الجملة الثانية بالأولى؛ فجيء بالواو كما جيء بها في قولك:"زيد منطلق وعمرو ذاهب" و"العلم حسن والجهل قبيح".
ويقول: "وتسميتنا لها واو الحال لا يخرجها عن أن تكون مجتلبة لضم جملة إلى جملة" فبين بذلك رحمه الله أن لا يكون الربط بالواو، وعدم الربط إلا لغرض إعجازي، وغرض بلاغي، وهذا ما تستطيع أن تستنتجه مما ذكرنا من آيات في مجيء الحال والربط بالواو فيها.
الفروق في استخدام الأفعال بأزمنتها المختلفة
وننتقل الآن إلى ذكر الفروق في استخدام الأفعال بأزمنتها الثلاثة المختلفة، كما تعلم أنّ الفِعْلَ لا يخرج عن أحد أزمنة ثلاث: إما أن يكون ماضيًا أو يكون حاليًا أو يكون مستقبلًا، وهذه القسمة نجدها في كتاب الله سبحانه وتعالى {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} (مريم: 64) "فما بين أيدينا" هو المستقبل، و"ما خلفنا" هو الماضي، وما بين ذلك هو الحاضر؛ فهذه قسمة معلومة.
وقد اهتم النحاة ببيان الكلام عن أزمنة الثلاثة للفعل، وبيان تناوبها في الاستخدام، بمعنى: أن الماضي قد يدل على المستقبل بدلالة السياق أو بالقرائن، وأن المضارع ينقلب إلى الماضي إذا ما سبقته لم، وأن الأمر يدل على الاستقبال، وقد يدل على الاستمرار؛ كما نقول في سورة الفاتحة {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم} (الفاتحة: 6) فإننا نطلب الثبات والدوام على الهداية، ولا ننشئ الهداية؛ فإنك أيها الابن العزيز لو لم تكن مهتديًا ما وقفت بين يدي الله عز وجل تصلي له وتتعبد.
وأيضًا نبهوا على عملية الماضي أنه يأتي على المستقبل بقرينة المعنى، كقول أخوة يوسف عليه السلام {فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} (يوسف: 63) فقولهم: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} لو أخذ على ظاهره لكان اتهامًا لهم بالكذب؛ لأنّ يوسف عليه السلام، وفاهم الكيل وأحسن إليهم وطالبهم بأن يعودوا له بأخ له من أبيه فإنما قالوا:{مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} على معنى "سيمنع منا الكيل إن لم تعطنا أخانا" وذلك واضح بدلالة السياق.
هذا كله تمهيد لما نحن بصدده، أو بالكلام عنه أنّ البلاغي يهتم في هذه المسألةباستخدام الفعل بصيغة غير التي وضع لها في الأساس، أو بمعنى آخر العدول من صيغة إلى صيغة؛ بأن يقع الماضي بين مضارعين، أو أن يراد بالماضي المضارعة، أو أن يراد بالمضارع الماضي وعكس ذلك.
وهذا ما أشار إليه ابن الأثير في كتابه (المثل السائر) ووضح المسألة وعد ذلك من الالتفات، وذكر أنه من شجاعة العربية، وضرب أمثلة جميلة لك أن تتأملها لترى ما فيها من إبداع وإعجاز في النظم القرآني. يقول:"ليس الانتقال من صيغة إلى صيغة طلبًا للتوسع في أساليب الكلام فقط؛ بل لأمر وراء ذلك، وإنّما يُقصد إليه تعظيمًا لحال من أجرى عليه الفعل المُستقبل، وتفخيمًا لأمره، وبالضد في ذلك فيما أجرى عليه فعل الأمر".
فهو هنا يتحدث عن الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر، وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر؛ فيرى أن ذلك لا يكون إلا لغرض بلاغي فمما جاء منه قوله تعالى:{يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين * إِن نَّقُولُ إِلَاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون} (هود: 44 - 54).
فقال هود عليه السلام: {أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ} ولم يقل: "أشهد الله وأشهدكم" ليكون موازنًا وبمعناه؛ لأن إشهاده الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم، ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم؛ ولذلك عدل به عن اللفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه يقول له:"اشهد علي أنك أحبك" تهكمًا به واستهانة بحاله.
فهو هنا يريد أن يقول لك: أن اختلاف الصيغة كان لأمر واضح يتعلق بالمعنى؛ فلم يأت موازنًا على المضارعة، وإنّما عُدِلَ إلى الأمر؛ لبيان قلة المبالاة بأمر هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى.
يقول: وكذلك يرجع عن الفعل الماضي إلى فعل الأمر، ويفعل ذلك توكيدًا لما أجري عليه فعل الأمر؛ لمكان العناية بتحقيقه كقوله تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} كأنّ تقديرَ الكلام "أمر ربي بالقسط وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد" فعُدل عن ذلك إلى فعل الأمر للعناية بتوكيده في نفوسهم؛ فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده، ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عمل القلب؛ إذ عمل الجوارح لا يصح إلا بإخلاص النية؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((الأعمال بالنيات)).
فابن الأثير هنا يبين لك العدول عن صيغة إلى صيغة أخرى لغرض يتصل بالمعنى، ويقُول عبارة جميلة: "واعلم أيها المتوشح بمعرفة علم البيان؛ أن العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلك، وهو لا يتوخاها في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة،
الذي اطلع على أسرارها، وفتش عن دفائنها، ولا تجد ذلك في كل كلام؛ فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقها فهمًا، وأغمضها طريقًا". وذلك يوضح أن النظر في استخدام الأفعال إنّما ذلك يكون عن حسن فهم وتذوق لكلام الله سبحانه وتعالى.
ينتقل بعد ذلك بالكلام عن الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي؛ يقول:"اعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل، كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذلك لأنّ الفِعْل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها، ويستحضر تلك الصورة حتى كأنّ السّامِعَ يُشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي، ورُبّما أُدخل في هذا الموضع ما ليس منه جهلًا بمكانه، فعنده ليس كل فعل مستقبل يعطف على ماض بجار هذا المجري".
يعني: يريد أن ينبهك إلى أن استخدام الماضي والمستقبل كل منهما محل الآخر، هذا يكون لغرض يريده المتحدث هذا الغرض أحد غرضين: إما أن يكون غرضًا بلاغيًّا أو غرضًا غير بلاغي؛ فمن الأغراض البلاغية التي تُحتاج في هذا الجانب هو إخبار عن ماض بمستقبل لإبراز صورة معينة يريدها المتحدث، من ذلك قوله سبحانه وتعالى:{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُور} (فاطر: 9).
فإنما قال سبحانه وتعالى: "فتثير" مستقبلًا وما قبله وما بعده ماض "أرسل""فسقنا" أفعال ماضية وتثير فعلًا مضارعًا، لذلك المعنى المُراد وهو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب، واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة.
وانظر أيضا لقوله تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق} (الحج: 31) فقال سبحانه وتعالى أولًا: {خَرَّ مِنَ السَّمَاء} بلفظ الماضي، ثم عطف عليه بالمستقبل الذي هو:{فَتَخْطَفُهُ} و {تَهْوِي} وعدل في ذلك إلى المستقبل لاستحضار صورة خطف الطير إياه، وهوي الريح به والفائدة في ذلك هو: استحضار الصورة عند قراءة الآية الكريمة. فلم يقل سبحانه وتعالى: "خر فخطفته فهوت" وإنما: {فَتَخْطَفُهُ} {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} .
كذلك في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} "كفروا، وصدوا" لا {كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ} لماذا؟ لأن كفرهم كان ووجد، ولم يستجدوا بعده كفرًا ثانيًا أما الصد؛ فهو متجدد على الأيام لم يمض كونه، وإنما هو مستمر يستأنف في كل حين.
ومقابل ذلك الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل؛ فهو عكس ما تقدم وله فائدة: أنّ الفعل الماضي إذا أُخبر به عن الفعل المُستقبل الذي لم يوجد بعد كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده؛ لأنّ الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد، وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها.
انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ} (النمل: 87) فإنما قال سبحانه وتعالى: {فَفَزِعَ} بلفظ الماضي بعد قوله: {يُنفَخُ} وهو بلفظ المستقبل للإشعار بتحقيق الفزع، وأنه كائن لا محالة؛ لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعًا به.