الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الرابع عشر
(قضية الذِّكْر والحذف)
المسند إليه، ودواعي وأغراض ذكره
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وبعد:
قضية الذكر والحذف، وهما ظاهرتان من ظواهر اللغة العربية، وظاهرتان من الظواهر التي اهتم العلماء ببيانها في مسألة النظم -التي سبق وأن تحدثنا عنها-.
قضية الذكر والحذف قضية بلاغية نحوية، اهتم بها علماء البلاغة واهتم بها علماء النحو، فهي قضية لغوية هامة. الحذف على سبيل المثال أعده سيبويه ضربًا من ضروب الاتساع في اللغة، وعده ابن جني بابًا من شجاعة العربية كما أطلق عليه. وكذلك اهتم أهل البلاغة بهاتين الظاهرتين، فتحدث عنهما الجرجاني وكذا طبَّقَ الزمخشري في كتابه (الكشاف) على هاتين الظاهرتين تطبيقًا عمليًّا، وكذلك المتأخرون من النحاة والبلاغيين كابن هشام والسكاكي، أسهبوا في بيان هذه الظواهر التي نتناولها ونتحدث عنها.
ومما يجدر أن ننبه عليه ابتداءً أن حَصْرَ أغراض الذكر أو الحذف ضربٌ من المستحيل؛ لماذا؟ لأن هذه الأغراض تتجدد بتجدد الخطاب، فغاية ما ننتهي إليه في درسنا هو ذكر أغراض تَنَبَّه لها مَن تنبه من أهل العلم، فذكروها في مصنفاتهم، وبعضها يؤخَذ في الاعتبار وبعضها يمكننا أن نرد عليه، فمعلوم ألا عصمة إلا لكتاب الله سبحانه وتعالى.
وكذلك أنبهك على أن الأغراض التي ذُكرت بعضها يعد ضربًا من التنظير والإعمال الذهني؛ لأنه لم يجد له العلماء مثالًا إلا أمثلةً مصطنعةً ذكروها -كما سأبين لك- وهي بعيدة عن روح النص وطبيعة الخطاب اللغوي الذي يتحدث به العرب في نظمهم؛ نثرًا كان أو شعرًا، فغاية ما ذكروه أمثلة مصطنعة كما ذكرت.
أيضًا أنبهك أن الأصل هو الذكر، ولا يعدل عن الذكر إلى الحذف إلا بقرينة، وأحيانًا يتعين الحذف.
كذلك أنبهك إلى أن هذا الدرس يدور حول ركيزتين أساسيتين؛ هما ركنا الإسناد والمتعلقات، وركنا الإسناد هما المسند والمسند إليه، ولكي أبسط هذه المعلومة أذكرك أو أعرفك -أو كما أنت تعرف- أن المسند هو الفعل أو الخبر، الفعل في الجملة الفعلية والخبر في الجملة الاسمية، والمسند إليه هو المبتدأ في الجملة الاسمية، والفاعل في الجملة الفعلية. أما المتعلقات فهو ما يُطلق عليه مكملات الجمل من مفعول، أو حال، أو أنواع المفاعيل على اختلاف ضروبها، أو تمييز أو صفة أو مضاف إليه، إلى غير ذلك مما ليس ركنًا من أركان الجملة.
وأيضًا أنبهك إلى أن هذا الدرس ينفرد فيه نَوْعٌ من أنواع المتعلقات باهتمام البلاغيين دون غيره، وهو المفعول به، فأفردوا أبوابًا؛ لبيان حذف المفعول به وما يتعلق به من أغراض، وهذا ما سننبه عليه أيضًا ونفرده على عادتهم. ومصدر ذلك ما فعله الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) عندما اهتم ببيان المفعول به، وصار على نهجه مَن صنَّفَ في هذا العلم.
بيان مسألة الذكر.
الذكر: هو ذِكْرُ المسند إليه أو ذكر المسند، أو ذكر المتعلق -كما ذكرت- فنبدأ ببيان اهتمامهم بهذه المسألة، وحديثهم عن الدواعي التي تؤدي إلى ضرورة ذكر المسند إليه، والمسند إليه -كما تعلم- هو المبتدأُ والفاعلُ.
ابتداءً الأصل هو ذكر المسند إليه، ولا يُعدل عنه إلى الحذف إلا لغرض بلاغي يرجحه على الذكر، ولذلك يقولون: إن الحذف يكون ممكنًا كالذكر، ولكن الذكر يرجحه لأغراض. يعني: يكون مرجحًا على الحذف لأغراض.
فأول هذه الأغراض التي ذكروها هي الاحتياط بضعف التعويل على القرينة. بمعنى: أن هناك قرينةً تدل على المسند إليه لو حذف، ولكن هذه القرينة إما أن تكون خفية وإما أن تكون مشتبهًا فيها، فالأولى أن يذكر المسند إليه في حديثك، ثم تمضي فترة حتى يطول عهد السامع به، فيذكر ثانيًا؛ لاحتمال غفلة السامع عنه بطول عهده به، أما الثاني فهو أن يذكر المسند إليه في حديث، ثم يحول مجرى الحديث في شأن غيره، فيذكر ثانيًا؛ لئلا يشتبه السامع في المحدث عنه أهو الأول أم الثاني؟ فقد ضعف التأويل على القرينة في الموضعين، فلذلك لا بد لك من أن تذكر المسند إليه.
مثال الأول: كأن تقول: شوقي نعم الشاعر، فتذكر المبتدأ -الذي هو شوقي- إذا سبق ذكر شوقي في حديث وطال به عهد السامع، أو ذُكر معه حديث في شأن غيره واشتبه الأمر على السامع.
هذا أول ما ذكروه من ضرورة ذكر المسند إليه.
كذلك ذكروا غرضًا ثانيًا وهو التنبيه على غباوة السامع، بمعنى: أن الذي تخاطبه لا يفهم إلا بالتصريح، فلذلك أنت تذكر المسند إليه كأن ترى امرأً غافلًا عن سماع القرآن، أو لاهيًا عنه، فتقول له: القرآن شفاء القلوب، تنبهه بذلك على أن ينتبه وأن يستمع، وأن القرآن فيه فائدة، فذكرته. ومن لطيف ذلك ما ذكر في كتاب الله سبحانه وتعالى في نبأ فرعون مع موسى عليه السلام فعندما خاطبه فرعون، وقال:{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} (طه: 49) قال له
موسى عليه السلام: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) فعندما سأله في الثانية: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى* قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} (طه: 51، 52) فنراه عليه السلام ذكر في الأولى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} أي: ذكر المسند إليه، وأما في الثانية حَذَفَ المسند إليه، فقال:{عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} لم يقل: القرون الأولى علمها عند ربي في كتاب؛ لأن هذه المسألة ربما تُجهل على فرعون، فأراد المبادرة ببيانها.
أما الأولى فهو سؤال أحمق من رجل متكبر عاتٍ يقول: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} فذكر موسى عليه السلام المولى سبحانه وتعالى المسند إليه فقال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ذكره؛ تنبيهًا له على أن هذا السؤال ينبغي أن لا يسأل؛ لأن الرب سبحانه وتعالى هو خالق جميع المخلوقات التي أنت منها أيها المتكبر العاتي.
كذلك من الأغراض التي ذكروها في ذكر المسند إليه هي زيادة الإيضاح والتقرير، كما في قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (البقرة: 5) فقد جاءت هذه الآية بيانًا لمنزلة المتقين عند الله عقب وصف خصالهم الحميدة التي تميزوا بها في الآيتين السابقتين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: 3، 4) فكان تكرير اسم الإشارة: {أُولَئِكَ} الواقع مسندًا إليه لتقرير هذه المنزلة، وإظهار مزيد العناية بشأن المشار إليهم.
من الأغراض أيضًا التي ذكروها لذكر المسند إليه هو تقرير الخبر والفعل في صورة بينة واضحة، كما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الرعد: 5) فتجد المسند إليه يتكرر مع كل حكم، وكان من الممكن أن يرد الكلام على طريق الحذف، ولكنه قصد إلى تقرير هذه الأخبار وإذاعتها عنهم، فهم كفروا بربهم، وهم الذين وُضِعت الأغلال في أعناقهم، وهم أصحاب النار، وكأن هذه الإعادة جعلت كل جملة كأنها مستقلة بنوع من العقوبة الصارمة، وهي ضروب من العذاب يستقل بعضها عن بعض، وفي ذلك نهاية الغضب والوعيد.
كذلك قد يُذكر المسند إليه؛ تفاديًا من ذكر الضمير الذي يربط الجملة بالكلام السابق؛ لأن القصد إلى استقلالها لتصير كأنها مثلٌ، كقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (الحج: 61، 62) انظر إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} وقوله سبحانه: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} تجد المسند إليه قد ذُكر مع أنه يمكن إقامة الضمير مقامه للغرض الذي قلناه، وهذا الأسلوب يكثر في فواصل الآيات كما يكثر في الجمل المستأنفة، سواء كان استئنافًا بلاغيًّا أم استئنافًا نحويًّا.
ومن الأغراض التي أشار إليها البلاغيون أيضًا في ذكر المسند إليه إرادة بَسْط الكلام وإطالته حتى يكون إصغاء السامع مطلوبًا للمتكلم لخطر مقامه. هذا من الأمثلة التي نبها عليها اللغويون وذكروها، واستشهدوا لها بقصة موسى عليه السلام مع المولى سبحانه وتعالى في هذا الحوار الذي دار بينهما في قوله سبحانه:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (طه: 17) فقال موسى عليه السلام: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} (طه: 18) كان يمكنه عليه السلام أن يقول: عصا أو عصاي، بدون ذكر الضمير؛ لأنه مفهوم من
السؤال، إلا أن موسى أراد بسط الحديث؛ حبًّا في إطالة الكلام في حضرة الذات العلية، وأي مقام أدعى إلى بسط الكلام فيه كهذا المقام!! ولهذا لم يكتفِ موسى عليه السلام بذكر المسند إليه، بل أعقب ذلك بذكر أوصاف لم يُسأل عنها، فقال:{أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} .
وبعض الباحثين نظر في هذا الكلام، وزاد عليه لطيفة أخرى، فقال: نرى أن ثمة دلالة أخرى من وراء ذكر المسند إليه في الآية، ولعلها تكون أهمَّ وأولى بالالتفات إليها؛ لائتلافها مع السياق، فالسياق يدل على سيطرة الرهبة والخوف على موسى عليه السلام من مواجهة سحرة فرعون البارعين في فنهم، فأراد الله عز وجل أن يطمئنه، وأن ينزع الخوف من قلبه، وأن يثبته على اليقين ببرهان مادي، فسأله سؤالًا مباشرًا عن ماهية ما بيده، فأجاب مؤكدًا طبيعتها:{هِيَ عَصَايَ} ثم أضاف وظائفَ لها من شأنها أن تزيد هذه الطبيعة جلاءً، فلما أمره بإلقائه تحولت في طرفة عين إلى حية تسعى، فكان ذلك أظهرَ دليلٍ على بطلان القانون السائد؛ إذ أحالها إلى مخلوق حي من جنس مختلف كل الاختلاف عن ماهيتها الأولى.
وتلك آية الألوهية ومعجزة النبوة، فليهدأ بالًا، وليثق في تأييد الله له، ووقوفه إلى جانبه، ولذلك حين راعه هذا التحول المذهل في العصا، جاء الخطاب الإلهي:{قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} (طه: 21).
هذه الأغراض التي ذكرت في ذكر المسند إليه، وأهمها بيانًا مع ورودها في القرآن، قلنا: زيادة الإيضاح والتقرير، وكذلك بسط الكلام وإطالته، والتعريض بغباوة السامع، وهناك أغراض أخرى ذكرت كقولهم: إظهار تعظيم المخاطب وتفخيمه، أو إظهار التحقير والتهوين من الشأن، أو التبرك والتيمن بذكر المسند إليه، أو التلذذ به، وكذلك التعجب منه، وكذلك التسجيل على السامع بين يدي القاضي؛ حتى لا يكون أمامه سبيل إلى الإنكار.