الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس
(تابع: الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن)
حركات الحروف وأثرها على السمع في القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ وبعد:
كنا قد انتهينا إلى الكلام عن التماثل في الحروف، وضربنا له مثالًا للفواصل التي تُظهر ذلك التماثل، وانتهينا في كلامنا إلى أن القرآن كان يُلاحَظ في فواصله أنها تنتهي بحروف المد:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (النجم: 1 - 3) تنتهي بحرف الميم حرف النون، وتناوب في سورة الفاتحة، وهذه الظاهرة التي تحدث عنها الرافعي وأشار إليها، وأن العرب تنبهوا إلى ذلك وقالوه أيضًا في ختام فواصل القرآن الكريم.
بقي أن نشير إلى أن هذه الفواصل إذا تأملتها تجدها إما متماثلة وإما متقاربة؛ بمعنى أنها تنتهي بحرف واحد، وهذا يظهر جليّا في قصار السور، كأن تنتهي بالراء:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (الكوثر: 1 - 3)، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 1 - 3)، أو بالدال:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (الإخلاص)، أو بالسين:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس)، بل قد يتكرر الحرف المتماثل في بعض السور ما فوق القصيرة ولكن ليست من السور الطوال، كسورة القمر تنتهي بحرف الراء، وقد تكون الفاصلة متقاربة؛ أي أنها تأتي بين حرفين من مخرج حرف قريب مع أخيه، كسورة الفاتحة بين الميم والنون، سورة ق بين الباء والدال، وهكذا.
وأيضا الناظر في الفواصل، يجد أن فواصل القرآن الكريم إما أن تتفق في الوزن الصرفي والحرف، كقوله تعالى:{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} (الغاشية: 13، 14)، أو تتفق في الوزن الصرفي دون الحرف كقوله تعالى:{وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} (الغاشية: 15، 16) الفاء والثاء، أو تتفق في الحرف دون الوزن الصرفي كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْوَارًا} (نوح: 13، 14) هذا ما تنبه إليه البعض في قضية الفواصل واستخدامها وأثرها الصوتي، باعتبار أن الفاصلة في القرآن الكريم تساوي القافية في الشعر أو ما يختتم به الحرف في سجع العرب في كلامهم، فأتت فواصل القرآن الكريم بطريقة تأسر الأسماع وتستولي على القلوب وتستقطب العقول، فكان بها وجه إعجازٍ، لا يخفى على من له ذوق في العربية ويتذوق كلام العرب.
بقي في هذا الموضوع نقطتان:
النقطة الأولى: هي حركات الحروف: الحركات التي تأتي على الحرف؛ ما بين ضم وفتح وكسر، هذه الحركات لها دورٌ بارز في إعجاز القرآن الكريم، هناك مسألة سنتعرض لها -إن شاء الله- بعد ذلك وهي تأثير الضبط في توجيه القراءات القرآنية، وهذا موضوع لنا فيه حديث -إن شاء الله- سبحانه وتعالى، أما كلامنا الآن فهو حول تأثير الحرف على السمع باعتبار ذلك جرس القرآن الكريم؛ أي صوته الذي تسمعه وتتأثر به.
ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة، فيهيئ بعضها لبعض، ويساند بعضًا، ولكن لن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف مساوقة لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعزب ولا تساغ، وربما كانت أوكس النصيبين في حظ الكلام من الحرف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنًا عجيبًا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد انتهجت لها طريقة في اللسان، واكتنفتها بدروب من النغم الموسيقي، حتى إذا خرجت فيه كانت أعزب شيء وأرقه وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى
الحركات بالخفة والروعة، هذا نظرك عامة في الحركات وأثرها، هذا تعبير الرافعي رحمه الله عن دور الحركات، ولكن قبل أن أذكر لك موضع استشهاده على هذه المسألة وقصة الضبط والحركة وهناك مواضع أخرى نذكرها -إن شاء الله-؛ أريدك -أيها الابن الحبيب- أن تسمع معي هذه الرائعة التي ذكرها الدكتور عبد الله دراز رحمه الله في وصف هذه المسألة وهي "الحركات وأثرها على السمع" وأنت تسمع القرآن الكريم:
يقول: أول ما يلاقيك ويستدعي انتباهك من أسلوب القرآن الكريم خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره، دع القارئ المجوّد يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله، نازلًا بنفسه على هوى القرآن، وليس نازلًا بالقرآن على هوى نفسه، ثم انتبذ منه مكانا قصيّا لا تسمع فيه جرس حروفه، ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومادّاتها وغناتها، واتصالاتها وسكتاتها، ثم ألقي سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وقد جُردت تجريدًا، وأرسلت سابحة في الهواء- فستجد نفسك منها بإذاء لحن غريب عجيب لا تجده في كلام آخر، قد جُرّد هذا التجريد وجوّد هذا التجويد، ستجد اتساقا وائتلافًا يسترعي من سمعك ما تسترعيه الموسيقى والشعر، على أنه ليس بأنغام الموسيقى ولا بأوزان الشعر.
وستجد شيئًا آخر لا تجده في الموسيقى ولا في الشعر؛ ذلك أنك تسمع القصيدة من الشعر فإذا هي تتحد الأوزان فيها بيتًا بيتًا وشطرًا شطرًا، وتسمع القطعة من الموسيقى فإذا هي تتشابه أهواؤها وتذهب مذهبًا متقاربًا، فلا يلبث سمعك أن يمجها وطبعك أن يملها، فإذا أعيدت وكررت عليك بتوقيع واحد، بينما أنت من القرآن أبدًا في لحن متنوع متجدد؛ تنتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل على أوضاع مختلفة، يأخذ منها كل وتر من أوتار قلبك بنصيب سواء، فلا يعروك منه
على كثرة ترداده ملالة ولا سأم، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد، هذا الجمال التوقيعي في لغة القرآن لا يخفى على أحدٍ ممن يسمع القرآن، حتى الذين لا يعرفون لغة العرب، فكيف يخفى على العرب أنفسهم؟!
انظر -رحمك الله- لكلام الشيخ، هو يريد أن يصل بك إلى أن تقسيم الحركات والسكنات وضبط الحروف وهذه الحركات، أحدث في القرآن ما هو فوق ما يعرفه العرب في نظم أشعارهم؛ مما يسمى بالأسباب والأوتاد، أنت درست في مادة العروض تكوين أشعار العرب من فواصل "فاصلة صغرى وفاصلة كبرى" وهذه الفواصل تتكون من أوتاد وأسباب، وتد مجموع أو مفروق وسبب خفيف أو ثقيل، كما هو معروف في هذا العلم، الحركة يتبعها ساكن يطلق عليها سبب خفيف، إذا توالت حركتان يطلق عليها سبب ثقيل، إذا توالت حركتان تبعهما ساكن كانت وتد مجموع، إذا فصل بين متحركين ساكن كان وتدًا مفروقًا، إذا كانت مكونة من سببين ثقيل وخفيف كانت فاصلة صغرى، وإذا كانت مكونة من سبب ثقيل ووتد مجموع كانت فاصلة كبرى، هذا التكوين في أشعار العرب وفي كلامهم.
انظر إلى القرآن تجد بتقسيمه الحركات والسكنات فاق هذا الكلام الموزون الذي يحرصون كل الحرص على ضبط إيقاعه وعلى إخراجه، فقامت الحركات بهذا الدور الرائع في بيان اتساق ألفاظ القرآن ومفرداته وكلامه، حتى إنك أول شيء تحسه أو تشعر به أذنك في نظم القرآن هو ذلك النظام الصوتي البديع الذي قُسّمت فيه الحركة والسكون تقسيمًا منوعًا يجدد نشاط السامع لسماعه، ووزعت في تضاعيفه حروف المد والغنة توزيعًا بالقسط، يساعد على ترجيع الصوت به، وتهادي النفَس فيه آنًا بعد آن إلى أن يصل إلى الفاصلة الأخرى، فيجد عندها راحته العظمى، عندما تقف على رأس الآية، هذا لا تجده في أجود أشعار
العرب، فقد وقع في أجود نثرها وشعرها عيوب تقلل من سلاسة التركيب ولا يمكن معها إجادة الترتيل، فكان القرآن شاملًا على كل عظيم في الفنين أو في النوعين النثر والشعر، فكان له من النثر جلاله وروعته ومن الشعر جماله ومتعته.
هذا أثر الحركات التي تؤدي إلى ما سماه الشيخ دراز "الجمال التوقيعي في ألفاظ القرآن الكريم".
طبعًا الحركات وأثرها يبين لك بصورة واضحة في النقطة التالية التي نتحدث عنها:
إن هذه الحركات تؤدي لما يسمى بـ "النسق الصوتي" وهذا هو خلاصة ما تحدثنا فيه في درسنا الماضي وفي درسنا هذا؛ أن هذا التعاون والتكاتف بين الحروف، ما بين شكلها وما بين تلاؤمها وما بين أثرها وما بين تماثلها وحركاتها
…
إلى غير ذلك مما تحدثنا عنه، ينتج بنا في النهاية إلى موضع الكلام وهو "النسق الصوتي" أو ما يسميه بعض أهل العلم "الجرس القرآني" أي صوت القرآن، هذا النسق الذي تراه بيّنا رائعًا في كلمات القران وفي اختيارها، وهذا الذي اهتم العلماء ببيانه.
نرجع إلى أول لفظة وقف معها الرافعي وهي كلمة "النذر" في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} (القمر: 36) هذه الكلمة انظر إلى حركاتها؛ فإن الضمة ثقيلة لتواليها على النون والذال معًا "نذُر" فضلًا عن جزأت هذا الحرف ونبوه في اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام، فكل ذلك مما يكشف عنه ويُفسح عن موضع الثقل فيه، لكنه جاء في القرآن على العكس، وانتفى من طبيعته، يقصد أن هذا اللفظ نفسه لو نظرت إليه في قوله تعالى:{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} (القمر: 41) تجده ليس فيه الثقل الظاهر بهذا الوضع لما سبقه من حروف، أما في هذه الآية تجد جمالًا شديدًا باستخدامها