المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مسألة الحذف، ومزاياه، وأنواعه - الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مقدمة في وجوه الإعجاز

- ‌ماذا نعني بإعجاز القرآن

- ‌الفرق بين معجزة القرآن وسائر المعجزات

- ‌أوجه إعجاز القرآن

- ‌كيفية تحدي نبينا صلى الله عليه وسلم للعرب

- ‌الدرس: 2 تابع: مقدمة في وجوه الإعجاز - الصرفة، والإخبار بالغيبيات

- ‌لماذا نهتم بالإعجاز اللغوي في القرآن

- ‌ثمرة دراسة إعجاز القرآن

- ‌مسألة الصرفة

- ‌الإخبار عن الغيبيات

- ‌الدرس: 3 أوجه إعجاز القرآن الكريم: حفظ التشريع ودوامه

- ‌نظم القرآن

- ‌قدسية القرآن

- ‌الإعجاز اللغوي

- ‌الدرس: 4 الإعجاز العلمي، والعددي، والتصوير في القرآن الكريم

- ‌الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

- ‌الإعجاز العددي في القرآن الكريم

- ‌مسألة التصوير

- ‌الدرس: 5 الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن

- ‌مقدمة عن الحروف والأصوات كمظهر من مظاهر إعجاز القرآن

- ‌مظهر الإعجاز في الحروف وأصواتها

- ‌الدرس: 6 تابع: الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن

- ‌حركات الحروف وأثرها على السمع في القرآن الكريم

- ‌مظاهر النسق الصوتي في القرآن الكريم، والأمثلة التي تذكر له

- ‌الدرس: 7 حروف المعاني (1)

- ‌حروف العطف (الواو والفاء)

- ‌حروف العطف (ثم، أو، أم، بل، لكن، لا)

- ‌الدرس: 8 حروف المعاني (2)

- ‌حروف النداء

- ‌حروف النفي

- ‌حرفا الشرط: "إنْ" و"لو

- ‌حرفا الاستفهام "الهمزة" و"هل

- ‌الدرس: 9 حروف المعاني (3)

- ‌حروف التوكيد، وحروف الجر والقسم

- ‌كيف كان استخدام حروف المعاني وجهًا من وجوه الإعجاز اللغوي

- ‌الدرس: 10 القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز

- ‌القِراءة وطرق الأداء

- ‌وجوه القراءة

- ‌الكلام عن قراءة التلحين

- ‌لغة القرآن

- ‌مسألة الأحرف السبعة

- ‌الدرس: 11 تابع: القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز

- ‌الإعجاز في تنوع أوجه القراءات فيما يتعلق ببعض مسائل الاعتقاد

- ‌تنوع القراءات القرآنية من حيث الإعجاز التشريعي

- ‌الإعجاز البياني واللغوي في تنوع القراءات

- ‌القراءات وأثرها في: التوجيه البلاغي، وتنوع الأساليب

- ‌الدرس: 12 مفردات القرآن ووجه الإعجاز فيها

- ‌غريب القرآن أو غرائب القرآن

- ‌ظاهرة الألفاظ المعرضة

- ‌ظاهرة الوجوه والنظائر في القرآن الكريم

- ‌قضية الترادف

- ‌حروف المعجم أو ما يتعلق بالحروف المقطعة

- ‌الدرس: 13 قضية النظم

- ‌التطور الدلالي لمصطلح "النظم" وكيف تطور هذا اللفظ

- ‌معنى النظم عند عبد القاهر الجرجاني رحمه الله

- ‌مادة النظم هي العلاقة بين اللفظ والمعنى

- ‌مزايا النظم وفساده

- ‌الدرس: 14 قضية الذكر والحذف

- ‌المسند إليه، ودواعي وأغراض ذكره

- ‌المسند، ودواعي وأغراض ذكره

- ‌مسألة الحذف، ومزاياه، وأنواعه

- ‌الدرس: 15 تابع: قضية الذكر والحذف

- ‌استكمال أغراض حذف المسند إليه

- ‌أغراض حذف المسند

- ‌ما يتعلق بحذف المتعلقات، وحذف المفعول به

- ‌الدرس: 16 التوكيد في النظم القرآني

- ‌تعريف التوكيد، وأغراضه

- ‌صور وأساليب التوكيد

- ‌الدرس: 17 تابع: التوكيد في النظم القرآني - التكرار في القرآن الكريم

- ‌بعض أدوات وأساليب التوكيد المستخدمة في النظم القرآني

- ‌مسألة التكرير

- ‌الدرس: 18 تابع: التكرار في القرآن الكريم

- ‌نماذج تطبيقية على التكرار في القرآن الكريم

- ‌هل هناك زيادة في القرآن

- ‌الدرس: 19 موقف علماء الصرف والنحو من قضية الزيادة

- ‌الزيادة لدى علماء الصرف

- ‌الزيادة عند علماء النحو

- ‌الدرس: 20 الفصل والوصل

- ‌معنى الفصل والوصل عند النحاة والبلاغيين

- ‌مواضع الفصل والوصل

- ‌الدرس: 21 الفصل والوصل في القرآن

- ‌تعليق الدكتور محمد أبي موسى على مسألة الفصل والوصل في القرآن

- ‌الفروق في الاستخدامات، وما بها من إعجاز بياني في نظم القرآن

- ‌الغاية من دراسة الفروق في الحال

- ‌الدرس: 22 لمحات الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، وإحصاء الشيخ عضيمة

- ‌موازنة بين ما انتهى إليه الجرجاني وعضيمة في استخدام الحال

- ‌الفروق في استخدام الأفعال بأزمنتها المختلفة

- ‌استخدام الجملة الاسمية والفعلية

الفصل: ‌مسألة الحذف، ومزاياه، وأنواعه

‌مسألة الحذف، ومزاياه، وأنواعه

ننتقل إلى نقطة ثانية، وهي -كما يقال- لُب هذا الموضوع، وهي التي يكون فيها الحديث طويلًا؛ لأنها هي سِر البلاغة؛ لأنها خلاف الأصل وهي مسألة الحذف:

مسألةُ الحذفِ من المسائل التي توقف عندها العلماء، وبينوا أسرارها وجمالَها، واهتموا ببيانها، وما يدور حولها؛ لأنها -كما ذكرت لكم- من شجاعة العربية؛ ولأنها هي مجال التفاوت بين شاعر وغيره في نَظْمه وبين صاحب نص أدبي وغيره.

ولذلك هذا الباب صدَّر له الجرجاني بعبارة تدل على أهميته قائلًا: هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد بالإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانًا إذا لم تُبن.

فبين بذلك أنك إذا وقفتَ أمام الحذف تبين لك هذا السر الجميل في في الحذف، فتقف على موطن الجمال في النص الذي تقرأه؛ وأيضًا لأن الحذف عمومًا ضرب من الإيجاز، وكما قيل: البلاغة الإيجاز.

وهنا يجدر بنا في بداية حديثنا عن الحذف أن نذكر المزايا التي يحدثها الحذف في النص.

أَرْجَعَ الدكتور أبو موسى -حفظه الله- صور الحذف لمزايا ثلاث:

ص: 291

الأولى: هي الاختصار أو الإيجاز حتى لا يرِدَ علينا اعتراض ابن السبكي؛ لأن الاختصار هو الحذف، فكيف يكون مزية له.

والثانية: هي صيانة الجملة من الثقل والترهل اللذين يحدثان من ذكر ما تدل عليه القرينة.

والثالثة: هي إثارة الفكر والحِس بالتعويد على النفس في إدراك المعنى.

فبين بذلك مزايا الحذف الثلاثة. وفي النقطة الأولى هي مسألة نقاشية أو حوارية بالتفرقة بين لفظ الاختصار أو الإيجاز.

وبعد ذكر مزايا الحذف، ننبه أيضًا على أنواع الحذف:

انتهى العلماء إلى ذكر بعض ضروب الحذف، وهي ثلاثة: ضرب منها حذف الكلمة، والضرب الآخر: حذف الجملة، والضرب الثالث: حذف أكثر من جملة.

وهنا يجدر أن ننبه أيضًا إلى بحث دقيق أجراه الدكتور أبو موسى في كتابه (خصائص التراكيب) ذكر فيه أن البلاغيين تغافلوا عن حذف جزء الكلمة، أي: أنهم اهتموا ببيان الحذف في الكلمة أو الجمل، وتغافلوا عن الحديث عن حذف جزء الكلمة. وهناك فرق بين حذف الحرف وبين حذف جزء الكلمة؛ لماذا؟ لأن

ص: 292

حذف الحرف يدخل في باب حذف الكلمة؛ لأن الكلمة اسم وفعل وحرف، فإذا ما تحدثنا عن حذف الحروف فذلك يدخل فيما ذكروه من حذف الكلمة. أما الذي يقصد الحديث عنه الدكتور أبو موسى، فهو حَذْف جزء من الكلمة، وناقش هذه القضية، وعرَض لها نماذج فيها بيان علو قدره في هذا الباب -حفظه الله- واستدل لها بأشياء.

وفي نهاية حديثه ذكر عبارةً جميلةً، ينبغي على طالب العلم أن يضعها في ذهنه؛ لكي يعلم تواضع أهل العلم بعلمهم، وهي قوله:"وليس ثَمة كلام يجب قبوله والإذعان له إلا ما تجده بين دفتي المصحف وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عداهما فهو اجتهادات بشر غير معصومين، تأخذ منه ما تأخذ، وتدع منه ما تدع، في حدود الفهم، ولهذا خفت التبعة على الباحثين؛ لأنهم يقولون ما يعالجون في نفوسهم، وللقارئ أن يلقي به جملةً في ساحة الإهمال، وهي جد فسيحة، ولولا هذا لأطبقت الأفواه على الألسنة حتى تيبس؛ لأنه ليس هناك ضمير حي يتحمل إشاعة الخطأ، وبث الضلالة في أرض الله، إلا مَن أذن بحرب من الله، وإني به سبحانه لمن العائذين".

ونحن نكرر كلام شيخنا الذي قاله، فهذه مسألة ينبغي أن نتنبه إليها قبل الخوض في أي مسائل تتعلق بالعلم.

نذكر ما ذكره في مسألة حذف جزء من الكلمة:

يذكر أن هذه المسألة لها أصولٌ في مصنفات السابقين، وأنهم نبهوا عليها كما قال ابن رشيق في قوله صلى الله عليه وسلم:((كفى بالسيف شاه)) أراد شاهدًا، فحذف، وقالوا في تعليل ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يسير هذا الخبر حكمًا شرعيًّا، فقطع

ص: 293

الكلام وأمسك عن تمامه، وكذلك أشار إلى ما ذكره الأخفش عندما سئل عن قوله تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي} (الفجر: 4) فسئل عن حذف حرف العلة من غير وجود أداة جزم، فقال الأخفش: عادة العرب أنها إذا عَدَلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه، والليل لما كان لا يسري وإنما يُسرَى فيه، نقص منه حرف، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (مريم: 28) فالأصل "بَغيةً" فلما حول عن فاعل نقص منه حرف.

وبعد ذلك بدأ يستدل الشيخ ببعض الأشياء التي وردت في أشعار العرب وفصيحِ كلامهم، واستدل بآيات من القرآن الكريم اجتهد في بيان سر الحذف فيها، وذلك -كما هو معلوم- فيه اعتماد على ما ذكره المفسرون، بأنه نستطيع أن نقول -موافقةً للشيخ- أن المفسرين يوجد في كلامهم أكثر مما في كتب البلاغة في هذا الشأن؛ لاتصالهم بكتاب الله، ولتطبيقهم العملي على آيات الذكر الحكيم.

مما ذكره من شواهدهم قول النجاشي:

فلست بآتيه ولا أستطيعه ولاك

اسقِني إن كان ماؤك ذا فَضْل

ففي قوله: "ولاك اسقِني" يعني بحذف النون، ولم يقل: ولكن اسقيني، قال: إن هذا الحذف في هذا البيت يوضح شيئًا جميلًا، وهو أن الذئب الذي على لسانه هذه العبارة، كان في حالة من التعب والإعياء، أنه لا يستطيع أن يكمل كلامه.

وكذلك ذكر مثالًا من قولهم، قول لبيد رضي الله عنه:

دَرَسَ المنا بِمُتالع فأبانِ

....................................

فقال: الأصل أنه يريد: درس المنازل، فحذف الزاي واللام من الكلمة، فعندما يذكر النحاة والبلاغيون هذا البيت يذكرونه أنه من الحذف الشاذ والضرورة؛

ص: 294

لأنه ظلَمَ الكلمة بحذف أكثر من حرف، ويمكننا أن نقول: إن الحذف في كلمة "المنازل" التي يتحدث عن دروسها، وتغيير معالمها، مناسب؛ لأنها بقيت آثارًا، وكأن الحذف فيه إشارة إلى المضمون الذي يريده بيانه، وهو أن المنازل بقايا لا يُستدل عليها إلا بالقرائن والشواهد.

وننتقل إلى استشهاده بآية كريمة في كتاب الله، وهي قوله تعالى:{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (يوسف: 85) هنا في هذه الآية يستدل الشيخ على ما نص عليه النحاة، من أن هناك حرف نفي محذوف لإعمال:{تَفْتَأُ} ، فهي من أخوات كان التي تعمل بشرط أن تسبق بنفي أو شبه نفي، فالتقدير: تالله لا تفتأ تذكر يوسفَ حتى تكون حَرَضًا، والحَرض ما لا يُعتد به، فذكر الشيخ كلام ابن أبي الإصبع أنه سبحانه وتعالى أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة إلى أخواتها، فإن "والله" و"بالله" أكثر استعمالًا وأعرفُ عند الكافة من "تالله" فلما كان الفعل الذي جاور القَسَم أغربَ الصيغ التي في بابه، فإن كان وأخواتها أكثر استعمالًا من "تفتأ" وأعرف عند الكافة، ولذلك أتى بعدها بأغرب ألفاظ الهلاك، وهي لفظة الحَرَض.

فهنا مهد بكلامه بذكر هذه المقالة عن أبي الأصبع، بأنه ذكر أن هذه الاية توافقت سياقيًّا بذكر الأشياء الغريبة، فذُكرت "تالله" وذكرت "تفتأ" من أخوات كان، وذكرت كلمة:{حَرَضًا} الدالة على الهلاك والفناء، وهذا السياق تزاحمت فيه كلماتٌ غريبةٌ تشيع جو الغرابة والوحشة لمناسبة مقصودهم الذي يريدون حملَ أبيهم عليه، فَهُم يريدون أن ينسى يعقوب عليه السلام ولدَه، وليس في الغرائب أغرب من هذا، وحَذْف حرف النفي وهو خلاف الأصل يأتي متلائمًا مع هذا

ص: 295

السياق الغريب، ويرمز في خفاء إلى حاجتهم، وهو نسيان يوسف، وإبعاده عن قلب أبيهم الذي ضاق بهم، وتولى عنهم من أجل يوسف عليه السلام.

هذا اجتهاد من الشيخ ذكره، وذكر نظيره في حذف حرف النداء في السورة نفسها في قول العزيز:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} (يوسف: 29) فأراد بقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} اكتم هذا الأمرَ ولا تتحدث به؛ صيانةً لعِرضنا وشرفنا في قومنا، ثم قال لامرأته:{اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} وكان رجلًا حليمًا، وقيل: كان قليلَ الغيرة. والشاهد في حذف حرف النداء أنه يرمز برمز لطيف، فكأنه يهمس بهذا الخبر في أذن يوسف عليه السلام محاذِرًا أن يسمعه أحد، ثم فيه تقريب وملاطفة ليوسف عليه السلام وإيماء خفي بأن الخبر كله يجب أن يضمرَ في السرائر، وأن لا يجري به لسان.

هذا الاجتهاد الذي ذكره الشيخ في حذف جزء من الكلمة واستدل له من القرآن بحذف الحرف، هذا لأنه ليس في القرآن مثل ما ذكر من أمثلة من كلمة "الَمَنا" بدل "المنازل"، وما ورد في الحديث:((شاه)) بدلًا من "شاهدًا"؛ لأن هذا بهذه الصورة لم يرد في القرآن، ولكني أرى أن الشيخ كان يستطيع أن يستدل في هذا المقام بحذف نون "كان":"لم أك، ولم أكن" مع استخدامها في كتاب الله سبحانه وتعالى.

وقد تنبه بعض الباحثين لذلك، فذكر الفرقَ بين إثبات النون وحذفها ذِكرًا بلاغيًّا على خلاف ما يذكره النحاة من جواز ذلك إذا ما كان الفعل مجزومًا، ووليه متحرك ولم يلِه ساكن، فإنه يجوز حذف النون وإثباتُها، فهذا مقام النحاة. أما مقام البلاغيين فهو بيان الفروق في استخدامها في موضع وحذفها في موضع آخر.

الحديث عن حذف الكلمة:

ص: 296

وحَذْفُ الكلمة هو باب عظيم في أبواب الحذف، اهتم البلاغيون به، واهتموا اهتمامًا بالغًا بذكر حذف المسند إليه، وبذكر حذف المسند، وبذكر حذف المتعلقات، وأفردوا حديثًا عن حذف المفعول به.

حذف المسند إليه:

قالوا: مِن أغراض حذف المسند إليه: الاحتراز عن السأم والعَبَث، كما في قوله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2) فَذِكْرُ المسند إليه لو قلنا: هو: {هُدًى} يثير قلقًا؛ لشدة قرب الكتاب الماثل أمام النفس، ويبعث فيه السأم؛ لوضوحه وقرب الحديث عنه.

وكذلك قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} (القارعة: 10، 11) وندرك هذا إذا تأملنا الفرق بين هذا الأسلوب الموجز وبين أن يقال: وما أدراك ما هي، هي نار حامية. من الإسراع إلى ذكر النار بعد أن أشار الشوق بالسؤال عنها.

ومنه قوله تعالى: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} (الهمزة: 4 - 6) وقوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (البقرة: 18) فما دام ذلك في معرض الحديث عنهم، فليس في حاجة إلى إعادة ذكرهم.

هذا هو الغرض الأول الذي ذكروه، ومثَّلوا له بأمثلة عديدة في القرآن الكريم، لأجلها حُذِفَ المسند إليه ولم يذكر.

ومن الأغراض التي ذُكرت أيضًا لحذف المسند إليه: هو قوة ظهوره وتعينه بما لا يتوهم معه أحد إسناد الخبر إلى غيره، وعبَّر عنها بعضهم بقوله: كون المسند لا يصلح إلا له. واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ

ص: 297

الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (الرعد: 9) فإن قوله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو، ولكن لما كان الخبر لا يكون إلا له سبحانه، جاء الكلام على الحذف، وفي هذا الحذف إشارةٌ إلى الوحدانية والجلال.

وكذلك قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} (آل عمران: 27) فالمراد به الله سبحانه وتعالى.

كذلك في قول أتباع فرعون: {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (غافر: 24) هذا الذي ذكروه معلوم أن الكلام عن موسى عليه السلام فلا حاجةَ لذكر المسند إليه.

كذلك في قوله سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} (القيامة: 26، 27) فإن الحديث عن ذِكْر الموتِ، ولا يبلغ التراقي عند الموت إلا النَّفْس أو الروح، فلذلك التقدير: إذا بلغت الروح التراقي.

وكذلك في قوله سبحانه: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 32) فالكلام فيها عن الشمس من سياق الآيات.

من الأشياء التي ذكروها أيضًا في حذف المسند إليه، ضيق الصدر عن إطالة الكلام، واستدلوا له بقوله تعالى:{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (الذاريات: 29) فالتقدير: أنا عجوز عقيم، فحُذف المسند إليه؛ لأنها لَمَّا سمعت بشارة الملائكة لها بغلام، عجبت من أمرهم واستبعدت أن تلدَ بعد بلوغها حد الكِبر والعمر.

واستدلوا له ببيت من الشعر لطيف في قوله:

قال لي: كيف أنت؟ قلت عليل

سهر دائم وحزن طويل

أي: أنا عليل، وحالي سهر دائم وحزن طويل.

ص: 298

من الأغراض أيضًا التي ذُكرت في حذف المسند إليه: الإيحاء بالسرعة الفائقة للحدث؛ لصدوره عن صاحب القدرة المطلقة في هذا الوجود، واستدلوا لذلك في قوله تعالى:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: 44) فحذف المسند إليهم من قولهم: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ} للإشارة إلى قوة ظهوره، وأن ذلك الفعل الهائل -أعني: مخاطبته للأرض- وتوجيه الأمر إليها، لا يكون إلا مِن الذي خلقها فسواها، وكذلك السماء، وحُذف الفاعل في قوله: روَغِيضَ الْمَاءُ} للإشارة إلى الإجابة السريعة، فما إن أُمرت الأرض بأن تبلع والسماء بأن تقلع، إلا وقد غيض الماء، وكأن قوة هائلة مجهولة اختطفته وابتلعته، فذهب معها في المجهول.

ومن لطيف ما استُدل به في هذا المجال قوله سبحانه: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} (الأعراف: 118 - 120) فَحُذف المسند إليه في قوله: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ} لأن الغرض منصب في بيان أن السحرة غُلبوا، وأن سحرهم أبطل على الرغم مما كان لهم من شهرة، وفيه إشارة إلى أن الغالب في الحقيقة ليس هو موسى عليه السلام وإنما قوة خفية أيَّدت موسى، وجعلت عصاه حيةً تسعى، ألقاها:{فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} (الأعراف: 117) ولو أنه سبحانه وتعالى قال: فغلبهم موسى، لكان نصًّا على غلبة موسى عليه السلام وأن له في ذلك فِعلًا غلب به، وليس كذلك، فإن سيدنا موسى أوجس في نفسه خيفةً لما رأى حِبالهم وعصيهم، وخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.

هذه هي أبرز الأسباب التي ذكروها لحذف المسند إليه، وغير ذلك أسباب صناعية أو أسباب مصطنعة، سنكملها -إن شاء الله-.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 299