المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حروف العطف (ثم، أو، أم، بل، لكن، لا) - الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مقدمة في وجوه الإعجاز

- ‌ماذا نعني بإعجاز القرآن

- ‌الفرق بين معجزة القرآن وسائر المعجزات

- ‌أوجه إعجاز القرآن

- ‌كيفية تحدي نبينا صلى الله عليه وسلم للعرب

- ‌الدرس: 2 تابع: مقدمة في وجوه الإعجاز - الصرفة، والإخبار بالغيبيات

- ‌لماذا نهتم بالإعجاز اللغوي في القرآن

- ‌ثمرة دراسة إعجاز القرآن

- ‌مسألة الصرفة

- ‌الإخبار عن الغيبيات

- ‌الدرس: 3 أوجه إعجاز القرآن الكريم: حفظ التشريع ودوامه

- ‌نظم القرآن

- ‌قدسية القرآن

- ‌الإعجاز اللغوي

- ‌الدرس: 4 الإعجاز العلمي، والعددي، والتصوير في القرآن الكريم

- ‌الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

- ‌الإعجاز العددي في القرآن الكريم

- ‌مسألة التصوير

- ‌الدرس: 5 الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن

- ‌مقدمة عن الحروف والأصوات كمظهر من مظاهر إعجاز القرآن

- ‌مظهر الإعجاز في الحروف وأصواتها

- ‌الدرس: 6 تابع: الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن

- ‌حركات الحروف وأثرها على السمع في القرآن الكريم

- ‌مظاهر النسق الصوتي في القرآن الكريم، والأمثلة التي تذكر له

- ‌الدرس: 7 حروف المعاني (1)

- ‌حروف العطف (الواو والفاء)

- ‌حروف العطف (ثم، أو، أم، بل، لكن، لا)

- ‌الدرس: 8 حروف المعاني (2)

- ‌حروف النداء

- ‌حروف النفي

- ‌حرفا الشرط: "إنْ" و"لو

- ‌حرفا الاستفهام "الهمزة" و"هل

- ‌الدرس: 9 حروف المعاني (3)

- ‌حروف التوكيد، وحروف الجر والقسم

- ‌كيف كان استخدام حروف المعاني وجهًا من وجوه الإعجاز اللغوي

- ‌الدرس: 10 القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز

- ‌القِراءة وطرق الأداء

- ‌وجوه القراءة

- ‌الكلام عن قراءة التلحين

- ‌لغة القرآن

- ‌مسألة الأحرف السبعة

- ‌الدرس: 11 تابع: القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز

- ‌الإعجاز في تنوع أوجه القراءات فيما يتعلق ببعض مسائل الاعتقاد

- ‌تنوع القراءات القرآنية من حيث الإعجاز التشريعي

- ‌الإعجاز البياني واللغوي في تنوع القراءات

- ‌القراءات وأثرها في: التوجيه البلاغي، وتنوع الأساليب

- ‌الدرس: 12 مفردات القرآن ووجه الإعجاز فيها

- ‌غريب القرآن أو غرائب القرآن

- ‌ظاهرة الألفاظ المعرضة

- ‌ظاهرة الوجوه والنظائر في القرآن الكريم

- ‌قضية الترادف

- ‌حروف المعجم أو ما يتعلق بالحروف المقطعة

- ‌الدرس: 13 قضية النظم

- ‌التطور الدلالي لمصطلح "النظم" وكيف تطور هذا اللفظ

- ‌معنى النظم عند عبد القاهر الجرجاني رحمه الله

- ‌مادة النظم هي العلاقة بين اللفظ والمعنى

- ‌مزايا النظم وفساده

- ‌الدرس: 14 قضية الذكر والحذف

- ‌المسند إليه، ودواعي وأغراض ذكره

- ‌المسند، ودواعي وأغراض ذكره

- ‌مسألة الحذف، ومزاياه، وأنواعه

- ‌الدرس: 15 تابع: قضية الذكر والحذف

- ‌استكمال أغراض حذف المسند إليه

- ‌أغراض حذف المسند

- ‌ما يتعلق بحذف المتعلقات، وحذف المفعول به

- ‌الدرس: 16 التوكيد في النظم القرآني

- ‌تعريف التوكيد، وأغراضه

- ‌صور وأساليب التوكيد

- ‌الدرس: 17 تابع: التوكيد في النظم القرآني - التكرار في القرآن الكريم

- ‌بعض أدوات وأساليب التوكيد المستخدمة في النظم القرآني

- ‌مسألة التكرير

- ‌الدرس: 18 تابع: التكرار في القرآن الكريم

- ‌نماذج تطبيقية على التكرار في القرآن الكريم

- ‌هل هناك زيادة في القرآن

- ‌الدرس: 19 موقف علماء الصرف والنحو من قضية الزيادة

- ‌الزيادة لدى علماء الصرف

- ‌الزيادة عند علماء النحو

- ‌الدرس: 20 الفصل والوصل

- ‌معنى الفصل والوصل عند النحاة والبلاغيين

- ‌مواضع الفصل والوصل

- ‌الدرس: 21 الفصل والوصل في القرآن

- ‌تعليق الدكتور محمد أبي موسى على مسألة الفصل والوصل في القرآن

- ‌الفروق في الاستخدامات، وما بها من إعجاز بياني في نظم القرآن

- ‌الغاية من دراسة الفروق في الحال

- ‌الدرس: 22 لمحات الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، وإحصاء الشيخ عضيمة

- ‌موازنة بين ما انتهى إليه الجرجاني وعضيمة في استخدام الحال

- ‌الفروق في استخدام الأفعال بأزمنتها المختلفة

- ‌استخدام الجملة الاسمية والفعلية

الفصل: ‌حروف العطف (ثم، أو، أم، بل، لكن، لا)

وأخيرًا، قالوا: الفاء تأتي بمعنى ثم: أرباب الفصاحة والبلاغة يقرون أن الفاء فيها مهلة، ولكنها ليست كـ ثم، يعني الفاء ترتيب وثم ترتيب، ويفرقون بينهما بأن الفاء للتعقيب وثم للتراخي، أي هناك مهلة وفترة. والتدقيق أن الفاء أيضا فيها مهلة وفيها فترة، ولكنها ليست كثم، فبحد عبارة الزمخشري:"وتنفرد ثم بالمهلة وقد يكون مع الفاء مهلة"، الآية قول الله سبحانه وتعالى:{ثُمّ إِلَى رَبِّكِمْ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزمر: 7)، وقوله تعالى:{ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأنعام: 60){فَيُنَبِّئُكُمْ} {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ} فتعاورت الفاء وثم على الموضعين، ويستدل بوقوع الفاء محل ثم، بقوله تعالى أيضا:{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} (المؤمنون: 14) ومعلوم أن هناك فرقا زمنيا بين هذه المراحل في تكوين الجنين.

‌حروف العطف (ثم، أو، أم، بل، لكن، لا)

ننتقل الآن للحرف الثالث وهو "ثم":

"ثم" اشتهر أنها للترتيب والتراخي، فتأتي للزمان المتراخي أي فيه مهلة بينه وبين ما قبله كقوله تعالى:{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} (عبس: 22)، وقوله تعالى:{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الزمر: 44)، {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} (البقرة: 92)، {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} (الشعراء: 81)، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ} (البقرة: 31) فهنا دلالة في أن "ثم" تستخدم للتراخي.

ص: 138

فـ "ثم" تأتي أيضا للترتيب الذكري: فلا تفيد التراخي والمهلة ولا تفيد أن الثاني بعد الأول، بل ربما يكون قبلها، ويُستدل على ذلك بقوله تعالى:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 153)، وكذلك قوله سبحانه وتعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (هود: 1)، وقوله سبحانه:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} (الأنعام: 2) فقضاء الآجال قبل الخلق، كما صح في الحديث القدسي، وكذلك قوله سبحانه وتعالى:{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر: 7، 8) فالسؤال عن النعيم قبل الرؤية، وكذلك ثم تستخدم بمعنى الواو، قال تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 3)، وقال سبحانه وتعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهٌَ} (البقرة: 199)، وقال سبحانه وتعالى:{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} (السجدة: 8، 9) وقد تكون على أصلها معطوفة على قوله تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} (السجدة: 7 - 9) فخُرجت على قولين أن ثم بمعنى الواو أي وسواه ونفخ فيه من روحه أو أنها معطوفة على قوله: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} .

كذلك ثم تأتي لمعنى الاستبعاد: أي استبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها، وعدم مناسبته لها ويعبر عنها بتفاوت المرتبة بينهما، قال تعالى:{وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} (البقرة: 85)، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 3) فبين التوبة وطلب المغفرة بون بعيد. كذلك تأتي للتراخي في الرتبة لا في الزمان؛ يعني لا يُشترط أن تكون "ثم" تدل على التراخي في الزمن فقد يكون التراخي تراخيًا في الرتبة، قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ *

ص: 139

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (الغاشية: 25، 26)، وقال سبحانه وتعالى:{الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (الأعلى: 12، 13) فالترجح بين الموت والحياة أفظع من إصلاء الجحيم - والعياذ بالله.

حتى:

و"حتى" لم ترد عاطفةً في كتاب الله سبحانه وتعالى ومن الجميل أن فريقًا من النحاة لا يثبتون حتى من الحروف العاطفة. بعد ذلك نأتي لـ "أو وأم"؛ "أو": إما أن تقع بعد الطلب أو تقع بعد الخبر؛ فإن وقعت بعد الطلب تفيد إما التخيير أو الإباحة، وإن وقعت بعد الخبر تفيد الشك ومعان أخرى، انظر إلى قوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (التوبة:80)، وقوله سبحانه وتعالى:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86)، وقوله سبحانه وتعالى:{فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} (النساء: 71) لو نظرت في الآيات الكريمة تجد امتناع الجمع بين الشيئين؛ بين الاستغفار وعدمه وبين التحية بأحسن أو مجرد الرد وبين النفور: {خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} (النساء: 71) متفرقين أو مجتمعين.

فهناك فرق بين التجمع والافتراق؛ فلذلك قالوا: تدل على التخيير إذا امتنع الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، ومثّلوا له بقولهم: تزوج زينب أو أختها، فلا يجوز أن تجمع بين الأختين، وقالوا: إذا جاز الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، فهي تدل على الإباحة، ويمثّلون له بقولهم: جالس العلماء أو الزهاد،

ص: 140

فإنه يجوز أن تجالس الفريقين، ومما يحتمل ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى قوله:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) فيجوز لك أن تقتصر على الواحدة أو على ما ملكت اليمين، أو أن تجمع بينهما؛ أن تتزوج واحدة وما معك من ملك اليمين، فكان ذلك دليلًا على أنها تفيد الإباحة، هذا بالنسبة لـ "أو" في وقوعها بعد الطلب. أما إذا وقعت بعد الخبر لها معانٍ، تفيد الشك كقوله تعالى:{قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (الكهف: 19)، وكذلك تفيد الإبهام كقوله تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سبأ: 24) وذلك إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى، فهذه الآية الكريمة يستشهد بها على ذلك فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم يعلم من هو الذي على هدى، ولكن استخدمت "أو" هنا للإبهام على السامع.

كذلك تعطي معنى التفصيل، كقوله تعالى:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} (البقرة: 135){قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذاريات: 52) فتفصيل الأقوال التي قيلت: {قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} بعضهم قال: ساحر، وبعضهم قال: مجنون، وهم قالوا القولين؛ قالوا بأنه ساحر وقالوا بأنه مجنون، فأفادت تفصيل قولهم. كذلك تفيد "أو" التقسيم أو التنويع، كقوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} (يونس: 12)، وقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184). كذلك تفيد الإضراب كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (الصافات: 147) أي بل يزيدون، الإضراب أي أن تكون بمعنى بل، وكقوله تعالى:{كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (البقرة: 200) أي بل أشد ذكرا، وقوله تعالى:{كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} (النحل: 77) بل هو أقرب.

ص: 141

وكذلك تكون بمعنى الواو، إذا عطفت ما لابد منه ويحتملها، كقوله تعالى:{فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة: 74)، {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} (آل عمران: 167)، {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} (الذاريات: 39) قال: ساحر ومجنون، بدليل قوله تعالى حكاية عنه:{إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} (الأعراف: 109)، وقوله كذلك:{إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (الشعراء: 27) فهنا يقولون: إن "أو" بمعنى الواو، ويمثّل أيضًا له بقوله تعالى:{أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} (العلق: 11، 12) أي وأمر بالتقوى.

لعلك -أيها الابن الحبيب- لاحظت مما ذكرت لك من معاني "أو" أن الحرف قد يكون له أكثر من معنى، فهذا هو في الحقيقة سر الإعجاز في استخدام هذه الحروف؛ أن الحرف يأتي في موضع واحد يحتمل كذا وكذا وكذا، مما يؤدي إلى توفير المعاني مع اتحاد اللفظ، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز اللغوي، وأمثّل لك بهاتين الآيتين قال تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} (البقرة: 235)"أو" هنا تحتمل التفصيل وتحتمل التخيير وتحتمل الإباحة وتحتمل الإبهام على المخاطب، كذلك في قوله تعالى:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (البقرة: 200) فتحتمل التخيير أو الإباحة أو الإضراب.

كذلك من اللطائف أن هذا الاستخدام يؤدي إلى ما ينبني عليه من أحكام، استخدام هذا الحرف هل هو للتخيير أم للإباحة أو للتقسيم، هذا يؤدي إلى ثمرة نعرفها في الخلافات الفقهية بين الفقهاء:{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196) فهنا الذي يقع في محظور من محظورات الإحرام أيكون الأمر بالنسبة له على التخيير بين أي كفارة من الثلاث إما أن يصوم أو يتصدق أو يذبح، وهذا

ص: 142

المقصود بالنسك، كذلك قول الله سبحانه وتعالى:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (المائدة: 89)، وكذلك كفارة اليمين كما أخبر المولى سبحانه وتعالى.

بعد ذلك الحرف "أم":

"أم" تأتي إما متصلة أو منقطعة، والمتصلة هي التي تسبقها همزة التسوية، قال تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (المنافقون: 6)، وقال:{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} (إبراهيم: 21)، وكذلك التي يتقدم عليها همزة يُطلب بها وبـ أم التعيين؛ أي يراد بها الإجابة عن شيء معين، وتسمى المعادلة؛ لأنها تعادل الهمزة في إفادة التسوية، وذلك كقوله تعالى:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} (النازعات: 27)، وكقوله تعالى:{أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (الواقعة: 59)، وهناك فرق بين التي يتقدمها همزة التسوية والتي يتقدمها همزة يطلب بها وبـ أم التعيين، هو أن الواقعة بعد همزة التسوية لا تستحق جوابًا كما ذكرنا من الآيات، والواقعة بعد همزة التسوية لا تقع إلا بين جملتين؛ أما التي يُراد بها التعيين فقد تقع بين مفردين وتستحق الجواب؛ لأنه يُطلب بها الجواب.

أما "أم" المنقطعة فهي تأتي على ثلاثة أنواع: إما أن تكون مسبوقة بخبر كقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} (السجدة: 2، 3). أو أن تكون مسبوقة بهمزة لغير استفهام كقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} (الأعراف: 195)،

ص: 143

أو أن تكون مسبوقة باستفهام بغير الهمزة، قال تعالى:{هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: 16).

ومعنى أم المنقطعة الذي لا يفارقها هو الإضراب، فهي تفيد الإضراب، كقوله تعالى:{هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} (الرعد: 16) فإذا تأملت الآية الكريمة تجد في قوله تعالى: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} في معنى: بل هل تستوي الظلمات والنور و {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} بل جعلوا لله شركاء لأنهم اعتقدوا هذا الاعتقاد الباطل، والله سبحانه وتعالى يخبرهم عن تصوير الإيمان والكفر بالظلمات والنور والأعمى والبصير، أو أن تكون متضمنة لمعنى الاستفهام الإنكاري، قال تعالى:{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (الطور: 39) فالتقدير: بل أله البنات ولكم البنون؟ هذا بالنسبة لـ "أم" ويشار إلى أنها قد ترد محتملة للاتصال والانقطاع، ويُستدل لذلك بقوله تعالى:{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 80) فيجوز في "أم" أن تكون معادلة، بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقرير لحصول العلم بكون أحدهما، ويجوز أن تكون منقطعة كذلك.

بعد ذلك عندنا الحرف "بل":

و"بل" من الحروف التي لا يجزم باستخدامها عاطفة في كتاب الله سبحانه وتعالى فابن مالك يرى أنها وقعت في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (الأعلى: 14 - 16)، وفي قوله تعالى:{وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} (المؤمنون: 62، 63) وأنكر ابن هشام

ص: 144

ذلك؛ لأنها فيما ذكر حرف ابتداء وليست عاطفة، فالتقدير: بَلْ أنتم تؤثرون الحياة الدنيا، وكذلك {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ} فالعاطفة لابد أن يليها مفردٌ، سواء سبقت بنفي أو نهي أو لم تسبق، وعلى ذلك الصحيح أنها لم تقع عاطفة في كتاب الله عز وجل. كذلك حرف "لكن" الذي يأتي لعطف المفردات بشرطين: أن يتقدمها نفي أو نهي، وألا تقترن بالواو فلا تكون ولكن، وعلى ذلك ففي قوله تعالى:{مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يوسف: 111)، وفي {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40) الصحيح أن المنصوب بعد لكن هو خبر لكان المحذوفة، ولكن كان رسول الله، ولكن كان تصديق الذي بين يديه.

وأخيرًا نأتي لحرف "لا":

وهذا الحرف أيضًا استخدامه كحرف عطف له شروط: أن يتقدمها إثبات وألا تقترن بعاطف وأن يتعاند متعاطفاها، أي يختلف ما قبلها عما بعدها، فلا يقال: جاءني رجل لا زيد، وعلى هذا فالصحيح أيضا أنها بهذه الشروط لم تستخدم عاطفة في كتاب الله سبحانه وتعالى وكذلك الحرف حتى. ولك لتبين سر الإعجاز أن تلمح شيئين؛ أولًا: تنوع المعاني في استخدامها؛ فتارة تكون بمعنى كذا وبمعنى كذا وتارة يحتمل الموقف أو الموضع الواحد أكثر من معنى.

ص: 145

وثانيًا: القاعدة التي ذكرناها آنفا أنك إذا قلت بأن الفاء بمعنى ثم أو ثم بمعنى الواو؛ فإنك لا يسعك أن تضع ما هي بمعناها، وهذا سر من أسرار الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم؛ أن هذا الحرف إن كان بمعنى كذا فلا يستطيع ما هو بمعناه أن يؤدي الغرض أو أن يؤدي الوظيفة التي أداها هذا الحرف في نسقه، وهذا ما كان مبنيّا على ما ذكرناه من التنسيق الصوتي ومن الإطار -الشكل- الذي خرج في صورته كلام الله سبحانه وتعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 146