الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العادة، ولا يستنسئه الشيطان وإن كانت طاعته عندهم عبادة، فإنه يسمع ضربًا خالصًا من الموسيقى اللغوية في انسجامه واضطراد نسقه واتزانه على أجزاء النفس مقطعًا مقطعًا ونبرةً نبرةً، كأنها توقّعه توقيعًا ولا تتلوه تلاوة.
هذه المقدمة الجميلة ذكرها الرافعي رحمه الله في بداية كلامه عن الحروف والأصوات، كمظهر من مظاهر الإعجاز الكريم.
مظهر الإعجاز في الحروف وأصواتها
يتركز حديثنا عن مظهر الإعجاز في الحروف وأصواتها في نقاط ابتداءً قبل التفصيل الذي سنذكره:
أولًا: هناك فرق بين استخدام القرآن للحروف وأصواتها واستخدام العرب، كيف؟
العرب في كلامهم كانوا يترسلون أو يحلمون؛ بمعنى أنه يقرأ على تمهل أو يقرأ على سرعة أي يتسرع في القراءة كيفما اتفق له، لا يراعون أكثر من تكييف الصوت دون تكييف الحروف التي هي مادة الصوت، هذه طريقة العرب وغاية ما كانوا يستخدمونه في كلامهم، يقرءوا ببطء أو يقرأ بسرعة إلا أنه لا يهتم اهتمامًا بالغًا بأن يكيف الحروف تبعًا لمادة الصوت، وإنما اهتمامه هو تكييف الصوت أي يقرأ أو يتحدث بصوت يشعر من أمامه بما يريد أن يتحدث به، فإذا أراد أن يتحدث مثلًا عن الحماسة أو الفخر تحدث بنبرة معينة، وإذا أراد أن يتحدث عن الغزل أو غيره تحدث بنبرة معينة، فيغير نبرات صوته وطرق أدائها حسبما الأغراض التي يريدها.
أما القرآن الكريم فجاء بصورة لم يعهدها العرب في كلامهم، لما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله، رأوا ألحانًا لغوية رائعة، كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتها هي توقيعه، فلم يفتهم هذا المعنى، ولذا كانت الصدمة الأولى للنفس العربية إنما هي أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها.
نريد أن نستدل على هذه المسألة: أن القرآن جاءهم بقراءة وبطريقة لأداء الحروف ونطقها تختلف عما كانوا يعرفوه.
هناك أدلة ذُكر منها هذا الدليل الأول: أنك إذا أنشأت ترتل قطعة من نثر الفصحاء أو غيرهم على طريقة تلاوة القرآن الكريم، وتراعي فيها أحكام القراءة وطرق الأداء- فإنك لا بد ظاهر بنفسك على النقص في كلام البلغاء وانحطاطه في ذلك عن مرتبة القرآن، جرّب أيها الابن الحبيب أن تقرأ نصًا من النصوص غير النص القرآني بطريقة تلاوة القرآن تجد بونًا شاسعًا أو تجد أن هذه الطريقة المميزة بهذا الأداء وهذه الأحكام كأنها فُصلت تفصيلًا على كتاب الله عز وجل، ولا تستطيع أن تقرأ بها غيرها من النصوص، لما في هذا النص القرآني مما يُسمى بجمال التوقيع، وسنقرأ نصًّا إن شاء الله يبين معنى هذه العبارة الجميلة التي ذكرها الدكتور "دراز" رحمه الله.
فنقول: حسبك في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن وأنه مما لا يتعلق به أحد ولا يُتفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه -في القرآن- لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر والشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق والتفشي والتكرير، وغير
ذلك من صفات الحروف، فلا يخفى عليك أن مادة الصوت في القرآن هي مظهر الانفعال النفسي، وأن هذا الانفعال بطبيعته هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه مدًّا أو غنةً أو لينًا أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها، ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع أو الإطناب والبسط بمقدار ما يكسبه من الحدوة والارتفاع والاهتزاز وبعد المدى ونحوها.
كأنه حادي يحدو بنفس من يقرأه، كما يحدو صاحب الإبل لها ليستثيرها وليحركها وليجدها في السير، هذه الصفة تبدو واضحة لمن أراد أن يقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى.
هذا أيها الابن الكريم يؤدي إلى ما نسميه بالتأثير النفسي للقرآن الكريم وغلبته على الطبع العربي وغيره، كيف وغيره؟ نعم غلبة القرآن بطريقته وبطريقة أدائه على النفس العربية وغير العربية، بل على النفس المؤمنة والجاحدة، تتأثر بهذا الكلام الكريم الجميل الذي هو كلام رب العالمين، فتتأثر له، وكم سمعنا عمن أسلم من الغرب لسماعه آيات من القرآن الكريم، وهو أعجمي، لا يعرف العربية ولا يعرف الإسلام وإنما هزه ذلك التوقيع الجميل وهذا الصوت الذي يسمعه وهذا الذي يكون ممن يجيد تلاوة القرآن الكريم، ولاسيما إن كان حسن الصوت، هذا ما يُسمى -أيها الابن الكريم- بطريقة الاستهواء الصوتي، أي هذا يستهوي من يسمع كلام الله سبحانه وتعالى إلى الاسترسال وإلى سماع كلام الله عز وجل.
هناك دليل آخر على إعجاز القرآن في تركيب حروفه وأصواته اللغوية: ما هو هذا الدليل؟
أن توازن بين القرآن وبين أي نص آخر، بمعنى: أن القرآن لا يخلق أي لا يبلى، ولا يُسأم منه، ولا ينتهي وقته، كما يُقال على كثرة الرد وطول التكرار، ولا تمل منه الإعادة، وكلما أخذت فيه على وجهه الصحيح فلم تخل
بأدائه رأيته غضًا طريًا وجديدًا، ورأيته وصادفت من نفسك له نشاطًا مستأنفًا وحسًّا موفورًا، هذا القرآن بما فيه من ترسيل واتساق وتطويل مع أنه لا يُضبط بحركات وسكنات كأوزان الشعر فتجعل له بطبيعتها صفة من النظم الموسيقي، ولا يخرج على مقاطع الكلمات التي تجري فيها الألحان ودروب النغم، مما يسهل تأليفه ويكون أمره إلى الصوت هو طريقة تصريفه وتوقيعه، إنما هو نابع من أصواته وحروفه، أما أي نص آخر عندما تقرأه مرة ومرة ومرة ويُعاد عليك وإن تنوعت طرق أدائه وطرق قراءته- إلا أنك تشعر منه بالملل والسأم، وتشعر بعدم الرغبة في مواصلة السماع، عدا القرآن الكريم يختلف عن هذا وعن أي نص في هذه الصفة؛ أنك لا تسأم من ترداده وكثرة تكراره.
هذا الذي ذكرته لك -أيها الابن الحبيب- هو في مجمله الكلام عن الحروف وأصواتها وتأثيرها كوجه من وجوه الإعجاز، فإذا ما أردنا أن نفصل في هذه المسألة وأن نذكر فيها أدلة ذكرها البلاغيون ومن تعمقوا في هذه المسألة وحاولوا أن يتلمسوا من كتاب الله عز وجل أثرَ الإعجاز في بنيته الخارجية أو في شكله أو في الإطار الذي وضع فيه- هذا ما نجده في نقاط سنذكرها تبعًا بإذن الله عز وجل وهي التلاؤم وصلته بمخارج الحروف وشكل الحرف وأثر الحرف المعنوي على النفس والحروف المتماثلة وحركات الحروف والنسق الصوتي.
نبدأ بأولى هذه النقاط وهي الصلة بين التلاؤم والمخارج:
نطرح هذا السؤال: هل هناك صلة بين تلاؤم الحروف وبين مخارجها؟
هذا السؤال شغل من اهتم بهذه المسألة، فنرى أولًا الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) يعرض كلام الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي عدّ التناسق بين الحروف
والتلاؤم بين الحروف أساسه البعد عن القرب الشديد من المخارج أو البعد الشديد في المخارج، بمعنى أن الخليل رحمه الله ربط بين المخارج وبين التلاؤم، ربط بينها بهذه العبارة الجميلة، يقول الباقلاني: ذهب الخليل إلى أنه من بعد شديد أو قرب شديد، فإذا بعُد فهو كالطفر أي كأنه يثب مرتفعًا، يثب يثب وهو يتحرك، وإذا قرب جدًّا كان بمنزلة مشي المقيد المكتوف الذي لا يستطيع أن يتحرك، ويبين بقرب المخارج وتباعدها؛ أي أن التنافر في الحروف يبين بالقرب والبعد، ولعلك أيها الابن مر عليك تباعًا هذا البيت المشهور الذي ذكروه مثالًا لتنافر الحروف لقروب مخرجها:
وقبر حرب بمكان قفر
…
وليس قرب قبر حرب قبر
هذا البيت الذي موجود في كتب البلاغة يُذكر مثالًا للتنافر بين الحروف بسبب هذه المخارج، نجد عكس التنافر هو التلاؤم، التلاؤم الذي هو مجسد في القرآن الكريم، بمعنى العلماء يقولون: القرآن كله في الطبقة العليا للتلاؤم، ولكن الفرق أن بعض الناس أحسن إحساسًا له من بعض، وذلك كما أن في الشعر هناك من يفطن للموزون بخلاف بعض، يعني هناك من يشعر بقيمة الشعر لإدراكه الوزن، فعندما يمر به بيت من الشعر به كسر أو به خلل يظهر عليه وترى تغير وجهه لأنه أحس أن هناك خللًا في هذا البيت وأن هناك كسرًا قد اعتراه، كذلك في القرآن يتفاوت الإحساس بمدى هذا التلاؤم وبروعته بمدى إحساسك باللغة وفهمك لها، فالتلاؤم -أيها الابن الكريم- كما قيل هو حسن الكلام في السمع وسهولته في اللفظ ووقع المعنى في القلب، هذا التلاؤم مجسد في كتاب الله وفي آياته كما سنذكر الآن من أمثلة.
هذا رأي، رأي ذهب إلى أن التلاؤم ناتج من البعد عن خروج الأحرف من مخارج قريبة أو مخارج بعيدة، فجاء الكلام على صورة من التلاؤم البديع ليست موجود في أي نص ولا يستطيع أي فصيح -مهما بلغت فصاحته- أن يلتزم هذا التلاؤم في جميع كلامه، بدليل أنهم أخذوا ملاحظات على كبار الشعراء في الجاهلية وفي صدر الإسلام، وكبار اللغويين والنحاة وغيرهم ممن هم أهل اللغة وأرباب الفصاحة والمستشهد بكلامهم، أخذوا عليهم أمثلة عديدة في عدم التلاؤم وفي وجود التنافر في كلامهم؛ لذلك يدعوك من تأمل هذه المسألة إلى أن تتأمل صور التلاؤم في كتاب الله سبحانه وتعالى والأمثلة التي تُذكر لذلك.
هذا التلاؤم يراه البلاغيون الذين تعمقوا في الدراسة ليس فقط بسبب المخارج وبسبب القرب أو البعد، وإنما هو يعتمد في المقام الأول على الذوق، يعتمد في المقام الأول على تقبل من يسمع الكلام بأن ذوقه اللغوي ذوق عربي سليم، فما عده الذوق ثقيلًا فهو متنافر، وإلا فلا تنافر فيه.
هذا الرأي الآخر في مسألة التنافر؛ أنه لا يرتبط بالمخارج قدر ما يرتبط بالذوق، ويبدأ أهل العلم يستدلون بآيات من القرآن وكلمات من القرآن تدل على التلاؤم في ألفاظه الكريمة.
مثال يُستشهد به هو استخدام الإفراد والجموع، كيف استخدام الإفراد والجموع؟
أنت حين تنظر في كتابه الله عز وجل تجد جموعًا لا مفرد لها، وتجد مفردات لا جمع لها، ليس في الوضع اللغوي وإنما في النص القرآني، بمعنى أنك تجد مثلًا كلمة الألباب فإن سألتك عن مفردها قلت لب، فإن سألتك عن وجوده في كتاب الله قلت: ليس هناك آية في كتاب الله بها لفظ لب، وإنما لم يُستخدم في القرآن إلا لفظ الألباب، فاستُخدم الجمع ولم يُستخدم المفرد، كقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَاب} (الزمر: 21) وغير ذلك من الآيات العديدة.
أما كلمة اللب لم ترد وإنما ورد مرادفها، مرادف اللب وهو القلب، قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْب} (ق: 37)، ولم يقل لمن كان له لب، فلم تُستخدم المفردة مع أن نظيرها استخدم في كتاب الله، كيف النظير؟ النظير في الوزن والنطق، فكلمة لب توازي كلمة جب {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} (يوسف: 10) فلما ذُكر الجب ولم يُذكر اللب مع أنهما متوازيان ومتساويان في الوزن إلا أنهما يختلفان في المخارج، ويختلفان في العلاقة بين الحرفين، ففرق بين اللام والباء بما فيها من ثقل، وبين الجيم والباء وبما فيها من صلة، كذلك أيضًا في قضية الإفراد والجموع، تجد كلمة أرجاء استخدمت ولم يستخدم الرجا المفرد لها، تجد كلمة أكواب استخدمت:{بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (الواقعة: 18) أما كلمة كوب لم تجدها استخدمت في كتاب الله، كذلك كلمة الأصواف:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (النحل: 80) كلمة أصواف استخدمت أما كلمة صوف المفرد لم يستخدم، وعندما أُريد استخدم مرادفه، وهو العهن، في قوله تعالى:{وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (القارعة: 5)، وعندما تُسأل عن تفسير العهن يُقال لك هو الصوف، ولكنما لم يستخدم واستخدم مرادفه مكانه.
كذلك كلمة الأحبار، {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} (التوبة: 34) وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُم} (التوبة: 31) كلمة الأخبار استخدمت، أما حبر وهي مفرد أحبار لم تستخدم في القرآن الكريم، ذلك دليل عملي على استخدام الكلمات الجموع دون مفرداتها لما في الجموع من أثر صوتي يلمحه من له تذوق في اللغة ولما في المفردات من تنافر أو ثقل يتأمله أيضًا من
يستطيع أن يتذوق كلام العرب، وعكس ذلك استخدام المفرد دون الجمع ككلمة الأرض، الأرض لم ترد مجموعة في القرآن، حتى إ ن المتأمل يجد أن الموضع الذي كان يقتضي أن يُذكر فيه جمع الأرض بمعنى أن الآيات جميعها إذا نظرت فيها:{فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} (البقرة: 164)، {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} (البقرة: 107) السماوات بصيغة الجمع والأرض بصيغة الإفراد، فهل هي أرض واحدة؟ لا هي أراضين وهي مجموعة وهي سبع كما أن السماوات سبع، فعندما جاء القرآن في موضع يستدعي المقابلة بين العدد وغيره بالنص عليه جاء قوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} (الطلاق: 12).
انظر إلى جمال القرآن الكريم، لم يقل الله الذي خلق سبع سماوات وسبع أراضين مثلهن، وإنما: ومن الأرض مثلهن، كان ذلك من الإبداع في اختيار اللفظة التي تلاءم السياق القرآني والنص القرآني.
كذلك عندنا كلمة في القرآن الكريم حار أهل البلاغة في تصويرها وبما فيها من جمال، كلمة لم تُذكر فاحتاروا فيما ذُكر مكانها، وهذا موقف من مواقف فرعون مع هامان:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} (القصص: 38)، ماذا يريد فرعون من هامان؟ هو يريد منه أن يبني له صرحًا من الطوب المحرق الذي يدخل المحرقة، ويُصنع بطريقة سريعة لا تستدعي أن يأتي بالصخر وغيره ليشيد بناءً، فهو يريد أن يستعجل البناء ويريد أن يكون عاليًا، يصل إلى عنان السماء لعله يطلع إلى إله موسى كما ذكر في موضع آخر، فانظر إلى التعبير القرآني لم يذكر الآجُر، أو القرمد المرادف لما فيه من تنافر ولما فيه من ثقل في النطق وغيرها.
فاستخدم لفظ هو يُعد من مبتكرات القرآن فأوقد لي يا هامان على الطين، أوقد لي يا هامان على الطين، هذا الاستخدام وهذه الصورة البديعة التي كما قلت حار البلاغيون في روعتها وفي خفتها وفي وقعها في سياق الآيات وفي جمالها، عندما تسمعها من القارئ وهو يقلقل الدال وينطق اللام برقة، اللام مرققة لكسرها، فأوقد لي يا هامان، هذا الإحساس الذي تشعر به وأن تستمع للآية، ويجذبك ويجعلك بقلبك منصتًا لكلام الله عز وجل هذا لا يتأتى مع كلمة الآجُر أو مرادفها من الكلمات ناهيك عما يدل على غباء فرعون بهذا الطلب، فكأنه يطلب منه أن يبني له إلى ما لا نهاية، فإن الطين الذي يوقد عليه لا يُفرغ من البناء فيه في وقت، وإنما أراد العجلة فكان الطول في إحداث هذا الأمر الذي يريد، ذلك كله ضرب من ضروب التلاؤم في حروف القرآن الكريم وصلتها بالمخارج كما بينا.
المسألة الثانية في الحروف هي مسألة شكل الحرف، ماذا نعني بشكل الحرف؟
الحرف الذي ننطقه في الألفاظ القرآنية تجد بينه وبين شبيهه علاقة، هذه العلاقة ما يُسمى بالتجانس، هناك فرق بين الجناس والتجانس، الجناس كما تعلم جناس تام وجناس ناقص وتوافق الحروف مع اختلاف المعنى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (الروم: 55)، فالساعة الأولى مراد بها القيامة والساعة الثانية المراد بها وقت الساعة المعروفة في نهار اليوم التي يعرفها البشر، فهذا ما يسمى بالجناس التام: توافق الحروف في الشكل مع اختلافها في المعنى.
وهناك جناس يُسمى جناس ناقص: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} (الأنعام: 26) توافق الحروف مع اختلاف حرف من حروفها، ينهون وينأون، الهاء والهمزة مع
اتحاد المخارج للهاء والهمزة، فهي من حروف الحلق كما تعلم، هذا نوع أيضًا من الجناس، الأعمق من لفظ الجناس ما هو معروف في علم البديع؛ لأن هذا الجناس موجود في كلام الشعراء موجود في كلام الأدباء والخطباء، الظاهر الذي يجذبك والذي يشعرك بأهمية استخدام الحرف في القرآن ما يُسمى بالتجانس، الذي يتلخص في صورتين أو في ضربين ما يُسمى بالمزاوجة وما يسمى بالمناسبة بين الحروف التي تستخدم، هذا يكون في الكلام الذي يجمعه أصل واحد، يعني يجمعه مادة لغوية واحدة يتكون منها، تجد اللفظ هو اللفظ، ولا نستطيع أن نقول: إنه ضرب من ضروب الجناس، وإنما هو ضرب من ضروب المزاوجة في اللفظ، كقوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} (البقرة: 194).
اعتدى /اعتدوا /بمثل ما اعتدى؛ تلحظ أيها الابن الكريم تكرار كلمة اعتدى ومقابلتها بكلمة فاعتدوا عليه فلك أن تتساءل: هل أخذ الحق اعتداء؟ هل عندما تقابل الاعتداء بالاعتداء فأنت بذلك تكون معتديًا على من اعتدى عليك؟ هذا يسأله من ينظر في الكلام فيُقال له: لا، وإنما هو جاء على سبيل المزاوجة، والمزاوجة هي من الجزاء بمعنى أنه استعير لفظ الاعتداء للثاني لتأكيد الدلالة على المساواة في المقدار، فجاء على مزاوجة الكلام بحسن البيان، فالله سبحانه وتعالى جازاهم بما يستحقون لأنهم اعتدوا فيجازون بالاعتداء، فإنما استعير للفظ الثاني وكان حقيقة في الأول يعني في المعنى الأول اعتدى فهو معتدي على الحقيقة وأنت في الثانية ليس معتديًا، وإنما استعير اللفظ لما يسمى المساواة في المقدار ولبيان أن ذلك جزاء لما أُحدث.
كذلك في قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه} (آل عمران: 54) فالله سبحانه وتعالى جازاهم على مكرهم، فاستعير للجزاء على المكر اسم المكر؛ لتحقيق الدلالة، بني الدِلالة والدَلالة والدُلالة كلها فصيحة، تسمع الكلمة بالكسر أو بالفتح، لتحقيق الدِلالة على أن وبال المكر راجع عليهم ومختص بهم، هذا التجانس.
والمناسبة أيضًا تأتي في المعاني التي من أصل واحد كقوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} (التوبة: 127) فجونس بالانصراف عن الذكر صرف القلب عن الخير، والأصل فيه واحد، وهو الذهاب عن الشيء؛ يعني أصل الصرف هو الذهاب عن الشيء فلذلك جونس بينهما، فهم عندما ذهبوا عن الذكر فقد ذهبت قلوبهم عن الخير، فكلاهما ذهب، وكذلك قوله تعالى:{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَار} (النور: 37) فجونس بالقلوب التقلب، والأصل واحد، فالقلوب تتقلب بالخواطر والأبصار تتقلب في المناظر وأصلهما التصرف، هذا ما يتعلق بمسألة الشكل وأثره في الحروف وأثره في ألفاظ القرآن الكريم.
النقطة الثالثة: الأثر المعنوي للحروف ومخارجها، هذه النقطة لكي تتبينها لا بد أن تعرض لشيء في غاية الأهمية، وهو أن توازن بين ألفاظ القرآن وبين غيرها.
نرجع إلى المرد الأول وسر الإعجاز: أن القرآن لا تستطيع أن تضع فيه كلمة مكان كلمة، أو حرفًا مكان حرف، أو جملة مكان جملة، وكما قالوا لو أدرت اللغة جميعها أي لو بحثت في لغة العرب جميعًا لا تجد كلمة تصلح أن توضع
مكان كلمة في كتاب الله عز وجل، لذلك يذكر أهل البلاغة هذه القصة المشهورة بين الخنساء وحسان رضي الله عنهما.
يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى
…
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابن محرق
…
فأكرم بنا خالًا وأكرم بنا ابنما
قال حسان هذين البيتين وكانت الخنساء رضي الله عنها تكلمه في هذين البيتين، هذا الأمر بالطبع قبل الإسلام يعني هذه مرحلة في سوق عكاظ عندما كان يجتمع الشعراء ويتعرضون لما يُسمى مجالس النقد الأدبي، فالخنساء رضي الله عنها تقول لحسان رضي الله عنه: ضعفت افتخارك وأبرزته في ثمانية مواضع أي أنها لاحظت في هذين البيتين ثمانية مواضع كانت سببًا في إضعاف الافتخار الذي أراده حسان رضي الله عنه، هو يريد أن يفتخر، فقال هذين البيتين، فهي تقول له أنت أضعفت هذا الافتخار وجعلته ضعيفًا بسبب استخدامك هذه الكلمات وبدأت تعد له هذه الكلمات التي قالها.
فقالت: قلت لنا الجفنات والجفنات ما دون العشر فقللت العدد، ولو قلت الجفان لكان أكثر، وقلت الغر والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت: البيض لكان أكثر اتساعًا، وقلت: يلمعن واللمع شيء يأتي بعد الشيء ولو قلت يشرقن لكان أكثر، لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: بالضحى ولو قلت: بالعشي لكن أبلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت: أسيافنا والأسياف دون العشر ولو قلت سيوفنا كان أكثر، وقلت: يقطرن فدللت على قلة القتل ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم، وقلت دمًا والدماء أكثر من الدم، وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدوك، فعدت له رضي الله عنها ثمانية مواضع في بيتين من الشعر، ومن حسان كما تعلمون شاعر فحل
من شعراء العرب في الجاهلية، وأدرك الإسلام وكان من الشعراء المخضرمين وهو شاعر الرسول -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.
من هذا المدخل تعرف قيمة التأثير المعنوي لألفاظ القرآن؛ بأنه لا يستطيع أحد أن يضع لفظًا مكان لفظ؛ لأن هذا السياق وهذا الإبداع في استخدام الحروف وتكوين الكلمات- هذا واضح جلي في كتاب الله سبحانه وتعالى بأنه ليس في قدرة أحد أن يشكك في هذا الكلام، فإن البلغاء مهما بلغوا يُعترض عليهم، ونجد من يستطيع أن يحذف كلمة ويضع غيرها، أما القرآن بتأثيره فلا يستطيع أحد أن يلحظ ملاحظة أو أن يدعي أن هناك كلمة تؤدي المعنى في جمال هذه الكلمات التي ذكرها المولى سبحانه وتعالى.
فهذه الدقة في اختيار الألفاظ التي لا يُستطاع أن تبدل أو تغير- هذه الدقة تحدث أثرًا نفسيًّا عظيمًا على من يتلقاها وتؤثر في حسه، لأنه لا يستفرغ جهدًا في التفكير فيها أو البحث عن بديل أو عن معنى آخر يريده، وإنما هو جهده في الإصغاء والتروح بهذا الضرب الجميل من الألفاظ، فصارت ألفاظ القرآن وطريقة استعمالها ووجه تركيبها كأنها فوق اللغة، فإن أحدًا من البلغاء لا تمتنع عليه مع فصاحته التي أرادها وهي بعد في الدواوين والكتب، ولكن لا تقع له مثل ألفاظ القرآن في كلامه وإن اتفقت له نفس هذه الألفاظ بحروفها ومعانيها إلا أنها في القرآن تظهر في تركيب متميز، وبهذا ترتفع إلى أسمى أنواع الدلالة اللغوية والبيانية، فتخرج من لغة الاستعمال إلى لغة الفهم، وتكون بتركيبها المعجز طبقة عقلية في اللغة تجعلك تفكر فيها بعدما انشغلت أحاسيسك بها.
النقطة الرابعة التي تتعلق بموضوع الحروف: هو الكلام عن الحروف المتماثلة:
الحروف المتماثلة: أي المتشابهة مع بعضها البعض، ويُقصد بها عند الكلام على استخدام الفاصلة في القرآن الكريم، وختام الآيات في كتاب الله سبحانه وتعالى، هذا التماثل
الذي يأتي مع الحروف الفواصل بوجه خاص، وسياق الآيات بوجه عام، يعني هناك تجد مثلًا ما يُقال في علماء البلاغة عندما يلحظون أن الحرف إذا تكرر يعطي ثقلًا في الكلام، أما في القرآن تجد مثلًا حرف الميم تكرر متتاليًا ولم يعطِ ثقلًا وإنما أعطى جمالًا وروعة:{وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَك} (هود: 48)، لو نطقت هذه الآية الكريمة في سورة هود {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَك} تجد نفسك تحرك حرف الميم ما بين أصلي وما بين ناتج عن الإدغام وما بين ناتج عن الغنة، هذا حرف الميم يتكرر متتالي ويعطي جرسًا موسيقيًا عاليًا تستمتع به وأنت تقرأ الحرف مع أنه حرف واحد متماثل، أما في الفواصل كان هذا الاهتمام في هذا المجال بها، الاهتمام بالفاصلة أو رء وس الآي، وهي الكلمة الأخيرة في الآية، فإن لفظ الفواصل قد يُتسامح في إطلاقه على جمل في درج الآية، كما قالوا في قوله تعالى:{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغ} (الكهف: 64).
فعندما برروا حذف الياء قيل لأجل الفاصلة، يعني الأصل أن الفعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة معتل الآخر، فليس مجزومًا كي تُحذف الياء التي هي حرف العلة المنتهي به الفعل، وإنما حُذفت في هذه الآية مع أن الفعل مرفوع وأثبتت في قوله تعالى:{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} (يوسف: 65) والفعل مرفوع فعندما عللوا سبب الحذف في آية الكهف قالوا: لأجل الفاصلة كذلك في قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} (القمر: 8) هي إلى الداعي، فحُذفت الياء اللفظ من الاسم المنقوص مع وجود الألف واللام مع أن القاعدة إثبات الياء في مثل هذا الوضع، قيل أيضًا: لأجل الفاصلة، وهذا كلام سيبويه رحمه الله، فأطلق لفظ الفاصلة على درج الآية، أي جملة من جمل الآية في وسطها، ذلك حدث أو تسومح أو كان على وجه المسامحة.
أما الأصل أن تُطلق الفاصلة على نهاية الآية أو رأس الآية، هذه الفواصل -أيها الابن الحبيب- إذا تأملتها تجد أنها تؤدي دورًا بلاغيًّا جميلًا في النص وفي النسق القرآني:
أولًا: تتيح استراحة لقارئ القرآن، يستريح ينتقل من آية إلى أخرى.
ثانيًا: تحدد نهايات الآيات وبداياتها فيما عدا مواضع في القرآن أنت تعرفها من خلال قراءتك لكتاب الله تجد أن معنى الآيتين متصل، فلا يحسن أن تقف على الآية مثلًا خاصة لو كان في أمر الصلاة أو كذا، فلا يحسن أن تقف على الآية وتركع ثم تأتي لتبدأ بالآية التي بعدها لاتصال الآيتين بعضهما ببعض، وهذا في مواضع معدودة في كتاب الله عز وجل أما الأصل فهو الوقوف على رؤوس الآي.
ثالثًا: تمكن القارئ من حسن الأداء وتتيح للسامع فرصة حسن المتابعة.
أما النقطة الرابعة: فهي تحدث انسجامًا صوتيًا يستولي على القلوب ويستقطب العقول ويأسر الأسماع.
هذا دور الفواصل في إجماله وأثره من الناحية الأدائية ومن ناحية الأصوات، والفاصلة هي عبارة عن حرف يُختتم به كلمة، هذه الكلمة يُختتم بها الآية فانظر -رحمك الله- إلى الفواصل في كتاب الله وخواصها، تكلمنا عن فائدتها والآن نتكلم عن خواصها وأنها كيف تميزت في كتاب الله سبحانه وتعالى بهذا الشيء الذي تراه.
يقول الرافعي: وما هي هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقًا عجيبًا، يلائم نوع الصوت والوجه الذي يُساق عليه بما ليس وراءه في
العجب مذهب، تراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها، أو بالمد وهو كذلك طبيعي في القرآن فإن لم تنتهي بواحدة من هذه كأن انتهت بسكون حرف من الحروف الأخرى كان ذلك متابعة لصوت الجملة وتقطيع كلماتها، ومناسبة للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه وعلى أن ذلك لا يكون أكثر ما أنت واجده إلا في الجمل القصار، ولا يكون إلا بحرف قوي يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما مما هو دروب أخرى من النظم الموسيقي.
يقصد الرافعي في كلامه أن هذه الفواصل وختامها يوافق ما ذهب إليه العلماء في رؤية كلام العرب أنهم عندما يريدون التغني أو يريدون إحداث نغمًا في كلامهم وفي أشعارهم يختاروا حروف اللين أو حروف المد للانتهاء بها، أو حرف النون وحرف الميم، ولذلك تجد روائع القصائد ما يُسمى بالميمية والنونية التي تنتهي بهذه الأحرف التي تُحدث نغمًا صوتيًا يألفه السمع، هذا تجده في كلام الله سبحانه وتعالى مع هذا الذي تحدثه الفواصل يعهده العرب ويعرفونه في كلامهم وفي أشعارهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.