الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهدت لهذه المعاني، وأقوال العلماء فيها لم تكن على إطلاق أن الحرف يأتي لأكثر من معنى، وإنما الأساس هو السياق الذي يرد فيه الحرف، وهذا وجه من وجوه الإعجاز في استخدام الحرف.
والمسألة الثانية هي: قضية حروف الزيادة، وقضية حروف الزيادة نكتفي فيها الآن بأن نقول:"إنّ الزّيادة المقصودة لا تعني زيادة في اللفظ، ولا في المعنى، وإنّما هو مصطلحٌ يَضعُه النحاة، يَدُلّ على أنّ الحرف لا يؤثر في الإعراب".
كيف كان استخدام حروف المعاني وجهًا من وجوه الإعجاز اللغوي
؟
نأتي الآن إلى القسم الثاني من الدرس وهو: الكلام عن سر الإعجاز، أو كيف كان استخدام حروف المعاني وجهًا من وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم؟
وهذا ما أشار إليه المدققون كابن الأثير في كتابه (المثل السائر) عندما عقد فصلًا في الحروف العاطفة والجارّة، وبيّن فيه: أنّ كلامه لا ينصب على الناحية النحوية، ولكنه عقد هذا الفصل؛ لأن أكثر الناس يضعون هذه الحروف في غير مواضعها، فيجعلون ما ينبغي أن يجر بـ"على" مجرورًا بـ"في"، وأن هذه الأشياء فيها دقائق وأسرار.
وبدأ رحمه الله يعرض لنا نماذج من حروف العطف؛ فأتى بقوله تعالى: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِين * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين} (الشعراء: 79 - 81) فالمولى سبحانه وتعالى استخدم في هذه الآيات الثلاث ثلاثة أحرف للعطف: "الواو والفاء وثم" فالأول عطفه بالواو، التي هي
للجمع، وتقديم الإطعام على الإسقاء، والإسقاء على الإطعام جائز؛ لأنّ الواو كما قلنا لمطلق الجمع، فتقدم سابق على لاحق، أو لاحق على سابق؛ فهذا جائز لولا مراعاة حسن النظم في الآية الكريمة.
ثم عطف الثاني بالفاء؛ لأن الشفاء يعقب المرض بلا زمان خال من أحدهما، فالإنسان في حياته إما أنه معافى، وإما أنه مريض، لا فترة بين العافية والمرض؛ فمن ثَمّ عُطف بالفاء. وعطف الثالث بـ"ثم" لأن الإحياء يكون بعد الموت بزمان، ولهذا جيء في عطفه بـ"ثم" التي هي للتراخي.
فيستدل بقوله أنه لو قال قائل في موضع الآية "الذي يطعمني، ويسقيني، ويمرضني، ويشفيني، ويميتني، ويحييني" كان كلامه كلامًا تامًّا، إلّا أنّ هذا الكلام لن يكون بهذا الوجه من العرض، ومن الأسلوب، ومن النظم لكلام الله سبحانه وتعالى.
واستدل أيضًا بقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَه * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَه * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَه * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَه * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَه} (عبس: 17: 22) يقول: ألا ترى أنه لما قال: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ} كيف قال: {فَقَدَّرَه} ولم يقل: "ثم قدره" لأن التقدير لما كان تابعًا للخلقة، وملازمًا لها عطفه عليها بالفاء، وذلك بخلاف قوله:{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَه} لأن بين خلقته وتقديره في بطن أمه، وبين إخراجه منه وتسهيل سبيله مهلة وزمنًا؛ فلذلك عطفه بـ"ثم".
وعلى هذا جاء قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَه * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَه} لأنّ بين إخراجه من بطنه أمه وبين موته تراخيًا وفُسحة، وكذلك بين موته ونشوره أيضًا؛
ولذلك عطفها بـ"ثم"، ولما لم يكن بين موت الإنسان، وإقباره أي: دخوله القبر تراخ ولا مهلة عطفه بالفاء.
فبين رحمه الله في هذين النموذجين كيف كانت الدقة في استخدام الحرف في موضوعه، ولا يجوز أن يوضع حرف آخر مكانه، وأتى بشاهد لطيف من قوله تعالى في قصة مريم عليها السلام:{فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} (مريم: 22 - 23) استشهد بأنّ المُفسرين اختلفوا في حمل مريم عليها السلام وهل حملتْ حَمْلًا كسائر النساء أخذ مدته المعهودة، أمْ أنّ حَمْلَها كان على غير عادة النساء؛ فحملت في زمن قريب ليس بالفترة التي يعهدها النساء في حملهن.
فقال: إنّ الآية الكريمة مزيلة للخلاف؛ لأنها دلت صريحًا على أن الحمل والوضع كانا متقاربين على الفور، من غير مهلة، فالمولى سبحانه وتعالى استخدم حرف العطف الفاء {فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} فالآية حسمت الخلاف إذا نظر في استخدام الحروف العاطفة فيها.
وهناك مثال رائع، وهو مع فعل المطاوعة؛ فإن هذا الفعل لا يعطف عليه إلا بالفاء دون الواو، تقول: كسرته فانكسر، وفتحته فانفتح
…
إلى آخره، فأتى بقوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (الكهف: 28) فقوله سبحانه وتعالى: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الناظر فيه لو كان هذا السياق في غير القرآن لقال: إنه يؤتى في هذا الموضع بالفاء؛ فيقال: "فاتبع هواه" ولا يقال: "واتبع هواه" لأن الفعل هنا من أفعال المطاوعة، ولكن النظم القرآني البديع بين أن هذا الفعل في
هذا الموضع ليس على معنى المطاوعة، وإنما هو على معنى غفل {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} أي: غفل قلبه عن ذكرنا.
ومن ثَمّ فإنّ المولى سبحانه وتعالى كأنه يقول: "ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه" أي: لا تطع من فعل كذا وكذا؛ فعدد أفعاله التي توجب ترك طاعته، ولعل في القراءة الشاذة:"ولا تطع من أغفلَنا قلبه" بفتح اللام في "أغفل" وبرفع قلبه على الفاعلية ما يؤيد المعنى الذي ذهب له ابن الأثير في هذا الموضع.
وبعد ذلك انتقل على استخدامات حروف الجر، وضرب مثالًا بقوله تعالى:{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِين} (سبأ: 24) يقول: ألا ترى إلى بداعة هذا المعنى المقصود بمخالفة حرفي الجر ها هنا؛ فإنّه إنّما خُولف بينهما في الدخول على الحق والباطل؛ فمَع الحقِّ قال المولى سبحانه وتعالى: {لَعَلَى هُدًى} (الحج: 67) ومع الباطل استخدم حرف الجر "في"{أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِين} (سبأ: 24).
لأنّ صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يرقد به حيث شاء، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجه، فمن ثم استخدم "على" مع الهدى والحق، واستخدم "في" مع الضلال، وهذا استخدام القرآن الكريم كقوله تعالى:{قَالُواْ تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيم} (يوسف: 95) مع أن المتحدث لو وضع حرفًا مكان حرف لكان ذلك جائزًا، إلّا أنّ الاستخدام القرآني يرنو إلى الدقة، وإلى الفصاحة في استخدام الحروف؛ فمن الناس من يقول:"أنت على ضلالك كما أعهدك" فيأتي بـ"على" بموضع "في" وإنما الأولى أن تكون مع الضلالة حرف "في" ومع الهداية حرف "على" كما استخدمه القرآن الكريم.
وضرب مثالًا آخر بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (التوبة: 60) التفرقة بين استخدام اللام {لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ} وبين استخدام "في"{فِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} فاستدل بذلك على أن الطائفة الأخيرة المذكورة "عتق الرقاب والغارمين وفي سبيل الله" أنّ هؤلاء أولى بالصدقات من غيرهم، ومِنْ ثَمّ استُخْدِم معهم حرفُ الجَرّ "في" الذي يُفيد الظّرفية، وكُرّر مرة ثانية، وفصل به بين الغارمين، وبين سبيل الله؛ ليعلم أن سبيل الله أوكد في استحقاق النفقة فيه. وهذه لطائف يتنبه إليها من ينظر في كتاب الله سبحانه وتعالى.
وبقي أن أشير لك إلى أن هذا الفن الذي أضاء جنباته ابن الأثير في كتابه، وضرب له أمثلة، هناك من صنف فيه كتبًا مستقلة لهذه المسألة، في الاستخدامات في القرآن الكريم بإتيانه حرف مكان حرف، أو بإتيان لفظ مكان لفظ آخر، ومن ذلك كتاب (درة التنزل وغرة التأويل) للخطيب الإسكافي المتوفى سنة أربعمائة وعشرين للهجرة، هذا الكتاب أفرد فيه الآيات التي تشابهت في مواضعها، واستُخدم فيها أداة في موضع، وأداة أخرى في موضع آخر؛ أو لفظ في موضع، ولفظ في موضع آخر.
ونضرب لك بعض الأمثلة التي عرضها لما نحن بصدده وهو: حروف المعاني: فأضرب مثالًا لما أتى به بموضع وضع فيه حرفان للعطف، والموضعان متشابهان، وهما كقوله تعالى:{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (البقرة: 35) وجاءت في سورة الأعراف: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (الأعراف: 19).
فجاء في موضع "وكلا" وجاء في موضع آخر "فكلا" فاستخدمت الواو في الأولى، واستخدمت الفاء في الثانية، مع أن الأصل أن كل فعل عطف عليه ما يتعلق به تعلق الجواب بالابتداء، وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء؛ فالأصل فيه الثاني على الأول بالفاء دون الواو، كقوله تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} (البقرة: 58).
يقصد الإمام هنا أن معنى الشرط إذا كان بين فعلين الثاني مترتب على الأول استخدم معه حرف الفاء؛ لاقتران الشرط بالجزاء، واستدل بهذه الآية الكريمة:{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا} (البقرة: 58) أي: إنْ دخلتم "فكلوا" هذا المعنى في الآية الكريمة.
ثم يبين أن هذا الموضع الذي استشهد به أيضًا له نظير استخدمت فيه الواو، وهو قول الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف أيضًا:{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ} (الأعراف: 161) أي: "وكلوا منها" فاستخدم الواو هنا بدلًا من الفاء، فهناك فرق بين الآيتين كيف؟
الآية الأولى معنى الشرط فيها واضح، بمعنى أن الدخول يترتب عليه الإطعام، أنه يأكل منها، أما في موضع سورة الأعراف كان بصيغة "اسكنوا" فالسكنى لا تستلزِمُ الإطعام، كما أن الدخول يستلزم الإطعام فيها، فلذلك عُطف بحرف الواو بدلًا من حرف الفاء لماذا؟ لأنه لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالابتداء، فعطف بالواو دون الفاء.
في هذه الآية التي بدأ بالحديث عنها وهي في قصة آدم عليه السلام يجدُ أنّ الآيتين تعلقا بالفعل "اسكن" ولم يحدث فرق كما كان في الآية التي حمل عليها القاعدة، وهي "ادخلوا" و"اسكنوا" فالآيتان في الموضع الأول هي "اسكن" وليس فيها الفعل
"ادخل" فيبقى هنا السؤال كما هو ما المراد بالفاء في قوله تعالى: {فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} ؟
يقول: أن الفعل "اسكن" يُقال لمن دخل مكانًا، ويراد به الزم المكان الذي دخلته، ولا تنتقل منه، ويُقال أيضًا لمن لم يدخله "اسكن هذا المكان" يعني: ادخله واسكن فيه.
أي: هذا الفعل يُقال على حالين قد يقال لك بعد الدخول، وقد يقال لك قبل الدخول؛ فإذا قيل لك قبل الدخول على معنى ادخل واسكن، وإذا قيل لك بعد الدخول، فهنا قد حدث لك استقرار في المكان؛ فيطلب منك أن تأكل؛ لأنك دخلت المكان بالفعل، وحدث لك استقرار به، ومن ثم قيل:"فكلا" أي أنه في موضع كان الخطاب بعد الدخول، وفي موضع كان الخطاب قبل الدخول، ورُجّحَ أنّ الخِطَاب بعد الدخول في سورة الأعراف، ومن ثَمّ استُخْدِم معها حرف الفاء؛ لتكون مقابلة لقوله تعالى:{اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} (الأعراف: 18) فيكون دخول آدم عليه السلام وزوجه الجنة في مقابل خروج إبليس عليه اللعنة منها، ويكون ذلك مظهرًا من مظاهر الإبداع في استخدم الحرفين الفاء والواو في موضع متشابه.
ثم أتى بمثال آخر على حروف النفي، سبق أن ذكرنا أن لا ولن يستخدمان لنفي المستقبل مع المضارع، فيأتي هنا الشيخ، ويذكر لنا موضعين قال تعالى:{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمين} (البقرة: 94 - 95) وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} (الجمعة: 6 - 7)
فهنا الموضعان السياق مُتشابه بين الموضعين في ظاهره، لمن لا يتأمل الكلام يظن أن الموضعين متشابهان، واستخدم في أحدهما "لن" واستخدم في الآخر "لا" فيسأل عن الفرق في استخدام "لن" واستخدام "لا" مع أنّ كليهما لنفي المستقبل.
فيقول هنا الشيخ في جواب هذه المسألة: "أن الشرط في سورة البقرة يختلف عن الشرط في سورة الجمعة، فالشرط سورة البقرة متعلق بما يفيد الانتهاء، وبما يفيد التمام؛ لأنهم ذكروا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وأنهم لهم الآخرة، ولا أحد يُشاركهم فيها، فمن ثم كان تأكيد وتأبيد النفي على حالهم باستخدام "لن": {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} .
أما في سورة الجمعة فهم زعموا أنهم أولياء لله، وهذه الولاية لا تستلزم خلودًا، ولا تستلزم استمرارًا في النعيم، وإنما تتطلب ما بعدها من الخلود في دار الجزاء، ودار الكرامة، وهم لم يدعوا ذلك؛ فناسب ذلك استخدام الحرف "لا" وهو أقل من "لن" في إفادة تأكيد النفي، ولا يفيد التأبيد كما أفادت لن".
وهنا مسألة نقف معها، وهي مسألة "التأبيد في حرف لن وفي استخدامه" فالناظر يجد في الآيتين استخدم معهما كلمة "أبدًا"{لَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} فالتأبيد هنا يستفاد من استخدام كلمة أبدًا، أما لفظ "لن" لحاله ولفظ "لا" لحاله لا فرق بينهما، وهذا الذي يرتاح إليه الرأي كما قال ابن هشام، أنّ هذا دعوة لا دليل فيها، كون أن نذكر أنّ "لا" تُفيد النفي فحسب؛ وأنّ لن تفيد تأكيد النفي؛ فهذا كلام ذكرناه قبل ذلك أنه لا دليل عليه.
فإن احتج أحد بقوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} (البقرة: 24) وبقوله تعالى: {لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (الحج: 73) عروض بما ذكرنا من
قوله تعالى: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (مريم: 26) ومن ذكر الأبد في قوله تعالى: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} .
كذلك حرف "لا" كيف يقال: أنه لا يفيد تأبيدًا، وفي سياق الآيات قد جاء ما يفيد فيه التأبيد كقوله تعالى:{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (البقرة: 255) وقوله تعالى: {وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} وقوله تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} (فاطر: 36) فإذًا الذي يرتاح إليه الرأي أن حرف "لا" وحرف "لن" لا يفيدان تأبيدًا من أنفسهما أو بلفظهما، وإنّما التأبيد وعدمه يكون بقرينة السياق، التي هي أساس البلاغة جميعها.
عَرض بعد ذلك مثالًا لاستخدام حروف الجَرّ، أعطينا مثالًا لاستخدام حروف العطف، ومثالًا آخر لاستخدام حروف النفي، ونضرب مثالًا لاستخدام حروف الجر في موضعين متشابهين: قال الله سبحانه وتعالى: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} (البقرة: 136) وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} (آل عمران: 84) إلى نهاية الآيتين فهنا السؤال استخدم في أحدهما حرف الجر "إلى" واستخدم في الأخرى حرف الجر "على" فهل هناك فرق بين استخدام الحرفين؟
هذا هو السؤال والجواب عن هذا السؤال: وجهه الشيخ بمعنى لطيف وهو: أن "إلى" و"على" يختلفان في الدلالة؛ فحرف على موضوع لكون الشيء فوق الشيء، ومجيئه من علو؛ فهي مُخْتَصّة فحرف على يختص بجهة من الجهات الست، ولا يكون على الإطلاق، فهو يأتي من مكان معين، وهذا يناسب الخطاب للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم:{قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} "قل" فالخطاب هنا موجه للنبي صلوات الله وسلامه عليه؛ فناسب أن يستخدم معه حرف الجر
"على" لأن هذا الذي نُزّل عليه صلى الله عليه وسلم ونزل من جهة مولاه سبحانه وتعالى على شخصه الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم؛ ليبلغ به الناس.
بخلاف الآية في سورة البقرة؛ فالخطاب لأهل الإيمان: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} (البقرة: 136) فناسب هنا أنْ يُستخدم حرف الجر "إلى" الذي هو للمنتهى، ويكون المنتهى من الجهات جميعها، فهو ما نُزّل على الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- والاختيار هنا لإلى؛ لأن الخطاب للمسلمين، فاستخدم حرف "إلى" أما في الأولى استخدم حرف "على" لأنه خطاب لنبينا الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
هذه وغيرها من اللطائف التي يراها أهل العلم في استخدامات الحروف، وهذه الاستخدامات كما قلت ليست قرآنًا؛ فهذه الآراء قد تقابل بآراء أخرى، لأنّ كل إنسان يرى ويتذوق من كتاب الله عز وجل ما ينار به إليه، وما يفتح به عليه؛ فربما يوافقك ما يرى، وربما ترى وجهًا آخر، وهذا في حد ذاته من أسرار أعجاز القرآن الكريم من الناحية اللغوية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.