الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مثال بذلك كلمة: براء وبريء، فأهل الحجاز يقولون: أنا منك براء، وتميم يقولون: أنا منك بريء، وجاء في القرآن اللفظان:{بَرَاءٌ} (الزخرف: 26) و {بَرِيءٌ} (الحشر: 16) وكذلك: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} (هود: 81){وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي} (الفجر: 4) فأسر فهي لغة قريش، يقولون: أسريت، وغيرهم من العرب يقولون: سريت.
وهذا باب من اللغة متنافر وموجود، وأهل علوم القرآن أحصوا هذه الكلمات، وذكروها معدودةً، فهذه القراءات السبع المتواترة لم يكن من قبيل الأداء، أما ما هو من قبيله كالمد والإمالة ونحوها، فهذه الظواهر اللغوية كتخفيف الهمزة وتحقيقها، والفتح والإمالة، والإظهار والإدغام، والتفخيم والترقيق، وغير ذلك من الظواهر، كله موافق للغة العرب، ولا نخرجه عن أن الأصل في لغة القرآن هي لغةُ قريش.
مسألة الأحرف السبعة
هذه المسألة أصلها الأحاديث المتواترة الصحيحة المنقولة عن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- في هذا الباب كقوله: ((أقرأني جبريل على حَرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدوني حتى انتهى إلى سبعة أحرف)) والحديث الذي ذكرناه من شأن عمر رضي الله عنه وأرضاه- مع هشام بن حكيم رضي الله عنه وأرضاه-. فانتهى بقوله صلى الله عليه وسلم: ((فاقرءوا ما تيسر منه)) وفي رواية لمسلم عن جبريل عليه السلام أنه قال لرسولنا -صلوات الله وسلامه عليه-: ((إن الله يأمرك أن تُقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه أصابوا)).
وغير ذلك من الأحاديث التي وردت في هذا الباب.
ومِفتاح الكلام عن الأحرف السبعة نبدأ من نهاية ما ذكره الرافعي رحمه الله يقول: لو أن هذا الحديث قد جاء في تأويله نص عن النبي صلى الله عليه وسلم يعين المراد
منه، لما اختلفت أقوال العلماء فيه، وما داموا قد اختلفوا فدعنا نختلف معهم، ونأخذ بالأشبه والأمثل مما يوافق القرآن نفسه، وقد أنزله الله:{الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (الفتح: 4) فإن ذهبت مذهبنا وإلا فخذ ما أحببتَ أو دَعْ.
أثرت أن أذكر عبارة الرافعي؛ لأنه أتى برأي في مسألة الأحرف السبعة، واختاره ورجحه، ورد رأيًّا آخرَ، فكما قال نقول ما قاله رحمه الله. نقول: نحن نوضح المسألة ونختار أيضًا ما نراه في هذه المسألة.
فالأحرف السبعة انقسم العلماء فيها إلى ثمانية أقوال:
- قال قوم: هي سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد.
- وقول ثان يقول: المراد بالأحرف السبعة هي سبع لغات من لغات العرب على معنى أنه في جملته لا يخرج في كلماته عن سبع لغات، وهناك فرق بين القول الأول والثاني؛ لأنه يعني أن الأحرف السبعة إنما هي أحرف سبعة متفرقة في سور القرآن، لا أنها لغات مختلفة في كلمة واحدة باتفاق المعاني هذا وجه الاختلاف بين القول الثاني والأول.
- أما القول الثالث فقالوا: إنها سبعة أوجه من الأمر والنهي والوعد والوعيد والجدل والقصص والمثل، أو من الأمر والنهي، والحرام والحلال، والمحكم والمتشابه والأمثال.
- وهناك قول رابع قال: إن العدد المذكور في الحديث لا مفهوم له، وإنما هو رمز إلى ما ألفه العرب من معنى الكمال في هذا العدد. وهذا استحسنه الرافعي أيضًا.
- القول الخامس: أن المراد بالأحرف السبعة هي القراءات السبع، وهذا أضعف الأقوال وأردها، ولا يحتاج إلى تعليق كما يقال؛ لأن القراءات المتواترة عشرة وليست سبعة.
- القول السادس: أنها سبعة أحرف من الاختلاف لا يخرج عنها، وهذا رأي ابن الجزري، واختاره الرافعي في بداية كلامه ناسِبه لأحد العلماء.
يقول: الاختلاف في الحركات بلا تغيير في المعنى والصورة، يحسِب ويحسَب أن يكون بتغييرٍ في المعنى فقط:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} (البقرة: 37)"فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ" بالتبادل بين "آدم" و"كلمات" بين الرفع والنصب.
أن يكون التغيير في الحروف مع التغيير في المعنى لا الصورة: {تَتْلُو} (البقرة: 102) و {تَبْلُو} (يونس: 30).
أن يكون التغيير في الحروف مع التغيير في الصورة: {الصِّرَاطَ} (الفاتحة: 6) بالصاد و"السراط" بالسين.
أن يكون التغيير في الحروف والصورة: {يَأْتَلِ} (النور: 22) و"يتأل".
أن يكون التغيير بالتقديم والتأخير: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} (آل عمران: 195) أو وقراءة: "وقتلوا وقاتلوا".
أن يكون التغيير زيادة والنقصان: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} (البقرة: 132 و"أوصى بها إبراهيم بنيه".
هذا قول في الأوجه السبعة.
- قول سابع يقول: إن الأوجه السبعة هي الأصول المضطردة مثل صلة الميم -ميم الجمع، وهاء الضمير- ومثل الإدغام والإظهار، والمد والقصر، وتحقيق الهمز وتخفيفه، والإمالة وتركها، والوقف بالسكون وبالإشارة إلى الحركة، وفتح الياءات وإسكانها وإثباتها وحذفها.
- أما الوجه الثامن الذي يُرى في هذا المسألة، ويرجح على غيره: أن الأوجه السبعة هي وجوه التغاير السبعة التي يقع فيها الاختلاف، فاختلاف الأسماء بالإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، تأتي الكلمة مفردةً في قراءة وجمعًا في قراءة، أو تأتي مذكرة في قراءة وتأتي مونثة في قراءة، فكما قرئ تواترًا:{لِأَمَانَاتِهِمْ} (المؤمنون: 8) و"لأمانتِهم".
أما الوجه الثاني للتغير فهو التغير في وجوه الإعراب، كما ضربنا المثل:"فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ"، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}. وكذلك الاختلاف في التصريف:{فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (سبأ: 19) وقرئ: "فقالوا ربُّنا باعَدَ بين أسفارنا"، وقرئ:"ربنا بَعَّد بين أسفارنا". وكذلك الاختلاف في التقديم والتأخير: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} (الرعد: 31) و"أفلم يَأْيَسِي". وكذلك التقديم والتأخير في الكلمات: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (التوبة: 111)"فيُقتلون ويقتلون". وكذلك الاختلاف بالإبدال، سواء كان الإبدال إبدال حرف مكان حرف:{وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} (البقرة: 259) وقرئ بالراء بدلًا من الزاي. وإبدال لفظ مكان لفظ، ومثاله ليس من المتواتر:{كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (القارعة: 5) وقرئت في قراءة ابن مسعود: "كالصوف المنفوش".
والوجه السادس للاختلاف: الاختلاف بالزيادة والنقصان وهذا في المتواتر: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} (التوبة: 100) قرئ: "من تحتها الأنهار" بزيادة "مِن" -وهذا سنتعرض له تفصيلًا في موضوع الزيادة-.
وأما الوجه السابع: فهو اختلاف اللهجات للتفخيم والترقيق، والفتح والإمالة، والإظهار، والهمز، والتسهيل، والإشمام، ونحو ذلك. وهذا أرجح الآراء في معنى الأحرف السبعة؛ لأنه يؤيده الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه يخلو من المحذور الذي يقع فيه بعض الآراء الأخر؛ ولأنه يعتمد على الاستقراء لأوجه الاختلاف في القراءات.
بقي أن نشير فقط إلى الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف، فمن ذلك: صيانة كتاب الله وحفظه من التبديل والتحريف، والتخفيف على الأمة، وتسهيل القراءة عليها، وجمع الأمة على لسان واحد وهو لسان قريش الذي نزَلَ به القرآن الكريم، والذي انتظم كثيرًا من مختارات ألسنة القبائل العربية التي كانت تختلف إلى مكة في موسم الحج وأسواق العرب المشهورة، وأخيرًا الجمع بين حُكمين مختلفين بمجموع القراءتين.
فالخلاصة: هي أن تنوع القراءات يقوم مقام تعدد الآيات، وذلك ضرب من ضروب البلاغة، يبتدئ من جمال هذا الإيجاز وينتهي إلى كمال الإعجاز. ومعنى هذا أن القرآن معجز؛ إذ قرئ بهذه القراءة الأولى، ومعجز أيضًا إذا قرئ بهذه القراءة الثانية، ومعجز أيضًا إذا قرئ بهذه القراءة الثالثة، وهلم جرًّا.
فهذا من أوجه الإعجاز في القراءات القرآنية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.