الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كذلك حكم إتيان المرأة بعد الطهارة من الحيض، اختلف الفقهاء فيه نتيجة اختلاف القراءتين في قوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (البقرة: 222) فقرئ تواترًا: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} وقرئ: "حتى يطَّهرن". فالتطهر والطُّهر على تلك القراءتين اختلف عليه حُكم الفقهاء في إتيان المرأة عقب طهارتها، فهل يكفي أنها تطهر؟ بمعنى: ينقطع دم الحيض عنها فيجوز إتيانها، أم أنه يجب عليها أن تغتسل فتتطهر قبل أن يأتيها زوجها؟ فلذلك اختلف الفقهاء نتيجة تنوع القراءتين؛ فذهب جمهورهم: إلى أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل لزوجها مجامعتها إلى بعد أن تغتسل بالماء، وذهب أبو حنيفة: إلى أن المراد بالطهر انقطاع الدم، فإذا انقطع دم الحيض جاز لزوجها أن يطأها قبل الغسل.
ذلك أمثلة لما نتج عن الخلاف الفقهي الناتج عن القراءات القرآنية.
الإعجاز البياني واللغوي في تنوع القراءات
ننتقل إلى جانب آخر من جوانب الإعجاز في تنوع القراءات، وهو جانب ذو أهمية عظيمة، وهو جانب الإعجاز البياني واللغوي في تنوع القراءات. فإن تغاير القراءات أثَّر لغويًّا في جوانب الإعراب، وكذا في جوانب التصريف، والجوانب البلاغية فيما يتعلق بالتوجيه البلاغي.
فنبدأ بالحديث عن تغاير القراءات في النواحي الإعرابية:
معلوم أن الإعراب يساعد على وضوح المعنى وتحديده، ويزيل اللبس، ويكشف الغموض، ويعطي الكلمات حرية الحركة، فتتنوع التراكيب بتنوع الموقف
والمقامات، وبدون الإعراب تختلط المعاني، ويضطرب فَهْم مراد الله تعالى. وهذه المسألة اهتم بها العلماء كثيرًا، وقد أفردت لها دراستي -الماجستير- بعنوان:(النحو والقراءات عند المنتجبي الهمذاني في كتابه الفريد في إعراب القرآن المجيد).
نأخذ نماذج لهذه الظاهرة:
أولها: تغاير القراءات بين الرفع والنصب، أي: تقرأ القراءة بالرفع وتقرأ بالنصب، وما يترتب على ذلك من أوجه للإعجاز. قال الله سبحانه وتعالى:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (الأعراف: 26) قرئ تواترًا: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} بالرفع "لباس" وقرئ و"لباسَ التقوى" بالنصب. فقرءاة النصب ينصرف توجيهها إلى العطف على كلمة "لباسا": {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} ، و"أنزلنا لباس التقوى" فذلك على معنى العطف، فالباس الذي يواري السوءة الظاهرة، والتقوى التي تواري السوءات الباطنة التي تصيب العبد من أمراض وأدواء في القلب، فالتقوى هي طريق علاجها وطريق التطهر منها، فهذه القراءة تأتي على العطف، وقراءة الرفع تأتي على الاستئناف، على أن "لباس" مبتدأ، و"التقوى" مضاف إليه، وجملة:{ذَلِكَ خَيْرٌ} في محل رفع خبر لكلمة: {لِبَاسُ} . فكأن المولى سبحانه وتعالى ينشأ معنًى جديدًا ويستأنف معنًى جديدًا لأهل الإيمان، بأن خير ما يَلبسون وخير ما يتزينون به هو تقوى الله سبحانه وتعالى.
ومعلوم أن نزول الآية أو سبب نزولها كان يتعلق بما كانوا عليه في الجاهلية من الطواف بالبيت دون ملابس، يطوفون عَرايا بالبيت، فأنزل الله سبحانه وتعالى على عباده
هذه الآية؛ ليبين لهم أن تقوى الله سبحانه وتعالى خير ما يرتدون، وتأتي بتحريم أن يطوفوا بالبيت عرايا. وقوله صلى الله عليه وسلم:((أن لا يطوف بالبيت عريان)) فجاءت القراءة على الوجهين؛ لتؤكد هذا المعنى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} ، "ولباسَ التقوى ذلك خير".
كذلك قرئ في الرفع والنصب قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (المسد: 4) قرئ: {حَمَّالَةَ} بالنصب، وقرئ "حمالةُ" بالرفع، وعلى تلك القراءتين يظهر الفرق بين تعدد الأوصاف المذمومة بهذه المرأة -امرأة أبي لهب- فقراءة النصب تنصرف على أنها مذمومة معينه مخصوصة بهذا الوصف القبيح الذي يضاهيها، أو الذي يناسبها ويشاكلها بأنها حمالة الحطب، وقراءة الرفع على أنها خبر لامرأته:"وامرأته حمالةُ الحطب" هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى عن هذه المرأة. ومعلوم أن القراءات وإن اختلفت إلا أنها تؤدي إلى معنًى واحدٍ، أو تنوع المعنى دون اختلاف، فمعلوم أن القراءات لا تتعارض، أي: لا تعارضَ بينها وإنما تخدم في المعنى الموجه إليه.
كذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} (التوبة: 40) فقرئ: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} على الاستئناف، وقرئ:"وكلمةَ الله" على العطف، أي: جعل كلمة الذين كفروا السفلى وجعل كلمة الله هي العليا. وقد تحدَّث المفسرون في هذه الآية على كون: {هِيَ} ضمير فصل يرجح الرفع بأنها وقعت بين المبتدأ والخبر، فقال الطاهر بن عاشور:{وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام، بأنه أخبر عن "كلمة الذين كفروا" بأنها سارت سفلى، أفاد أن العلاء انحصر في دين الله وشأنه، فضمير الفصل مفيد للقصر، ولذلك لم تعطف كلمة:
{اللَّهِ} على كلمة: {الَّذِينَ كَفَرُوا} إذ ليس المقصور إفادة جعل "كلمة الله" عليا؛ لِما يشعر به الجعل من إحداث الحالة، بل أفادت أن العلاء ثابت لها ومقصور عليها.
وبالطبع هذا الكلام يُحمد من علامة كالطاهر بن عاشور، ولكننا نقول: إن القراءات لا تعارضَ بينها، فعلى قراءة النصب أيضًا {هِيَ} ضمير فصل، فمعلوم أن ضمير الفصل يقع بين المبتدأ والخبر، أو ما أصله المبتدأ والخبر، ومفعولا "جعل" أصلها المبتدأ والخبر. فهذا تذوق منه رحمه الله والمعنى قائم أيضًا مع قراءة النصب، وعطف على "جعل"؛ لأن "جعل" من الأفعال الناصبة لمفعولين أصلهما المبتدأ والخبر.
ذلك مثال وذلك نموذج لتغاير القراءات بين الرفع والنصب.
عندنا أيضًا تغاير القراءات أو تنوع القراءات بين الرفع والخفض، وذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى منها قول الله سبحانه وتعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (البروج: 21، 22) فقوله سبحانه وتعالى: {مَحْفُوظٍ} قرئ تواترًا بالخفض والرفع: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} و"في لوح محفوظٌ". ومعلوم أنه في قراءة الخفض ينصرف الوصف إلى اللوح، فاللوح محفوظ، وفي قراءة الرفع ينصرف الوصف إلى القرآن، القرآن محفوظ، وكلا المعنيين مراد، فإن اللوح محفوظ وإن القرآن محفوظ، وذلك يؤكد حفظَ الله سبحانه وتعالى لكتابه المجيد في أصله وفي تنزيله وبعد تنزيله، والله سبحانه وتعالى حافظ كتابه، وهذا مُفاد من القراءتين، فاللوح محفوظ والقرآن محفوظ، وعلى كلٍّ إذا ثبت الحفظ للوح فهو ظرف للقرآن، ثبت للقرآن الحفظ، فالقراءتان مجتمعتان، والمعنيان متداخلان.
كذلك هناك تنوع القراءات بين النصب والخفض، وهذه أحدثت إثراءً عظيمًا في القواعد اللغوية والقواعد النحوية، وعندنا القراءة المشهورة قراءة حمزة بن حبيب الزيات، قراءة أول سورة النساء:"وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ"(النساء: 1) بالخفض، فقراءة الجمهور وقراءة جمهور أهل الأداء بالنصب:"والأرحامَ" وقراءة حمزة بالخفض "والأرحامِ" هذه القراءة أدت إلى خلاف شديد بين النحاة وبين أهل اللغة ممن يتمسكون بقواعدهم على الغالب الأعم الأشهر، وينكرون من القراءات ما يتعارض مع ما يذهبون إليه من قواعد، فمعلوم أنهم يُلزِمون -مع إعادة الخافض- إعادةَ الخافض مع الخفض، أي: إذا قلت: سلمت عليك ومحمدًا، فذلك لا يجوز، فلا بد أن تقول: سلمت عليك وعلى محمد، وذهبت إليك وإلى علي، فلا يصح ألا تعيدَ الجار، فجاءت القراءة هنا حجة عليهم في عدم إعادة الجار، فقال الله سبحانه وتعالى:"وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ" ولم يقل: "وبالأرحامِ" فلم يعد الخافض، وإن كان إعادة الخافص هو الشهير وهو لغة القرآن:{عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ} (هود: 48){إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ} (الزمر: 65){لِي وَلِوَالِدَيَّ} (نوح: 28).
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي أظهرت هذه المسألة.
تنوع القراءات في التصريف، أي: علم الصرف، وما يتعلق به من قواعد أفادت الصرفيين، وانبني عليها إعجاز في قول الله سبحانه وتعالى وفي القراءات المتواترة:
من النماذج التي تُصور الإعجازَ في تنوع القراءات صرفيًّا قول الله سبحانه وتعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} (الحجر: 41) فقرئت: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ} بفتح اللام والياء على أنها اتصلت بها ياء المتكلم، وهذه قراءة الجمهور، وقرئت:"هذا صراط عليٌّ" بكسر اللام ورفع الياء منونًا. فمعلوم أن "علي" هي
جار ومجرور و"عليٌّ" صيغة من صيغ المبالغة على وزن "فعيل" فتنوع القراءتين هنا أوضح أمرًا ظاهرًا، وهو أن اللفظ الواحد أدى إلى معنيين مختلفين، لكنهما يتعاونان في إبراز علاقة متداخلة بين القراءتين، على معنى أن قراءة الجمهور استفيد منها وعد الله سبحانه وتعالى بضمان استقامة المخلصين؛ لأنهم على صراطه، وهذه ومَن كان على صراط الله فلا يضل ولا يشقى، وأما قراءة يعقوب فتفيد بأن هذا الصراط رفيع الشأن، عال القدر، وكيف لا يكون كذلك وهو طريق الله ضمن لأهله الاستقامة، ووعدهم بالسلامة، وأحلهم سبحانه وتعالى دار المقامة من فضله لا يسمهم فيها نصب ولا يمسهم فيها لغوب؟
ذلك واضح من تنوع القراءتين بين صيغتين؛ صيغة المبالغة وصيغة الجار والمجرور.
وهناك ظاهرة صرفية أيضًا في تنوع القراءات: أن يأتي اللفظ بالإفراد وبالجمع، وكان من نماذج ذلك ما جاء في سورة يوسف عليه السلام:{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} (يوسف: 7) فقرئت: {آيَاتٌ} بالجمع، وقرئت:"آية" بالإفراد. فبالنظر إلى معنى القراءتين يتضح وجه من وجوه الإعجاز، وهو أن قراءة الجمع {آيَاتٌ} تبين مدى العبرَ العظيمةَ التي وُجِدت في قصة يوسف عليه السلام أما قراءة الإفراد فتبين أن قصة يوسف عليه السلام قصة عظيمة الشأن بها عبرة، وبها آية عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى. فالتقت القراءتان على معنًى يبين عظمَ شأن قصة يوسف عليه السلام في ذاتها، أو بما فيها من عبر متنوعة، ودل على ذلك تنوع صيغتي الجمع والإفراد:{آيَاتٌ} و"آية".
من النوادب أيضًا التي تأتي في مجال الصرف هذا النموذج في قوله تعالى حكايةً عن فرعون: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (الأعراف: 127){سَنُقَتِّلُ} بالتشديد، و"سنقتل" فالقراءتان متواترتان، وهذا