الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مواضع الفصل والوصل
دواعي عطف الجملة على أخرى اسمية أو فعلية، أو ما يسمى بمواضع الوصل:
انتهى العلماء إلى أن الوصل بين الجمل يكون في ثلاثة مواضع؛ الموضع الأول: أن تكون الجملة الأولى لها محل من الإعراب، وأريد إعطاء الثانية هذا الحكم الإعرابي، وكانت هناك مناسبة، ولا مانع من الوصل. والموضع الثاني: أن تتفق الجملتان خبرًا أو إنشاءً، لفظًا ومعنى أو معنى فقط، مع وجود المناسبة بينهما، وليس هناك مانع من الوصل. والموضع الثالث: أن يكون بين الجملتين كمال انقطاع مع إيهام الفصل خلاف المقصود.
الموضع الأول: أن تكون الجملة الأولى لها موقع من الإعراب وأريد إعطاء الثانية هذا الحكم الإعرابي، وكان هناك مناسبة ولا مانع من الوصل: انظر إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 245)، تجد استخدام الواو في قوله تعالى:{وَيَبْسُطُ} فجملة: {يَقْبِضُ} جملة فعلية في محل رفع خبر عن لفظ الجلالة {وَاللَّهُ يَقْبِضُ} ، وعُطِفَت عليها جملة {وَيَبْسُطُ} وأريد إشراكها مع الجملة السابقة في الحكم الإعرابي، إذ المولى سبحانه وتعالى يقبض ويبسط، فيشتركان في حكم إسنادهما إلى المولى سبحانه وتعالى. فالمقصود تصور عظمة الله سبحانه حين يجمع بين القبض والبسط، وبين الجملتين تناسب؛ إذ القبض ضد البسط، والضد أقرب خطورًا بالبال عند ذكر ضده؛ لذا عطفت الجملة الثانية على الجملة الأولى لهذا الغرض.
وكذلك لو نظرت في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (الأعراف: 197)، فجملة:{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} واقعة خبرًا لاسم الموصول، وجملة:{وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} تشارك الجملة التي سبقتها في حكمها الإعرابي، إذ المقصود من الآية الإخبار عن الاسم الموصول بأمرين؛ أحدهما: أنهم لا يستطيعون نصرًا لمن يعبدونهم، والثانية: أنهم لا يملكون نصرًا لأنفسهم؛ لهذا عطفت الجملة الثانية على الأولى، والتناسب واضح بين الجملتين. فبان لك في هذين المثالين ما وضحوه في الموضع الأول بإشراك الجملة الثانية مع الأولى في الحكم الإعرابي. ووجود المناسبة وعدم وجود مانع من الوصل. ولذلك عاب النقاد البيت المشهور لأبي تمام عندما يقول في مدح أبي الحسين بن الهيثم:
زعمت هواك عفا الغداة كما عفا
عنها طلال باللوى ورسوم
لا والذي هو عالم أن النوى
صبر وأن أبا الحسين كريم
ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت
نفسي على إلف سواك تحوم
فالرجل هنا يخاطب محبوبته، ويريد في ثنايا الكلام أن يمدح أبا الحسين بن الهيثم فيقول:
لا والذي هو عالم أن النوى
صبر وأن أبا الحسين كريم
فاستخدم "الواو" ووصل الجملتين مع عدم وجود مناسبة بينهما، وعدم إرادة إشراك الجملتين في الحكم الإعرابيفتساءل العلماء: ما الصلة بين أن النوى صبر -يعني الفراق صعب- وبين كرم أبي الحسين؟ فالرجل هنا قال كلامًا انتقد فيه، وذكر النقاد هذا مثالًا لاستخدام الوصل في موضع لا مناسبة فيه بين
الجملتين، وإن كنت أرى -والله أعلم- أن أبا تمام على قدر من الفصاحة والبيان يدفعه عن الوقوع في مثل هذا الخطأ البَيّن؛ فكأنه يريد في هذا المعنى أن يبرز شيئًا وهو أن أبا الحسين وكرمه قد ملآ عليه جوارحه فإذا به يذكره في مخاطبته لحبيبته، هذا والله أعلم.
والموضع الثاني من مواضع الوصل هو: أن تتفق الجملتان خبرًا أو إنشاءً، لفظًا ومعنى أو معنى فقط، مع وجود المناسبة بينهما وليس هناك مانع من الوصل، وينطبق هذا في ثلاث صور؛ الأولى: اتفاق الجملتين في الخبرية لفظًا ومعنى، انظر إلى قوله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13، 14)، فالجملتان خبريتان مؤكدتان بإن ودخول اللام على الخبر، ووقع بينهما حرف العطف؛ فهما متفقتان في الخبرية لفظًا ومعنى. والتناسب ظاهر بينهما، فالأبرار ضد الفجار، والكون في النعيم ضد الكون في الجحيم، فلذلك عطفت الثانية على الأولى. ومثلها قوله تعالى:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (يونس: 31)، فالجملتان خبريتان لفظًا ومعنى، والتناسب واضح فيهما إذ المسند إليه والمسند فيهما واحد، لذلك عطفت الثانية على الأولى.
الصورة الثانية: اتفاق الجملتين في الإنشائية لفظًا ومعنى، ونظير ذلك كثير في القرآن منه قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31)، فالجمل الثلاث جمل إنشائية الأولى والثانية أمر، والثالثة نهي، والأمر والنهي والاستفهام والنداء كل ذلك ضرب من ضروب الإنشاء. الشاهد أن الجملتين إنشائيتان {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} الجمل الثلاث إنشائية وعُطف بينها
بالواو فلا يصح أن يقال: وكلوا اشربوا لا تسرفوا، فتعين العطف بالواو لوجود الاتفاق في الجملتين لفظًا ومعنى. والصورة الثالثة: اتفاق الجملتين في الخبرية أو الإنشائية في المعنى فقط، وإن اختلفتا في اللفظ.
يعني الصور الثلاث تقسيمة منطقية -كما يقال- الأولى: الاتفاق في الخبر، لفظًا ومعنى، الثانية: الاتفاق في الإنشاء لفظًا ومعنى، الثانية: الاختلاف أحدهما إنشائية لفظًا خبرية معنى، تأمل قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (البقرة: 83)، فجملة:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} عطفت على جملة {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} وجملة: {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} خبرية لفظًا إنشائية معنى؛ فالمعنى فيها على حكاية النهي.
أما جملة: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} فهي إنشائية لفظًا ومعنى إذ التقدير: "وأحسنوا بالوالدين إحسانًا". فهي بصيغة الأمر تكون إنشائية لفظًا ومعنى، وعكس ذلك قوله تعالى:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 1 - 4)، فجملة:{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} خبرية لفظًا ومعنى، وعُطفت على جملة:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وهي خبرية معنى، إنشائية لفظًا؛ لأنّ ظَاهِرها أنها على الاستفهام، والاستفهام ضرب من ضروب الإنشاء؛ أمّا حَقِيقَتُها فهي على الإخبار؛ فإن الله سبحانه وتعالى يُعدد على رسوله الكريم النعم التي أولاه إياها من شرح الصدر، ووضع الوزر ورفع الذكر؛ فالمعنى: شرحنا لك صدرك، وبذلك اتفقت مع الثانية فصح العطف بينهما لوجود الجامع ولا مانع من العطف.
الموضع الثالث من مواضع الوصل: أن يكون بين الجملتين كمال انقطاع، مع إيهام الفصل خلاف المقصود، وهذا يُمثل له البلاغيون بهذه العبارة الجميلة، التي كانت من أبي بكر رضي الله عنه عندما مر برجل في يده ثوب، فقال له الصديق:"أتبيع هذا؟ فقال: لا يرحمك الله. فقال له: لا تقل هكذا، ولكن قل: لا ويرحمك الله". فتجد أن الجملة الأولى خبرية في اللفظ والمعنى؛ فهو يقول: لا، التقدير لا أبيعه فهذه جملة خبرية. والجملة الثانية "يرحمك الله" خبرية في اللفظ إنشائية في المعنى؛ لأنه يريد بها الدعاء، فليس بين الجملتين اتفاق في المعنى، ولكن لما كان عدم استخدام الواو يوهم بخلاف المقصود، بأننا إذا كان الكلام: لا يرحمك الله توهم منه أنه قد يكون داعيًا عليه، لا داعيًا له؛ فأرشده الصديق رضي الله عنه أن يضع الواو أن يقول:"لا ويرحمك الله". لذا وجب العدول عن الفصل إلى الوصل بالواو دفعًا لهذا الإيهام.
ومما استشهدوا به على حسن ذلك ما روي أن الرشيد سأل وزيره عن شيء، فقال له:"لا، وأيد الله الخليفة". لأنه لو طرح الواو وقال: لا أيد الله الخليفة، رُبما تسبب ذلك في هلاكه لظنه أنه يدعو على الخليفة لا يدعو له، ولذا قال من حضر: هذه الواو أحسن من واوات الأصداغ في خدود المرد الملاح.
مواضع الفصل: أي عدم العطف وعدم استخدام الواو وهذه المواضع خمسة: كمال الاتصال، وكمال الانقطاع، والتوسط بين الكمالين، وشبه كمال الاتصال، وشبه كمال الانقطاع. فأول موضع هو: كمال الاتصال: ويقصد به أن تتحد الجملتان اتحادًا تامّا؛ بحيث تنزل الثانية من الأولى منزلة نفسها، ويكون ذلك في ثلاثة مواضع؛
الموضع الأول: أن تكون الجملة الثانية مؤكدة للأولى تأكيدًا لفظيًّا أو معنويًّا، وأشير أن هناك فرقا بين كلام البلاغيين عن التوكيد، وكلام النحاة عن التوكيد؛ فالتوكيد اللفظي عند البلاغيين: يعنى به اتحاد المضمون بين التابع والمتبوع، كقوله تعالى:{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطارق: 17)، فـ {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} توافق الجملة الأولى في اللفظ والمعنى، وهو توكيد لفظي للأولى وبذلك أصبحت الصلة قوية بين الجملتين لا تحتاج إلى رابط؛ لأن التوكيد من المؤكد كالشيء الواحد، ومن ثم ترك العطف لعدم صحة عطف الشيء على نفسه.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1، 2)، فجملة {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} هي مضمون الجملة الأولى {ذَلِكَ الْكِتَابُ} إذ معنى {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} أنه الكتاب الكامل في الهداية، وذلك لما في تنكير {هُدًى} من الإبهام الدالِّ على التّفخيم؛ فهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الكتاب هدى فهو الهداية نفسها، وهذا بعينه هو المقصود من قوله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} إذ إن معناه: ذلك الكتاب الكامل في الهداية، فهي بمثابة التوكيد اللفظي لسابقتها. ومثال التوكيد المعنوي قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 8، 9) فتجد الجملة الثانية: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} لا تختلف من حيث المعنى عن سابقتها {قَالُوا آمَنَّا} (البقرة: 14) لأنهم يقولون: آمنا من غير أن يكونوا مؤمنين؛ فلا فرق في المعنى بين الجملتين؛ فمعنى الآية الثانية يؤكد مضمون معنى الأولى توكيدًا معنويًّا، ومن ثم ترك العطف بالواو؛ لأن اتحاد الجملتين يمنع العطف، كما قلنا لأنّ الشيءَ لا يعطف على نفسه.
والموضع الثاني: أن تكون الجملة الثانية بدلًا من الأولى، والبدل -كما تعرف- أنواع؛ فهناك بدل كل من كل، وبدل بعض من كل، وبدل اشتمال، فمثال بدلِ الكُلّ قوله تعالى:{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (المؤمنون: 81، 82)، فجملة {قَالُوا} الثانية بدل مطابق، أو بدل كل من كل من الجملة الأولى؛ لأنّ الثانية شارحة وموضحة، وأوفى بتأدية المعنى من الأولى؛ فالثانية واقعة موقع بدل الكل منها، ولذا ترك العطف لقوة الربط بين الجملتين. ومثال بدل البعض قوله تعالى:{وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} (الشعراء: 132، 133)، فصلت الجملة الثانية عن الأولى؛ لأن الثانية بمثابة بدل البعض، لأن ما يعلمونه يشمل ما في الجملة الثانية من النعم الأربع، وغيرها من سائر النعم، ومن ثم لم يعطف بين الجملتين بالواو، لقوة الربط بينهما.
وكذا قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} (الرعد: 2)، فجملة {يُفَصِّلُ الْآيَاتِ} بمنزلة بدل البعض من قوله تعالى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} . ومثال بدل الاشتمال قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْم اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (يس: 20، 21)، فـ {اتَّبِعُوا} الثانية بمنزلة بدل الاشتمال من {اتَّبِعُوا} الأولى لأن المراد من الأولى حمل المخاطبين على اتباع الرسل، والجملة الثانية أوفى بهذا؛ لأن معناها: لا تخسرون شيئًا من دنياكم، وتربحون صحة دينكم؛ فيكون لكم جزاء الدنيا والآخرة. والموضع الثالث من مواضع كمال الاتصال: أن تكون الجملة الثانية بيانًا للأولى وإيضاحًا لها؛ أي: عطف بيان يبين الجملة السابقة، ومثاله قوله تعالى:
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} (طه: 120)، فجملة {قَالَ يَا آدَمُ} بمنزلة عطف البيان من الجملة الأولى {فَوَسْوَسَ} وعطف البيان لا يُعطف على متبوعه، ومن ثم ترك الوصل بالواو وفصل بين الجملتين.
الموضع الثاني من مواضع الفصل هو: كمال الانقطاع، وكمال الانقطاع معناه أن يكون بين الجملتين تباين تام، كأن تختلف الجملتان خبرًا وإنشاءً، لفظًا ومعنى، وذلك كقوله تعالى:{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9)، {أَقْسِطُوا} جملة إنشائية لفظًا ومعنى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} جملة خبرية لفظًا ومعنى، فبينهما تباين تام وانقطاع كامل، مما يستوجب الفصل بينهما، وليس في الفصل ما يوهم خلاف المقصود فيجب الوصل، كما في الصورة الثالثة من كمال الاتصال وهي قول الصديق رضي الله عنه:"لا ويرحمك الله". ومثلها قوله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (فصلت: 34)، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} جملة خبرية لفظًا ومعنى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} جملة إنشائية لفظًا ومعنى.
الصورة الثانية: يمثل لها البلاغيون بقولهم: نجح خالد وفقه الله، فالجملة الأولى خبرية لفظًا ومعنى، والجملة الثانية خبرية لفظًا إنشائية معنى، وليس في الفصل بينهما ما يوهم خلاف المقصود. والصورة الثالثة: ألا يكون بين الجملتين مناسبة أصلًا، ويمثلون لها بقول الشاعر:
الفقر فيما جاوز الكفافَ
…
من اتّقى الله رجا وخاف
فلا صلة بين الجملتين؛ ولذا تعين الفصل وعدم الوصل بالواو. الحالة الثالثة: ما يسميه البلاغيون شبه كمال الاتصال، وهو: أن تكون الجملة الثانية جوابًا عن سؤال يفهم من الجملة الأولى، وهذا ما اهتم به الجرجاني وذكر له أمثلة عديدة في كتابه (دلائل الإعجاز) من ذلك قوله تعالى:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يوسف: 53) ففصلت الجملة الثانية {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} عن الأولى؛ لأنها واقعة في جواب سؤال مقدر، وكأنه قيل: هل النفس أمارة بالسوء؟ فقيل: {إنّ النّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} . وكذلك في قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود: 46)، ففصلت الجملة الثانية {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} عن الأولى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} لأن الثانية وقعت جوابًا لسؤال الجملة الأولى، وهو كيف لا يكون من أهلي وهو ابني؟! فكان الجواب عن ذلك:{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فالجملة الثانية مرتبطة بالأولى ارتباطًا وثيقًا كما يرتبط الجواب بالسؤال ولهذا ترك العطف؛ لأنّ الجواب لا يعطف على السؤال.
ومنْ ذَلك كل ما ورد في القرآن الكريم من الجُمل المصدرة بلفظ "قال" مفصولًا عما قبله كقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ} (الذاريات: 24 - 28). كأنها حوار فيه استفسارات وإجابات عنها وارجع إلى (الدلائل) فإنه بينها تمام البيان. الموضع الرابع من مواضع الفصل: هو شبه كمال الانقطاع: وهو أنتسبق جملة بجملتين، يَصِحُّ عطفها على إحداهما، ولا يصح عطفها على الأخرى لفساد المعنى؛ فيترك العطف كلية، دفعًا لتوهم أن تكون الجملة
معطوفة على التي لا يصح العطف عليها، وهذا الموضع فيه كلام، واستدل له البلاغيون بشواهد من الشعر، وبينوا أن هذه الشواهد يُمكن أن تحمل على شبه كمال الاتصال فتدخل فيه؛ فلذا رأى العلامة أبو موسى أن هذا الوجه الرابع من أوجه التكلف، ولكننا نوضح البيت الذي استشهدوا به جريًا على ما صنفوا في تصانيفهم في هذا الباب وهو قول الشاعر من بحر الكامل:
وتَظُنّ سَلْمَى أنّني أبْغِي بها
بدلًا أُرَاها في الضلال تهيمُ
فجملة "أراها في الضلال تهيم" لم توصل بالواو، وفصلت مع وجود الجهة الجامعة بين الجملتين؛ وذلك لئلا يتوهم السامع أنها معطوفة على جملة "أبغي بها بدلًا" لقربها منها؛ فتكون حينئذٍ من مضمونات سلمى، ويصير المعنى:"أن سلمى تظن أنني أبغي بها بدلًا، وتظن أنني أظنها تهيم في الضلال" وليس هذا مراد الشاعر وإنما مراده: أن سلمى مخطئة في زعمها أنني أبغي بها بدلًا. والموضع الخامس وهو: التوسط بين الكمالين مع قيام المانع من الوصل، وهو: أن تكون الجملتان متفقتين خبرًا أو إنشاءً، وبينهما رابطة قوية، لكن يمنع من العطف مانع، وذلك بأن يكون للجملة الأولى حكم، لم يقصد إعطاؤه للثانية.
ومثال ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} (البقرة: 14، 15)، ففصلت جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} عن جملة {إِنَّا مَعَكُمْ} مع التناسب ووجود الجامع بينهما المصحح للعطف، لوجود المانع وهو أنه لم يقصد تشريك جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} لجملة {إِنَّا مَعَكُمْ} في الحكم الإعرابي، وهو أنها مقول القول؛ فيقتضي ذلك
أن جملة {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} تكون من مقول المنافقين، وهي ليست كذلك بل هي من كلام الله سبحانه وتعالى ولذلك فصل بينها.
وهذا باب دقيق من أبواب البلاغة -كما ذكرت لكم- وبهذا تنتهي الصور الخمس لمواضع الفصل التي ذكرها البلاغيون، ويبقى لنا فقط تعليق على هذه المواضع من كلام العلامة أبي موسى، وبيان محسنات الوصل، واستخدامه في الكلام.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.