الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذه الأغراض -كما قلنا- يمثلون لها بأمثلة وبجُمل من الكلام، وأشياء يحتجون بها بذكر المسند إليه، وأعجبها -كما أشار أستاذنا الدكتور شفيع- قولهم التسجيل على السامع بين يدي القاضي؛ حتى لا يكون أمامه سبيل إلى الإنكار، ومثَّلوا بذلك بأن يقول للقاضي مثلًا عند التسجيل عليه كتابةً: إنما فهم الشاهد أنك أشرتَ إلى غيره، فأجاب بما أجاب به، يعني: هذه مسألة غريبة، يعني: يقول الشاهد: نعم، فلان هذا أقرَّ أمامي بكذا، من الأشياء التي ذكروها، ومن الأشياء التي عدت في ذكر المسند إليه.
المسند، ودواعي وأغراض ذكره
النقطة الثانية في دواعي الذكر هي ذكر المسند، المسند أي: الفعل أو الخبر.
معلوم أن الأصل هو الذكر، فإذا ما ذكر كان ذلك هو الأصل في الكلام، فذكروا من الأغراض التي ذكروها في ذلك أيضًا الاحتياط لضعف التعويل على القرينة، أي: أن في الكلام قرينةً تدل على المحذوف لو حذف، إلا أنه ليس لها من القوة والإيضاح ما يلهم السامع المعنى، وذلك كقولك لمن سألك: مَن أكرم العرب وأشجعهم في الجاهلية؟ تقول في جوابك: عنترة أشجع العرب، وحاتم أجودهم، فتذكر أشجع وأجودَ؛ خشيةَ أن يلتبس على السامع إذا قلت: عنترة وحاتم، من غير أن تعين صفة كل واحد منهما، فلا يدرى أيهما الأشجع والأجود.
ومن الأمثلة التي ذكروها قولهم: عقل في التراب وحظ في السحاب، ومن العجيب أنهم ذكروا هذا المثال مع أنه نحوي لا يستقيم ذكرُه، فإن في التراب وفي السحاب، لا يصح فيهما أن يكون مسند؛ لأنها تدخل في المتعلقات؛ لأن كلمة
عقل وحظ نكرة، والنكرة إذا ما وقع بعدها الجار والمجرور كان صفة لها، وليس خبرًا، وإلا سار المبتدأ هنا لا مسوغ للابتداء به مع كونه نكرةً.
كذلك أيضًا ذكروا من الأغراض بذكر المسند: التعريض بغباوة السامع، واستدلوا لذلك بقوله تعالى حكايةً عن إبراهيم عليه السلام عندما سئل:{أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء: 62) فقال عليه السلام: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} (الأنبياء: 63) كان يمكنه في الجواب أن يقول: بل كبيرهم هذا، لكن المسند الفعل ذكره عليه السلام ليبين لهم أنهم أغبياء، حيث يظنون أن هذه الآلهة تستطيع أن تفعل شيئًا، وكذلك يظهر من خطابه عليه السلام أنه يسخر منهم، ويتهكم على أصنامهم، وكأنه يقول لهم: إن مقتضى عبادتكم لهؤلاء الأصنام أن تكون فيها حياة، ولها قدرة وإرادة تمارس بها سائر شئون الحياة، وإذا سلمتم بذلك فلا مجالَ بإنكار أن يقوم كبيرهم بتحطيم الآخرين، فإن كانت مجرد حجارة صماء لا حياة فيها فَلِمَ تعبدونها؟!!
وكذلك ذكروا من أهم الأغراض لذكر المسند: زيادة تقرير المعنى وتوضيحه، واستدلوا بذلك بقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف: 9) فإن المسند لو حُذِفَ لدل عليه السؤال، وقد جاء محذوفًا في آيات أخرى، كما في قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61){وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (لقمان: 25) إلا أن المقصد من ذكره في آية الزخرف زيادة تقرير خلق الله السماوات والأرض، وكذلك قوله تعالى في أواخر سورة يس: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس: 78، 79) فذكر المسند في قوله: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} .
وفي السؤال ما يدل عليه -كما ترى- والمقصود من الذكر أن يتقرر أن الله أحياها، وفيه إشارة أخرى هي أنه لا يُسأل عن الإحياء بعد الموت، أعني: عن إمكانه، وإنما أنه سبحانه وتعالى لا يسأل عن إحياءٍ بعد الموت، وأن الذي يسأل عن هذا لا يعول في خطابه على ذكاء وهو بادر أو ظاهر عليه أنه لا يفقه كثيرًا ما يسأل عنه وما يقوله.
وفي ختام حديثنا عن أغراض ذكر المسند إليه والمسند أنبه إلى شيئين، وهو ما ذكرته أولًا إلى أن هذه اجتهادات من أهل العلم يستدلون لها بأمثلة من كتاب الله سبحانه وتعالى هذه الاجتهادات قد يضيف بعضهم إليها أغراضًا أخرى، كاجتهاد منه لرؤية ذلك، أو قد يكون ناقلًا عنه في هذا المجال، لذلك نجد الأغراض تتفاوت في الذكر كما حدث مع أستاذنا الدكتور بدوي، فذكر رحمه الله مِن أغراض ذكر المسند إليه تأكيد وقوع المسند إذا كان ذكر اسمه مما يطمئن السامع إليه، واستدل بقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء: 95).
فقال: أَوَلَا ترى في ذكر اسم الله بعد الوعد ضمانًا لتنفيذه كما يذكر أيضًا للتصوير الباعث على الرهبة كما في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا *
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة: 1، 2) فذكر الأرض إلى جانب إخراج الأثقال يصور هذا الجرم الهائل وقد انشق عن فجوات تقذف بما ضمت الأرض من أثقال، وهي المكان المستقر الثابت الذي نجد على سطحه الاستقرار، يصورها مائلةً مضطربةً تحت أقدامنا، فأي فزع يلم بنا عند هذا التصور، وذَكر أيضًا غرضًا ثالثًا وهو الذكر لتأكيد نعمة أدَّاها، فيكون هذا الذكر مثيرًا للشكر كما في قوله تعالى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (الأحزاب: 25) وقال: ألا ترى هذه النعمة الكبرى نعمةَ حقن دماء المسلمين جديرة بذكر المنعم؛ ليشكر؟
وذكر أيضًا في ذكر المسند تثبيت معنى الجملة في النفس، وقد يثير حذفه ما قد يدل عليه معنًى لا يراد، واستدل بذلك بقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 41) ففي تكرير: {لَهُمْ} ما يشعر بكمال قوة الجزائين، ويؤكد على أن العذاب العظيم قد أعد لهم في الآخرة.
وهذه النقطة الأولى.
والنقطة الثانية أن بعض الباحثين أنكر على هذه الأمثلة المصنوعة التي ذُكرت في أغراض ذكر المسند إليه، وأنكر كذلك على طريقة الاستشهاد لبعضها بشواهد شعرية، هذه الشواهد تدخل في باب التكرار أكثر ما تدخل في باب الذكر؛ لأنها تشمل كِلَا الاثنين: المسند والمسند إليه، مع تكرار ذكرهما، وهذه مسألة نبَّه إليها بعض الباحثين.