المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 مقدمة في وجوه الإعجاز

- ‌ماذا نعني بإعجاز القرآن

- ‌الفرق بين معجزة القرآن وسائر المعجزات

- ‌أوجه إعجاز القرآن

- ‌كيفية تحدي نبينا صلى الله عليه وسلم للعرب

- ‌الدرس: 2 تابع: مقدمة في وجوه الإعجاز - الصرفة، والإخبار بالغيبيات

- ‌لماذا نهتم بالإعجاز اللغوي في القرآن

- ‌ثمرة دراسة إعجاز القرآن

- ‌مسألة الصرفة

- ‌الإخبار عن الغيبيات

- ‌الدرس: 3 أوجه إعجاز القرآن الكريم: حفظ التشريع ودوامه

- ‌نظم القرآن

- ‌قدسية القرآن

- ‌الإعجاز اللغوي

- ‌الدرس: 4 الإعجاز العلمي، والعددي، والتصوير في القرآن الكريم

- ‌الإعجاز العلمي في القرآن الكريم

- ‌الإعجاز العددي في القرآن الكريم

- ‌مسألة التصوير

- ‌الدرس: 5 الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن

- ‌مقدمة عن الحروف والأصوات كمظهر من مظاهر إعجاز القرآن

- ‌مظهر الإعجاز في الحروف وأصواتها

- ‌الدرس: 6 تابع: الحروف وأصواتها ودورها في بيان إعجاز القرآن

- ‌حركات الحروف وأثرها على السمع في القرآن الكريم

- ‌مظاهر النسق الصوتي في القرآن الكريم، والأمثلة التي تذكر له

- ‌الدرس: 7 حروف المعاني (1)

- ‌حروف العطف (الواو والفاء)

- ‌حروف العطف (ثم، أو، أم، بل، لكن، لا)

- ‌الدرس: 8 حروف المعاني (2)

- ‌حروف النداء

- ‌حروف النفي

- ‌حرفا الشرط: "إنْ" و"لو

- ‌حرفا الاستفهام "الهمزة" و"هل

- ‌الدرس: 9 حروف المعاني (3)

- ‌حروف التوكيد، وحروف الجر والقسم

- ‌كيف كان استخدام حروف المعاني وجهًا من وجوه الإعجاز اللغوي

- ‌الدرس: 10 القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز

- ‌القِراءة وطرق الأداء

- ‌وجوه القراءة

- ‌الكلام عن قراءة التلحين

- ‌لغة القرآن

- ‌مسألة الأحرف السبعة

- ‌الدرس: 11 تابع: القراءات القرآنية وما بها من أوجه للإعجاز

- ‌الإعجاز في تنوع أوجه القراءات فيما يتعلق ببعض مسائل الاعتقاد

- ‌تنوع القراءات القرآنية من حيث الإعجاز التشريعي

- ‌الإعجاز البياني واللغوي في تنوع القراءات

- ‌القراءات وأثرها في: التوجيه البلاغي، وتنوع الأساليب

- ‌الدرس: 12 مفردات القرآن ووجه الإعجاز فيها

- ‌غريب القرآن أو غرائب القرآن

- ‌ظاهرة الألفاظ المعرضة

- ‌ظاهرة الوجوه والنظائر في القرآن الكريم

- ‌قضية الترادف

- ‌حروف المعجم أو ما يتعلق بالحروف المقطعة

- ‌الدرس: 13 قضية النظم

- ‌التطور الدلالي لمصطلح "النظم" وكيف تطور هذا اللفظ

- ‌معنى النظم عند عبد القاهر الجرجاني رحمه الله

- ‌مادة النظم هي العلاقة بين اللفظ والمعنى

- ‌مزايا النظم وفساده

- ‌الدرس: 14 قضية الذكر والحذف

- ‌المسند إليه، ودواعي وأغراض ذكره

- ‌المسند، ودواعي وأغراض ذكره

- ‌مسألة الحذف، ومزاياه، وأنواعه

- ‌الدرس: 15 تابع: قضية الذكر والحذف

- ‌استكمال أغراض حذف المسند إليه

- ‌أغراض حذف المسند

- ‌ما يتعلق بحذف المتعلقات، وحذف المفعول به

- ‌الدرس: 16 التوكيد في النظم القرآني

- ‌تعريف التوكيد، وأغراضه

- ‌صور وأساليب التوكيد

- ‌الدرس: 17 تابع: التوكيد في النظم القرآني - التكرار في القرآن الكريم

- ‌بعض أدوات وأساليب التوكيد المستخدمة في النظم القرآني

- ‌مسألة التكرير

- ‌الدرس: 18 تابع: التكرار في القرآن الكريم

- ‌نماذج تطبيقية على التكرار في القرآن الكريم

- ‌هل هناك زيادة في القرآن

- ‌الدرس: 19 موقف علماء الصرف والنحو من قضية الزيادة

- ‌الزيادة لدى علماء الصرف

- ‌الزيادة عند علماء النحو

- ‌الدرس: 20 الفصل والوصل

- ‌معنى الفصل والوصل عند النحاة والبلاغيين

- ‌مواضع الفصل والوصل

- ‌الدرس: 21 الفصل والوصل في القرآن

- ‌تعليق الدكتور محمد أبي موسى على مسألة الفصل والوصل في القرآن

- ‌الفروق في الاستخدامات، وما بها من إعجاز بياني في نظم القرآن

- ‌الغاية من دراسة الفروق في الحال

- ‌الدرس: 22 لمحات الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، وإحصاء الشيخ عضيمة

- ‌موازنة بين ما انتهى إليه الجرجاني وعضيمة في استخدام الحال

- ‌الفروق في استخدام الأفعال بأزمنتها المختلفة

- ‌استخدام الجملة الاسمية والفعلية

الفصل: ‌الإخبار عن الغيبيات

‌الإخبار عن الغيبيات

والآن ننتقل إلى جزئية أخرى من جزئيات المنهج المقرر وهي جزئية "الإخبار عن الغيبيات":

الخلاصة: أن الفرق الكلامية التي تحدثت عن هذه المسألة فرقة المعتزلة وهذه قالت بالصرفة، وناقشنا كلامهم، والفرقة الأخرى هم الأشاعرة؛ الأشاعرة ينسبون الإعجاز في القرآن الكريم على الإخبار عن الغيبيات، أن القرآن اشتمل عن أخبار لا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم معرفةً بها؛ هذه الأخبار التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم من أنباء الغيب، سواء أكان شيئًا حدث أو شيئًا سيحدث فإن النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- أخبر عن هذه الأشياء، وهي آية صدقه، وهذا هو الموضوع الذي نقف معه.

اهتم علماؤنا ببيان هذه الخاصية، وهي أن القرآن يشتمل على الغيبيات.

الإخبار عن الغيبيات قسمها العلماء إلى قسمين: إخبار القرآن عن غيبيات ماضية، وإخبار القرآن عن غيبيات مستقبلة.

أولًا: لابد أن نفرق بين إخبار القرآن عن غيب لا يعرفه العرب ولم يشاهدوه أو لم يتطرقوا إليه؛ أذكر هذا الكلام ابتداءً لأن الفيروزآبادي في (بصائر ذوي التمييز) جعل إخبار القرآن عما كان وعما يكون متعلق بالأمور الغيبية؛ يعني الأمور الغيبية التي يُطالب بها أهل الإيمان، من الإيمان بالبعث والحساب والصراط ومن الإيمان بما كان قبل الخلق، وكيف نشأ الخلق، وكيف خلق الله سبحانه وتعالى السموات والأرض، فهذه الأشياء تبصرة لأهل الإيمان، أما أهل الجحود أو الذين لا يؤمنون بالقرآن فكان مدار الحديث معهم على الأشياء التي أخبر بها

ص: 42

النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهم لهم إدراك بها ويستطيعون أن يجادلوه فيها، وأن يحدثوه في أمرها؛ لذلك كلامنا عن الغيبيات الماضية من أحداث وقعت، والغيبيات المستقبلة من أحداث ستقع.

هذا معنى الكلام عن الغيبيات:

أولا إخبار القرآن عن الغيبيات الماضية: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من دلالات القرآن على أخبار الأمم السالفة وأحوالهم مع أنبيائهم وصالحيهم قصة أهل الكهف. يقول: والأمر على ما ذكر السلف، فإن قصة أصحاب الكهف هي من آيات الله، فإن مكثهم نيامًا لا يموتون ثلاثمائة سنة آية دالة على قدرة الله ومشيئته؛ أنه يخلق ما يشاء، فليس كما يقوله أهل الإلحاد، وهي آية على معاد الأبدان، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} (الكهف: 21). وكان الناس قد يتنازعون في زمانهم: هل تعاد الأرواح دون الأبدان أم الأرواح والأبدان؟ فجعل الله أمرهم آية لمعاد الأبدان.

هذا مثال ذكره شيخ الإسلام لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه من الغيبيات الماضية، وتساعد أيضًا قضية الإيمان، ذكر أيضا إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بقصتهم من غير أن يعلمه بشر، فذلك دليل على نبوته، فكانت قصتهم آية على أصول الإيمان الثلاثة؛ الإيمان بالله واليوم الآخر والإيمان برسوله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

ومن هذا المبدأ آيات الله سبحانه وتعالى في هذه السورة، في حد ذاتها سورة الكهف قصص آخر ذكره النبي صلى الله عليه وسلم:{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا} فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة ذي القرنين، وكذلك في سورة يوسف كلها أشياء

ص: 43

تعرّض لها النبي صلى الله عليه وسلم وأسئلة سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب عنها -صلوات الله وسلامه عليه- من الأخبار الماضية ومن الغيبيات الماضية، التي يعلمون يقينًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102) وقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ*حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ*لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 109 - 111).

هذه القصة التي حُكيت من أولها إلى آخرها على رسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- قصة يوسف عليه السلام كما ذكرها المولى سبحانه وتعالى أحسن القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (يوسف: 3) وكثير في القرآن يسألونك ويسألونك، والقرآن مملوء بالأخبار عن الغيب الماضي الذي لا يعلمه أحد من البشر إلا من جهة الأنبياء، الذين أخبرهم الله بذلك، ليس هو الشيء الذي تزعمه الملاحدة والمتفلسفة؛ فإن هذه الأمور الغيبية المعينة المفصّلة، لا يؤخذ خبرها قط إلا عن نبي كموسى عليه السلام ومحمد -عليه أفضل الصلاة والسلام- وليس لأحد ممن يدعي المكاشفات لا من الأولياء ولا من غير الأولياء، أن يخبر بشيء من ذلك، فكان الإخبار الذي يخبر به النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- آيةً على صدقه وآية على أنه -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- لا ينطق عن الهوى، وأنه يخبرهم بما أخبره به الله سبحانه وتعالى، قصص كثيرة جدًّا في الإخبار، والله سبحانه وتعالى وضّحها في القرآن في أكثر من موضع:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102){وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (آل عمران: 44) كثير جدّا في القرآن الكريم:

ص: 44

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} (القصص: 44) غير ذلك من الآيات كثيرة كثيرة توضح هذه المسألة، فجعل الإخبار عن الغيب الماضي علامة على إعجاز القرآن.

الجزئية الثانية: الإخبار عن الغيبيات المستقبلة، الإخبار عن المستقبل هذا كثير في القرآن الكريم، نبدأ بوقعة كان أهل الشرك وأهل العناد والمعاندة لرسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- كانوا يستطيعون من خلال هذه الواقعة ومن خلال هذه الآية أن ينقدوا الإسلام نقدا، وأن يكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم كذبًا، ولكنهم لم يفعلوا ذلك؛ لأن ذلك نبأ مستقبل أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

تتساءل أيها الابن الحبيب: ما هذه الآية أو ما هذا الأمر؟ هو أمر أبي لهب؛ عم النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فأبو لهب هذا كان حيّا يعيش في مكة ويسمع أنه من الهالكين، ويسمع أن امرأته هالكة معه، ومع ذلك لم يفكر أبو لهب ولا زوجه أن يُكذّبوا النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بمعنى: أنهم لو لم يكن ذلك إعجازًا ووحيًا من الله سبحانه وتعالى وأن ذلك أمر الله سبحانه وتعالى كان يمكن هذا الكافر اللعين أن يقول: آمنت بمحمد، فيكذّب خبر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- في قوله:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ*مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} (المسد: 1 - 3) فكيف يكون أمن وسيكون سيصلى نارًا ذات لهب؟! ولكن هذا اللعين لم يفعل ذلك، ودل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن شيء مستقبل وغيب لم يحدث بعد، وهو أنه سيصلى نارًا ذات لهب وأن امرأته كذلك هالكة خاسرة، ومع ذلك لم يكذبا ولم يفعلا ما يناقض كلام النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فكان ذلك إعجازًا.

ص: 45

ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أشياء كثيرة عن الغيبيات المستقبلة، يقول: وفي القرآن من الأخبار المستقبلات شيء كثير، كقوله تعالى:{الم*غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ*فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ} (الروم1 - 5). هذه القصة العجيبة قصة فارس والروم ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم متى؟ ذكرها وقت انتصار الفرس، هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يخبر بأن الروم ستنتصر وأن دولة الفرس ستهزم على يد الروم، وأن ذلك سيحدث في بضع سنين، في الأمر الذي كان يعرّض فيه للتكذيب، ولأنه صلى الله عليه وسلم يُحارب بشتى صور المحاربة، يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر وهو ليس وحيًا يوحى به إليه من الله سبحانه وتعالى، لم يكن من العقل أن يحدث ذلك من رجل يدعو الناس لنبذ معتقداتهم ولترك ما هم عليه من الباطل، فكان خبره صلى الله عليه وسلم بهذا النصر وبهذا الفرح الذي جمع فرح إعجاز في هذه الآية و {يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} وافق انتصار الروم على الفرس انتصار المسلمين في غزوة بدر على المشركين، فجُمع الفرح {يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} وكذلك خبره -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (النور: 55).

هذا الوعد في وقت كانوا تحت طحن المشركين كما يقال وتحت المحاربة الشديدة، وكان وعد الله سبحانه وتعالى بالاستخلاف في الأرض وحدث ذلك في زمن النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وكان العرب جميعًا تحت لوائه -صلوات الله وسلامه عليه، كذلك المسألة المشهورة في قصة الحديبية والفتح في سورة الفتح:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (الفتح: 28).

ص: 46

نختم الكلام عن الغيبيات المستقبلة بما ذكره شيخ الإسلام لبن تيمية من بعض الدلائل في القرآن، نختم بها حديثنا، آيات قرآنية كلها أخبر بها النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وحدثت في زمنه، وكما أخبر -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولم تكن قد حدثت بعد:

من ذلك: قول الله سبحانه وتعالى خبرًا عن المسيح: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 55). وكان كما أخبر.

قوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} (البقرة: 24) فكان كما أخبر، فهم لن يستطيعوا أن يجاروا القرآن أو يعارضوه.

وأنزل الله سبحانه وتعالى في مكة قوله: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ*سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر44: 45) فكان كما أخبر وهزم الجمع وولوا الدبر.

وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (الفتح: 22) وكان كما أخبر.

وأنزل الله سبحانه وتعالى {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة: 14) وكان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} (المائدة: 64) إلى أن قال سبحانه وتعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} (المائدة: 64) وكان كما أخبر سبحانه وتعالى.

ص: 47

وقال: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران: 111، 112).

كل هذه الآيات الكريمة، والخطاب الذي أخبر به رسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- كان كما أخبر -صلوات الله وسلامه عليه- في شأن اليهود وفي شان ما كادوه وما فعلوه معه -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فكل ذلك دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن غيبيات مستقبلة، كانت لم تقع بعد ووقعت في عهده صلى الله عليه وسلم كما أخبر.

ونختم بقصة جميلة كانت لأصحاب الرسول -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- في غزوة الأحزاب: عندما تكالب أساطين الكفر في الجزيرة على رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وتجمعوا من كل فوج واتوا ليقضوا على الإسلام وعلى دعوة خير الأنام، وأحاطوا بالمدينة- كانت بشارة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بأن فتحت له أو ظهرت له كنوز كسرى وقيصر، وكان الصحابة كما يصفون أحوالهم في هذا الحال: لا يأمنون أن يخرجوا إلى الخلاء!! وكان ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بعد ذلك؛ بأن دانت الفرس والروم لدولة الإسلام، ودخل الناس في دين الله سبحانه وتعالى بعد ذلك.

كل ذلك أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- ومصدره القرآن الكريم والآيات الكريمة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 48