الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث منهج ابن رجب في شرح علل الترمذي
تمهيد:
يتألف شرح علل الترمذي من قسمين رئيسين أطلقنا على كل قسم اصطلاح "باب". ولاحظنا أن لكل قسم من هذين القسمين سمات منهجية خاصة، كما أن للكتاب كله سمات منهجية عامة. وبهذا يكون مبحث المنهج في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: منهج ابن رجب في الباب الأول "شرح علل الترمذي".
المطلب الثاني: منهج ابن رجب في الباب الثاني "القواعد والفوائد".
المطلب الثالث: ملاحظات عامة على منهج ابن رجب في الكتاب. ***
المطلب الأول "شرح علل الترمذي
"
منهج ابن رجب في الباب الأول:
تناول ابن رجب كلام الترمذي في "العلل الصغير" بالشرح والتوضيح، والاستدراك والنقد، والتكميل والتمثيل. وقد استقرأت منهج ابن رجب في هذا القسم فوجدت ما يلي:
أولا - من حيث طريقة ابن رجب في عرض كلام الترمذي:
امتاز عصر ابن رجب والعصور التي تلته بالاتجاه إلى شرح الكتب السابقة أو اختصارها، وذلك في ميادين العلوم المختلفة وخاصة علوم العقيدة، والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول.
وكان لهذه الشروح طريقتها التقليدية التي تتلخص ببث كلام الأصل بين عبارات الشرح، ثم يكون الشرح حلا لألفاظ الأصل وتراكيبه. وأحيانا كثيرة تختلط عبارة الأصل بعبارة الشرح فيقع القارئ في اللبس علاوة على ما في هذا المنهج من الاضطراب في الأسلوب، وعدم الانسجام.
والجدير بالذكر أن هذا الانسجام المفقود هو من السمات البارزة في هذه الشروح حتى ولو كان صاحب الأصل هو صاحب الشرح، فالعراقي الذي يعتبر من مشاهير عصر ابن رجب صنف ألفيته المنظومة في المصطلح، ثم فك كلماتها وعباراتها في شرح سماه "فتح المغيث"، وبالرغم من أن المؤصل هو نفس الشارح، إلا أن تنافر الأسلوب ملحوظ.
أما ابن رجب فقد شرح علل الترمذي بطريقة أخرى فانتهج ذكر كلام الترمذي أولا في الموضوع الواحد، ثم يعقب على كلام الترمذي بالشرح والإيضاح التمثيل، دون أن يلجأ إلى حل الألفاظ والتراكيب، وإنما يكتفي بالإشارة إلى أصل الموضوع ومعناه عند الترمذي، فيكون ابن رجب قد استقل استقلالا تاما في عبارته وأسلوبه، فكانت ثمرة هذا المنهج سهولة العبارة وانسجام التراكيب ووحدة الأسلوب. وفي ظل هذا المنهج يصبح كلام الترمذي كأنه ترجمة للباب. أو رأس موضوع له. أو مدخل مناسب.
ثانيا - من حيث وقوف ابن رجب عند كلام الترمذي:
وابن رجب خير من يشرح كلام الترمذي، ويفصله، ويرفع عنه الإبهام، إلا انه لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى طرق الموضوع من جميع جوانبه، ويضيف إلى قول الترمذي أقوال خلفه من العلماء.
وسبب هذا التوسع، عند ابن رجب، إنما يرجع إلى أن كتاب "العلل الصغير" يعتبر من أوائل كتب المصطلح في ذلك الوقت المبكر، الذي لم يكن فيه التصنيف في هذا الفن قد بلغ رشده بعد، ثم توالت التصانيف بعد الترمذي وجمعت أقوال العلماء في هذا العلم، فكان على ابن رجب أن يضم اللاحق إلى السابق.
وكذلك فإن مكانة الترمذي وإمامته لم تمنع ابن رجب من أن يستدرك عليه، وهي استدراكات قيمة تظهر علم ابن رجب وفضله، وسنرى في الكلام عن "شرح الترمذي" استدراكات ابن رجب الهامة كأن يقول: وفي الباب مما لم يخرجه الترمذي، أما في شرح العلل فإنه يكثر من الاستدراكات، كما في المثال الآتي:
قال الترمذي:
"جميع ما في هذا الكتاب معمول به، وقد أخذ به بعض العلماء، ما خلا حديثين: حديث ابن عباس - رضي الله عن هما - أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في المدينة، من غير خوف ولا سفر".
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه".
وقال ابن رجب:
"وكان مراد الترمذي رحمه الله أحاديث الأحكام. وقد روى في كتاب الحج حديث جابر في "التلبية عن النساء"، ثم ذكر أن الإجماع أن لا يلبى عن النساء، فهذا ينبغي أن يكون حديثا ثالثا مما لم يؤخذ به عند الترمذي".
(وقد وردت أحاديث أخر، ذكر بعضهم أنه لم يعمل بها أيضا، فمنها ما أخرجه الترمذي، وأكثرها لم يخرجه. فمنها حديث: "من غسل ميتا
فيغتسل، ومن حمله فليتوضأ" وقد قال الخطابي: لا أعلم أحدا من العلماء قال بوجوب ذلك ولكن القائل باستحبابه يحمله على الندب، وذلك عمل به.
ومنها، حديث:"أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا، ويقال: ومن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم". ومنها حديث: "التيمم إلى المناكب والآباط"، ومنها حديث:"التيمم إلى نصف الذراعين"، ومنها حديث:"الأكل في الصيام بعد الفجر" ومنها حديث أنس "في أكل البرد للصائم") .
وهكذا فإن ابن رجب يستمر في استدراكه على الترمذي فيذكر أحاديث صحت أسانيدها، ولكن العمل على خلافها.
ثالثا - الاعتراض على كلام الترمذي أحيانا:
وكما أن ابن رجب يشرح عبارة الترمذي، ويضيف إليها ويستدرك عليها فإنه كذلك ينقد ويعترض حيث يجد مبررا لذلك.
وفيما يلي مثال لهذه الاعتراضات:
"قال الترمذي: وما ذكرنا في هذا الكتاب من اختيار الفقهاء، فما كان من قول سفيان الثوري فأكثره ما حدثنا محمد بن عثمان الكوفي، (ثنا) عبيد الله بن موسى، عن سفيان الثوري. ومنه ما حدثنا مكتوم أبو الفضل بن العباس الترمذي، (ثنا) محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان.
وما كان فيه من قول مالك بن أنس فأكثره ما حدثني به إسحاق بن موسى الأنصاري، (ثنا) معن بن عيسى القزاز، عن مالك
…
".
وهكذا فإن الترمذي يذكر أسانيد أقوال الفقهاء، ولكن ابن رجب لم يكتف بأسانيد الترمذي المجملة سيرا على قواعد المحدثين في قبول الإسناد ولذلك فإنه سجل اعتراضه على هذا المنهج، فقال:
"أعلم أن أبا عيسى رحمه الله ذكر في هذا الكتاب مذاهب كثير من فقهاء أهل الحديث المشهورين كسفيان، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وذكر فيه كثيرا من العلل والتواريخ والتراجم، ولم يذكر أسانيد أكثر من ذلك، فذكر ههنا أسانيد مجملة، وإن كان لم يحصل بها الوقوف على حقيقة أسانيده، حيث ذكر أن بعضه عن فلان، وبعضه عن فلان، ولم يبين ذلك البعض".
رابعا - الكلام على منهج الترمذي في الجامع:
تكلم الترمذي في العلل الصغير عن منهجه في الجامع، وجاء ابن رجب ففضل الكلام عن هذا المنهج. وأصبح من الضروري للباحث في سنن الترمذي أن يطلع على شرح علل الترمذي، بل إن هذا الكتاب احتوى على مقارنة ضافية بين مناهج عدد من كتب السنة كالسنن الثلاثة، ومسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم. وأستطيع أن أقول: إن كتاب شرح علل الترمذي لكتاب الترمذي - يشابه "هدى الساري" الذي قدم به ابن حجر لفتح الباري، وتكلم فيه عن منهج البخاري في صحيحه، وهذان الكتابان: شرح العلل، وهدى الساري يستحقان اهتمام الباحثين في السنة، وفيها المقدمة الضرورية التي على ضوئها تكون الفائدة المرجوة من كتب السنة كبيرة.
ولما كان موضوعنا هذا يتناول كلام ابن رجب عن منهج الترمذي في الجامع فسنذكر بعض الأمثلة من شرح العلل على هذا، ولعل من أهم هذه الأمثلة ما يكون منصبا على مقارنة منهج الترمذي بغيره، ولنستمع لابن رجب يحدثنا عن مثل هذا:
قال ابن رجب رحمه الله: "والذين صنفوا منهم من أفراد الصحيح كالبخاري ومسلم، ومن بعدهما كابن خزيمة وابن حبان، ولكن كتابهما لا يبلغ مبلغ كتاب الشيخين. ومنهم من لم يشترط الصحة وجمع الصحيح وما قاربه، وما فيه بعض العلل والضعف، وأكثرهم لم يكتبوا ذلك ولم يتكلموا على الصحيح