الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول في أسباب العلة من خلال كتاب ابن رجب
تمهيد
لقد حاولت من خلال استقراء "شرح علل الترمذي" لابن رجب، وغيره من كتب العلل أن أحدد أهم الأسباب التي تؤدي إلى حدوث العلة، إذ الكلام عن هذه الأسباب، منظما مجتمعا، لم يقع لي في كتاب من الكتب التي تعرضت للعلل، ومع أن كتاب ابن رجب هو كتاب العلل الوحيد الذي تكلم على العلل كعلم له قواعده وأقسامه إلا أنه لم يفصل أسباب العلل في مبحث مستقل، وإنما عرض لها في مواضع متفرقة. ولعل دراستنا هذه هي بداية المحاولة في هذا الترتيب النظري لعلم العلل.
وفيما يلي عرض لهذه الأسباب والكلام عليها، مع ذكر كلام ابن رجب في كل منها:
السبب العام:
هو الذي يقف وراء الكثير من هذه العلل، إلا أنه الضعف البشري الذي لا يسلم منه مخلوق، ولا عصمة إلا لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وما وراء ذلك ناس يصيبون ويخطئون، ويتذكرون وينسون، وينشطون ويغفلون، على ما بينهم من تفاوت في ذلك بين مكثر مقل.
ودخول الوهم والخطأ على الصحابة والتابعين والأئمة المتقدمين شيء معروف عند العامة والخاصة، وقد أشار الترمذي في "علله آخر الجامع" إلى
هذا في القسم الرابع من الرواة عنده، وهم الحفاظ الذي يندر أو يقل الغلط في حديثهم، وهؤلاء هم الطبقة العليا من الرواة، فهو لم يصفهم بالضبط التام الكامل، بل قال: وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة. فالضبط التام الكامل هو ضبط نسبي يدخل فيه الوهم والخطأ القليل النادر. وهذا احتراز ينبغي أن يدخل صراحة في شرط رجال الصحيح، وإن كان قد تناوله تعريف الحديث الصحيح بصورة غير مباشرة، عند ذكرهم سلامة الحديث من الشذوذ والعلة القادحة.
وقد تناول ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي هذا القسم الرابع الذي ذكره الترمذي بالشرح وذكر أقوال العلماء في أخطاء الثقات وأوهامهم فقال:
"وذكر الترمذي ههنا حكم القسم الرابع، وهم الحفاظ المتقنون الذين يقل خطؤهم، وذكر أنه لم يسلم من الخطأ كبير أحد من الأئمة، على حفظهم.
وقال ابن معين: من لم يخطئ في الحديث فهو كذاب.
وقال أيضا: لست أعجب ممن يحدث فيخطئ، إنما أعجب ممن يحدث فيصيب.
وقال ابن المبارك: ومن يسلم من الوهم وقد وهمت عائشة جماعة من الصحابة في رواياتهم وقد جمع بعضهم جزءا في ذلك.
ووهم سعيد بن المسيب ابن عباس في قوله: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم".
وذكر ابن رجب في ذلك كلاما لأبي الحسن الدارقطني بعد ذكر بعض الأوهام في روايات الصحابة، وقول الدارقطني: مثل هذا في الصحابة، أي الوهم والخطأ.
وأما أوهام كبار أئمة الحديث، فقد ذكر ابن رجب أقوالا فيها:
قال أحمد: كان مالك من أثبت الناس وكان يخطئ.
وقال البرذعي: شهدت أبا زرعة، وذكر عبد الرحمن بن مهدي ومدحه وأطنب في مدحه، وقال: وهم في غير شيء، ثم ذكر عدة أسماء صحفها. وهذه الأسماء ورد النص بها في كتاب البرذعي وهي: قول ابن مهدي: شهاب بن شريفة، وإنما هو شهاب بن شرنقة. وقال: عن هشام عن الحجاج عن عائذ بن بطة وإنما هو ابن نضلة.
وقال: قيس بن جبير، وإنما هو قيس بن حبتر (وزن جعفر) التميمي.
وفيما يلي عرض لأحاديث وهم فيها كبار الثقات:
منهم شعبة بن الحجاج: وثناء العلماء على شعبة جزيل طويل، فهو أمير المؤمنين في الحديث، ورجل روى عنه شعبة لا يسأل عنه، وكان الثوري يقول: أستاذنا شعبة. وقال الشافعي: لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق. ولكن لشعبة أوهاما، وفي حديثه علل، وإن كانت قليلة، وقد وقف النقاد عليها:
مثال:
أخرج الترمذي في العلل الكبير قال:
حدثنا محمود بن غيلان، قال (أنا) أبو داود، قال:(أنا) شعبة، قال:(أنا) عبد ربه بن سعيد، قال: سمعت أنس بن أبي أنس، عن عبد الله بن نافع بن العمياء، عن عبد الله بن الحارث بن المطلب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الصلاة مثنى مثنى، تشهد في ركعتين، وتبؤس، وتمسكن، وتقنع وتقول: اللهم، اللهم، فمن لم يفعل ذلك فهي خداج".
وقال الليث: (أنا) عبد ربه بن سعيد، عن عمران بن أبي أنس، عن 96
عبد الله بن نافع بن العمياء، عن ربيعة بن الحارث، عن الفضل بن عباس.
سمعت محمد بن إسماعيل يقول: رواية الليث بن سعد أصح من حديث شعبة.
وشعبة أخطأ في هذا الحديث في مواضيع:
- فقال: عن أنس بن أبي أنس، وإنما هو عمران بن أبي أنس.
- وقال: عن عبد الله بن الحارث، وإنما هو عن عبد الله بن نافع، عن ربيعة بن الحارث.
- وربيعة بن الحارث هو ابن المطلب، فقال: هو: عن المطلب.
- ولم يذكر فيه: عن الفضل بن العباس.
هذه أوهام لشعبة ذكرها البخاري جوابا على سؤال الترمذي له، وفيها بيان جلي لأخطاء الثقات ولو كانوا بمنزلة شعبة، وقد ذكر ابن أبي حاتم كلاما للإمام أحمد في أوهام شعبة، فقال:
(قال أحمد: ما أكثر ما يخطئ شعبة في أسامي الرجال.
وقال أحمد: كان شعبة يحفظ، لم يكتب إلا شيئا قليلا، وربما وهم في الشيء) ، وفي العبارة الأخيرة كشف عن مصدر الوهم والخطأ عند هذا الإمام الفذ.
ورجل آخر شارك شعبة في الفضل والعصر، ولا يقل عنه إن لم يزد في الحفظ والعلم، وهو إمام دار الهجرة مالك بن أنس. وقد ترجم له ابن رجب ترجمة ضافية وافية جمع شتاتها ودورها من كثير من المراجع في التواريخ والرجال، ولكن هذا الفضل لم يمنع أن يسجل النقاد على مالك مآخذ وعللا في بعض رواياته:
فقد أخذ عليه الجماهير روايته عن عبد الكريم أبي أمية وهو متهم بالكذب.
وأما مثال العلة في حديثه، فمما ذكره ابن أبي حاتم في علله.
سألت أبي عن حديث رواه مالك، عن عمرو بن الحارث، عن عبيد بن فيروز عن البراء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الضحايا" فقال أبي: نقص مالك من هذا الإسناد، إنما هو سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، عن عبيد بن فيروز، عن البراء، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
واستيفاء لهذا الموضوع نذكر رجلا ثالثا لا يقل عن سابقيه في الإمامة والفضل وهو الليث بن سعد إمام أهل مصر، ومع علو رتبته في الحفظ والضبط إلا أن النقاد سجلوا عليه عللا في حديثه، مثال ذلك، ما رواه ابن أبي حاتم في علله، قال:
سمعت أبا زرعة، وحدثنا عن يحيى بن بكير، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله، أصحاب الحمر، قال: "لم ينزل علي في الحمر إلا هذه الآية الفاذة، (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) إلى آخر السورة. قال أبو زرعة: وهم فيه الليث، إنما هو زيد بن
أسلم عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ونختم هذا السبب العام، الذي لا يكاد يخرج من تأثيره أحد من الحفاظ، بما ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وهو نص يؤكد وقوع بعض الأوهام في روايات الحفاظ، ويكشف عن القدر من الخطأ الذي يبقى معه الحافظ، الضابط الإمام، على رتبته في الإمامة والضبط:
(أنا) أبي، أخبرنا سليمان بن أحمد الدمشقي، قال: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: اكتب عمن يغلط في عشرة؟ قال: نعم. قيل له: يغلط في عشرين قال: نعم. قلت: فثلاثين؟ قال: نعم. قلت: فخمسين؟ قال: نعم.
وهكذا، فإنه يمكننا أن نرجع قسما، لا بأس به، من علل الحديث لأخطاء مثل هؤلاء الجهابذة، ويعتبر كشف هذه العلل من أعلى مراتب هذا العلم، وذلك لخفائها واستتارها بمنزلتهم في الحفظ والضبط.
وفي هذا درس بالغ لأعداء السنة، والطاغين فيها، ليعلموا أية حراسة حرس الله بها سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وليدركوا أنه ما دامت منزلة كبار الأئمة لم تمنع من تتبع رواياتهم ونقدها وتمحيصها، وبيان الخطأ فيها، فمن باب أولى أن يكشف وهم غيرهم، وعبث العابثين مهما كانت غايتهم، ومهما استخدموا من أساليب التزوير والكذب.
السبب الثاني:
هو ما اتصف به بعض رواة الآثار من خفة الضبط، وكثرة الوهم، مع بقاء عدالتهم. وهؤلاء هم الذين ذكرهم الترمذي في علله (آخر الجامع) بقوله: أهل صدق وحفظ، ولكن يقع الوهن في حديثهم كثيرا.
وعلى أسلوب ابن رجب في توليد الموضوعات من الكلمات، فقد شرح عبارة الترمذي وحشد لها عيون الشواهد من كلام أرباب هذه الصنعة، فقال:
(وهم أيضا أهل صدق وحفظ، ولكن يقع الوهم في حديثهم كثيرا، ولكن ليس هو الغالب عليهم، وهذا هو القسم الذي ذكره الترمذي ههنا. وذكر عن يحيى بن سعيد أنه ترك حديث هذه الطبقة.
وعن ابن المبارك وابن مهدي ووكيع وغيرهم أنهم حدثوا عنهم، وهو أيضا رأي سفيان وأكثر أهل الحديث، والمصنفين منهم في السنن والصحاح، كمسلم بن الحجاج وغيره فإنه ذكر في مقدمة كتابه أنه لا يخرج حديث من هو متهم عند أهل الحديث، أو عند أكثرهم، ولا من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط.
وذكر قبل ذلك أنه يخرج حديث أهل الحفظ والإتقان، وأنهم على ضربين:
أحدهما: من لم يوجد في حديثه اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش.
والثاني: من هو دونهم في الحفظ والإتقان، وشملهم اسم الصدق والستر، وتعاطى العلم كعطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وليث بن أبي سليم) .
من كل هذا نعلم أن حديث هؤلاء الذين كثر غلطهم، مقبول عند جماهير علماء الحديث، ولا يعين قبول حديثهم أن يؤخذ دونما تمييز بين الصواب والخطأ بل استطاع النقاد أن يحصوا ما لهم من أوهام ويسجلوا شوارد أخبارهم شواذها، فكان نصيب كتب العلل من هذه الأوهام كبيرا. وكثيرا ما نقرأ الحديث في هذه الكتب ثم تذكر علته، ويقال بعد ذلك، أخطأ فيه شريك، وهم فيه عطاء الخراساني
…
وهكذا.
وقد ذكر ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي عددا من هؤلاء الثقات الذين يكثر الخطأ في حديثهم، مع ترجمة قصيرة لكل منهم، فأنار سبيل سالك هذا الدرب بمعرفتهم، وأتاح لدارسي الكتاب فرصة كشف كثير من العلل.
فذكر من هذا الصنف، محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي، وعبد الرحمن بن حرملة المدني، وشريك بن عبد الله النخعي قاضي الكوفة، وأبا بكر بن عياش المقرئ الكوفي، والربيع بن صبيح، ومبارك بن فضالة، وسهيل بن أبي صالح، ومحمد بن إسحاق، ومحمد بن عجلان، وحماد بن سلمة، وغيرهم.
وسيرا على المنهج التطبيقي الذي التزمته في هذه الدراسة، فسأمثل لحديث هؤلاء الرواة، وأذكر عللا سجلها النقاد في مصنفاتهم عليهم:
ومثال ذلك ما ذكره الترمذي في علله قال
(حدثنا علي بن نصر الجهضمي، (نا) بشر بن عمر، (نا) شعيب بن زريق أبو شيبة، قال: حدثنا عطاء الخراساني، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".
سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: شعيب بن زريق مقارب الحديث، ولكن الشأن في عطاء الخراساني، ما أعرف لمالك بن أنس رجلا يروي عنه مالك يستحق أن يترك غير عطاء الخراساني. قلت له: ما شأنه؟ قال: عامة أحاديثه مقلوبة.
ثم ذكر البخاري أمثلة لهذه الأحاديث المقلوبة التي يرويها عطاء الخراساني. روى عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأفطر في رمضان، وبعض أصحاب سعيد بن المسيب يقولون سألت سعيدا عن هذا الحديث، فقال:"كذب على عطاء لم أحدث هكذا".
وروى عطاء، عن أبي سلمة، عن عثمان وزيد بن ثابت في الإيلاء: إذا أمضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. وروى حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن عثمان: أنه قال في المولي يوقف) .
وعطاء الخراساني، بالرغم من أن البخاري جعل عامة أحاديثه مقلوبة ونعته بالضعف، إلا أن بقية العلماء احتجوا بحديثة الخالي من الوهم والخطأ، وروى عنه مسلم وأصحاب السنن الأربعة، (وقد وثقه ابن معين، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه ثقة صدوق، قلت يحتج به، قال: نعم. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال الدارقطني: ثقة في نفسه) . وتوثيق هذا العدد الغفير له يدفع رأي البخاري فيه، ومع هذا الدفع تبقى لعطاء أوهامه وعلله.
ويشابه عطاء الخراساني في مرتبته وأوهامه شريك بن عبد الله النخعي، فيما يلي مثال على العلة في حديثه: قال الترمذي في علله الكبير: "حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي، (نا) يزيد بن هارون عن شريك، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع ركبتيه إذا سجد قبل يديه".
قال يزيد: لم يرو شريك عن عاصم بن كليب إلا هذا الحديث الواحد.
قال أبو عيسى: وروى همام بن يحيى، عن شقيق، عن عاصم بن كليب شيئا من هذا مرسلا، لم يذكر فيه، عن وائل بن حجر، وشريك بن عبد الله كثير الغلط والوهم.
وشريك هذا الذي وهم في هذا الحديث كما وهم في غيره، قال عنه ابن معين: ثقة ثقة، وقال عنه العجلي: كوفي ثقة، وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: وسألت أبي عن شريك وأبي الأحوص أيهما إليك؟ قال: شريك، وقد كان له أغاليط وقال النسائي: ليس به بأس. وقال ابن عدي" والغالب على حديثة الصحة والاستواء، والذي يقع في حديثه من النكرة إنما أتى به من سوء حفظه، والغالب في من يوثق شريكا أنه يذكر خفة ضبطه وكثرة أوهامه ولكنه مع كل هذا يبقى من أهل الصدق والستر ولا تزول عنه رتبة الاحتجاج بحديثه.
ولقد وصف بعض الحفاظ الثقات بكثرة الوهم، ولا شك أنهم يقلون في أوهامهم عن مثل شريك وعطاء بن السائب، وهؤلاء مثل عبد الرزاق بن همام، ومعمر بن راشد الصنعانيين، قال ابن أبي حاتم في علله:
سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق عن صلة، عن عمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: الإنفاق من الاقتار
…
الحديث".
فقالا: هذا خطأ: هذا خطأ. رواه الثوري وشعبة وإسرائيل وجماعة يقولون: عن أبي إسحاق، عن صلة، عن عمار، قوله. لا يرفعه أحد منهم.
والصحيح موقوف عن عمار. قلت لهما: الخطأ ممن؟ قال أبي: أرى من عبد الرزاق، أو معمر فإنهما جيعا كثيرو الخطأ".
السبب الثالث - الاختلاط أو الآفة العقلية:
وقد تكلم ابن رجب عن هذا السبب أثناء الكلام عن اختلاط المشاهير من الثقات. وقد جعل هذا نوعا من القسم الثاني من أقسام علم العلل، وبيان ذلك: أنه قسم علم العلل إلى قسمين:
القسم الأول: في معرفة مراتب الثقات، قول من يقدم منهم عند الاختلاف.
القسم الثاني: ذكر قوم من الثقات، لا يذكر أكثرهم غالبا في كتب الجرح، وقد ضعف حديثهم - أما في بعض الأوقات، وهم المختلطون.
أو في بعض الأماكن.
أو عن بعض الشيوخ.
فيكون ابن رجب قد ذكر هذا السبب في صورة طائفة من مشاهير الثقات، ففصل حالة كل منهم، ذاكرا زمان الاختلاط ومكانه، ومن روى عنه في الاختلاط، ومن روى عنه قبله، وضابط اختلاطه، وخلال الكلام عنه يشير إلى أحاديث رويت عنه في الاختلاط.
مفهوم الاختلاط:
والاختلاط آفه عقلية تورث فسادا في الإدراك، وتصيب الإنسان في آخر عمره، أو تعرض له بسبب حادث ما، كفقد عزيز، أو ضياع مال، ومن تصيبه هذه الآفة لكبر سنة يقال فيه: اختلط بأخرة.
ورغم أن كثيرا من الناس يختلطون إلا أن الاختلاط إذا أطلق انصرف إلى فئة قليلة منهم، وهي فئة المحدثين، وذلك لما في اختلاط المحدث من أثر على روايته، لا سيما وأنه الثقة العدل، المحتج به.
الكشف عن الاختلاط
والكشف عن الاختلاط يلقي على الناقد، رجل العلل، مهمة عسيرة وشاقة، إلى جانب أنها دقيقة وخطيرة، فهي لا تقتصر على متابعة المحدث في فترة دون فترة، أو مكان دون آخر أو عن شيخ دون سواه، بل تمتد مهمة رجل العلل حتى وفاة الرجل موضع النقد والعلة، ولمعرفة طريقة النقاد في الكشف عن الاختلاط، وتحديد زمنه يحسن بنا أن نستشهد بما ذكره البرذعي في مسائله لأبي زرعة الرازي، قال:
قلت لأبي زرعة: قرة بن حبيب تغير. فقال: نعم، كنا أنكرناه بأخرة، غير أنه كان لا يحدث إلا من كتابه، ولا يحدث حتى يحضر ابنه، ثم تبسم، فقلت: لم تبسمت؟ قال: أتيته ذات يوم وأبو حاتم، فقرعنا عليه الباب، واستأذنا عليه، فدنا من الباب ليفتح لنا فإذا ابنته قد لحقت، وقالت: يا أبت، إن هؤلاء أصحاب الحديث، ولا آمن أن يغلطوك أو أن يدخلوا عليك ما ليس من حديثك، فلا تخرج إليهم، حتى يجيء أخي، تعني علي بن قرة، فقال لها: أنا أحفظ فلا أمكنهم ذاك، فقالت: لست أدعك تخرج إليهم فإني لا آمنهم عليك. فما زال قرة يجتهد، ويحتج عليها في الخروج، وهي تمنعه، وتحتج عليه في ترك الخروج إلى أن يجيء علي بن قرة، حتى غلبت عليه، ولم تدعه.
قال أبو زرعة: فانصرفنا وقعدنا حتى وافى ابنه علي.
قال أبو زرعة: "فجعلت اعجب من صرامتها، وصياتنها أباها".
هذه القصة تسلط ضوءا باهرا على قضية الاختلاط، سواء من جانب النقاد الذين يكشفون على الرواة كما يكشف الطبيب على مرضاه، أو من جانب أهل المختلط وذويه الذين لا يذرون صاحبهم دونما رقابة ومتابعة. وإنما هم خير عون للناقد على مهمته، إما بمنع المختلط من الرواية، أو صيانة كتبه وإلزامه التحديث منها، مع الرعاية والإشراف.
وأحيانا كان الناقد يدخل على المختلط يخضعه لاختبار دقيق فيقلب عليه الأسانيد والمتون. ويلقنه ما ليس من روايته، فإن لم يتنبه الشيخ لما يراد به فإنه يتأكد اختلاطه ويحذر الناس من الرواية عنه:
روى أبو محمد الرامهرمزي من طريق يحيى بن سعيد، قال:
"قدمت الكوفة وبها ابن عجلان وبها من يطلب الحديث، مليح بن وكيع. وحفص بن غياث، وعبد الله بن إدريس، ويوسف بن خالد التيمي، قلنا: نأتي ابن عجلان نقلب على هذا الشيخ ننظر فهمه. قال: فقلبوا، فجعلوا ما كان
عن سعيد عن أبيه، وما كان عن أبيه عن سعيد، ثم جئنا إليه، لكن ابن إدريس تورع وجلس بالباب، وقال: لا أستحل وجلست معه، ودخل حفص ويوسف بن خالد ومليح، فسألوه فمر فيها، فلما كان عند آخر الكتاب انتبه الشيخ، فقال: أعد العرض، فعرض عليه، فقال: ما سألتموني عن أبي، فقد حدثني به سعيد، وما سألتموني عن سعيد، فقد حدثني به أبي".
ولكن بصيرة الناقد ويقظة المجتمع ليس لهما تلك القدرة التي تحدد ساعات بدء الاختلاط، إذ الاختلاط حالة عقلية تبدأ خفية ثم يتعاظم أمرها بالتدريج، وبين الخفاء والظهور يكون المختلط قد روى أحاديث تناقلها الثقات عن الثقات وما دورا أنهم أخذوها عن الثقة، ولكن في اختلاطه.
وهكذا تدخل العلة من هذا الطريق، الذي هو طريق الاختلاط، ولكن رجال هذا العلم بما لديهم من وسائل الدراية، يقفون بالمرصاد لتمييز الصحيح من السقيم.
وفيما يلي مثال على حديث علته اختلاط راويه:
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: "سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه زكريا بن أبي زائدة وزهير، فقال أحدهما: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يتعوذ من خمس: من البخل والجبن، وسوء العمر، وفتنة الصدر. روى هذا الحديث الثوري، فقال: عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ، مرسل. والثوري أحفظهم. وقال أبي: أبو إسحاق كبر، وساء حفظه بأخرة، فسماع الثوري منه قديم، قال أبو زرعة: تأخر سماع زهير وزكريا من أبي إسحاق".
أشهر الرواة الذين اختلطوا:
وقد ذكر ابن رجب طائفة من مشاهير المختلطين، وفصل أحوالهم، وما يتعلق باختلاطهم، وهم: عطاء بن السائب الثقفي، وحصين بن عبد الرحمن السلمي، وسعيد بن إياس الجريري، وسعيد بن أبي عروبة، وعبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، وأبان بن صمعة، وسفيان بن عيينة، وأبو قلابة الرقاشي، ومحمد بن الفضل السدوسي.
وتناول ابن رجب للمختلطين تناول فريد بين الكتب التي تعرضت لهم، وقد حرص ابن رجب على ما يلي:
1 -
ذكر اسم المختلط ونسبه وكنيته وموطنه.
2 -
بيان أقسام الرواة عنه، وجعلهم على أقسام:
- الذين رووا عنه قبل اختلاطه.
- الذين رووا عنه بعد اختلاطه.
- الذين رووا عنه قبل الاختلاط وبعده ولم يميزوا هذا من هذا.
- الذين رووا عنه قبل اختلاطه وبعده وميزوا هذا من هذا.
3 -
ذكر ضابط التمييز بين السماع قبل الاختلاط وبعده.
وقد فصل ابن رجب في هذا الأمر الثالث، وجمع أقوال العلماء التي تصلح ضابطا للتمييز بين الرواية عنه قبل الاختلاط وبعده. ونرى مثل هذا في كلامه على اختلاط عطاء بن السائب، فقال:
وقد اختلفوا في ضابط من سمع منه قديما، ومن سمع منه بأخرة.
- فمنهم من قال: من سمع منه بالكوفة فسماعه صحيح ومن سمع منه بالبصرة، فسماعه ضعيف.
- ومنهم من قال: دخل عطاء البصرة مرتين، فمن سمع منه في المرة الأولى فسماعه صحيح ومنهم الحمادان والدستوائي، ومن سمع منه في المقدمة الثانية فسماعه ضعيف، منهم وهيب وإسماعيل بن علية.
- ومنهم من قال: إن حدث عطاء عن رجل واحد فحديثه جيد، وإن حدث عن جماعة فحديثه ضعيف. وهو ضابط التمييز عند شعبة بالنسبة لروايات عطاء.
- ومنهم من قال حديث شعبة وسفيان عنه صحيح لأنه قبل الاختلاط.
كل هذا يدلنا على الجهد الذي بذله علماؤنا في تتبع هذا السبب من أسباب العلة، وبالرجوع إلى قسم التحقيق نطلع على مزيد في هذا، فجزى الله ابن رجب عنا خير الجزاء.
السبب الرابع - خفة الضبط بالأسباب العارضة:
ونقصد بالأسباب العارضة أمورا تعرض للمحدث، تؤثر في ضبطه، دون أن تؤثر في إدراكه، وبهذا نميز هذه الأمور العارضة عن الاختلاط، ولا أرى ضمها إلى الاختلاط كما فعل السخاوي في كتابه "فتح المغيث". وهذه العوارض تعتري المحدث الذي يعتمد على كتابه في الرواية، فإذا ضاع الكتاب أو احترق، أو أضر الراوي، أو لم يصطحب كتابه معه إذا رحل، في كل هذه الحالات يختل ضبط الراوي، ويكون سبب خفة الضبط هذا العارض الذي اعترض المحدث.
وقد تعرض ابن رجب رحمه الله لهذه الأسباب من العوارض في أكثر من مكان من كتابه الذي نحن بصدده، فأطال في ذكر من حدث في مكان لم تكن معه كتبه فخلط، وحدث في مكان آخر من كتبه فضبط، وكان هذا هو الضرب الأول من النوع الثاني الذي هو من ضعف حديثه في بعض الأماكن دون بعض، كما تعرض ابن رجب للمحدث الذي كان كل اعتماده على كتبه
فأضر فخف ضبطه لذلك، ونجد هذا في آخر كلام ابن رجب عن المختلطين تحت عنوان:"من يلتحق بالمختلطين ممن أضر في آخر عمره".
وقبل الكلام عن هذه العوارض نرى ضرورة التنبيه إلى أن من لا يحفظ إذا روى من كتابه فروايته جائزة، إذا كان صادقا ضابطا للكتاب، وهذا معروف في شرط الحديث الصحيح، وهو أن يكون راويه ضابطا لما في صدره أو لما في كتابه وقد تعرض ابن رجب لهذا أثناء كلامه عن الرواية عن الضرير والأمي إذا لم يحفظا، وهما بمنزلة من ليس له كتاب في هذه الحالة. ونقل ابن رجب قول أحمد فيهما وخلاصته أنه لا يجوز أن يحدثا إلا بما سمعا.
وقد ذكر الخطيب البغدادي في كفايته كلاما أسنده إلى مروان بن محمد، قال:"لا غنى لصاحب الحديث عن ثلاث: صدق وحفظ، وصحة كتاب، فإن كانت فيه ثنتان وأخطأته واحدة لم يضره: إن كان صدق، وصحة كتب ولم يحفظ ورجع إلى كتب صحيحة"، وروى الخطيب كذلك، بسنده إلى يحيى بن معين قوله:"ينبغي للمحدث أن يتزر بالصدق، ويرتدي بالكتب". ودفعا لما قد يدخل على الكتاب من زيادة أو نقص فقد وضع المحدثون مبادىء لا بد من التزامها أثناء الكتاب وقد طول الخطيب في الكلام على هذه المبادىء في كتابه"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع"
ولكن ضبط الكتاب لا يغني، وبالتالي يقع المحذور، في حالة بعد الكتاب أو فقده وفقد آلة النظر في الكتاب. ومن هنا دخلت العلة في أحاديث بعض الثقات فكان لا بد من دخول الناقد، رجل العلل، في دائرة أحاديث هؤلاء الثقات لتمييز سقيمها معلولها من صحيحها ومستقيمها.
وممن خف ضبطه لبعده عن كتبه معمر بن راشد، وهذا الرجل عده علي بن المديني ممن دار الإسناد عليهم، وثناء العلماء عليه عظيم، ولكن ذلك لم يمنع من أن يقال فيه: إذا حدثك معمر عن العراقيين فخفه، إلا عن الزهري وابن طاوس فإن حديثه عنهما مستقيم، فأما أهل الكوفة وأهل البصرة فلا. ونقل ابن رجب عن الإمام أحمد قوله: حديث عبد الرزاق عن معمر أحب إلي من حديث هؤلاء البصريين، كان يتعاهد كتبه وينظر فيها، يعني في اليمن، وكان يحدثهم بخطأ بالبصرة، كما ذكر ابن رجب مثالا من الأحاديث المعلولة التي تكشف عن أمر معمر بالعراق، وذلك أن معمرا روى حديثا وهو:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة".
رواه باليمن عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل مرسلا، ورواه بالبصرة عن الزهري عن أنس، والصواب المرسل.
وأما عبد الله بن لهيعة، قاضي مصر، فهو ممن أجمع العلماء على خفة ضبطه قبل موته بسنين، والأكثر على أن هذا راجع إلى احتراق كتبه، روى العقيلي من طريق البخاري عن أبي بكير، قال: احترقت كتب ابن لهيعة سنة سبعين ومائة، وقال ابن خراش كان يكتب حديثه، احترقت كتبه، فكان من جاء بشيء قرأه عليه حتى لو وضع أحد حديثا وجاء به إليه قرأه ليه، قال الخطيب فمن ثم كثرت المناكير في روايته لتساهله، وقال يحيى بن حسان: رأيت مع قوم جزءا سمعوه من ابن لهيعة فنظرت فإذا ليس هو من حديثه، فجئت إليه، فقال: ما أصنع؟ يجيئون بكتاب فيقولون: هذا من حديثك، فأحدثهم.
وقد فصل ابن رجب في الكلام عن ابن لهيعة، وذكر أقوال العلماء في تضعيفه من قبل حفظه، وساق بعض أحاديث رواها فوهم فيها.
قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: ومن أشنع ما رواه ابن لهيعة ما أخرجه الحاكم في المستدرك من طريقه. عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة، قال:"مات رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذات الجنب" وهذا مما يقطع ببطلانه لما ثبت في الصحيح أنه قال لما لدوه: "لما فعلتم هذا"؟ قالوا: خشينا أن يكون بك ذات الجنب، فقال:"ما كان الله ليسلطها علي". وإسناد الحاكم إلى ابن لهيعة صحيح، والآفة فيه من ابن لهيعة.
ومن الحفاظ من خف ضبطه، لضياع كتبه فدخلت الأوهام على حديثه، فمنهم علي بن مسهر القرشي الكوفي قاضي الموصل، ولي قضاءها للمهدي (سنة 166هـ) ، وكان ثقة صالح الكتاب قبل ذهاب كتبه.
نقل ابن رجب عن الإمام أحمد - من رواية الأثرم - أنه أنكر حديثا، فقيل له: رواه علي بن مسهر، فقال: إن علي بن مسهر كانت كتبه قد ذهبت فكتب بعد، فإن كان روى هذا غيره، وإلا فليس بشيء يعتمد.
ومن أسباب خفة الضبط - وبالتالي دخول الوهم والعلل - الانشغال عن العلم حفظا وكتابة وضبطا، وقد ذكر هذا السبب في علل من تولوا القضاء كشريك بن عبد الله النخعي وحفص بن غياث. فإما شريك فقد ولي قضاء واسط (سنة 155هـ) (وقال عنه العجلي: - بعد ما ذكر أنه ثقة - وكان صحيح القضاء، ومن سمع منه قديما فحديثه صحيح، ومن سمع منه بعدما ولي القضاء ففي سماعه بعض الاختلاط، وقال صالح جزرة: صدوق، لما ولي القضاء
اضطرب حفظه) . ونقل ابن رجب قولا لأحمد - من رواية الأثرم - ذكر فيه سماع أبي نعيم من شريك، فقال: سماع قديم، وجعل يصححه، وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله: قال لي حجاج بن محمد: كتبت عن شريك نحوا من خمسين حديثا عن سالم قبل القضاء. وقد سبق أن مثلت لأحاديث أعلها النقاد من وراية شريك، وكان معرض ذكرها خفة الضبط كسبب عام ويشمل روايات المحدث كلها، وأما ما نحن فيه فهو الكلام عن حالة خاصة تعتري المحدث. وحديث شريك قبل القضاء الغالب عليه القبول، وأما بعد القضاء فالغالب عليه الرد ومن ذلك ما رواه ابن أبي حاتم في علله قال:(سألت أبي عن حديث رواه شريك عن عاصم الأحول، عن الشعبي عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم". فقال: هذا خطأ أخطأ فيه شريك، وروى جماعة هذا الحديث، ولم يذكروا صائما محرما، إنما قالوا: احتجم وأعطى الحجام أجره فحدث شريك هذا الحديث من حفظه بأخرة، وكان قد ساء حفظه فغلط فيه) .
وأما حفص بن غياث النخعي، أبو عمر الكوفي، فقد ولي القضاء في الكوفة وبغداد، وللعلماء كلام كثير في الثناء عليه وتوثيقه، ولكنه "لما ولي القضاء جفا كتبه"، قال عنه أبو زرعة: ساء حفظه بعدما استقضي.
ومما أنكر على حفص حديثه، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر "كنا نأكل ونحن نمشي".
قال ابن معين: تفرد وما أظنه إلا وهم فيه، وقال أحمد: ما أدري ماذا، كالمنكر له، وقال أبو زرعة: رواه حفص وحده.
ومن الثقات من فقد بصره، وكان يعتمد على كتبه، فخف ضبطه ووهم فيما حدث به بعد ذلك، وهؤلاء كثيرون، منهم عبد الرزاق بن همام، فبالرغم من أنه أحد الأئمة المشهورين، وإليه كانت الرحلة في زمانه في الحديث، حتى قيل أنه لم يرحل إلى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رحل إلى عبد الرزاق، هذا ما قاله ابن رجب معبرا عن توثيق العلماء لهذا العلم، بالرغم من كل هذا إلا أن حديثه ضعيف بعد فقد بصره، وهذا ما قرره الإمام أحمد بقوله: عبد الرزاق لا يعبأ بحديث من سمع منه وقد ذهب بصره، كان يلقن أحاديث باطلة وقد حدث عن الزهري بأحاديث كتبناها من أصل كتابه جاء بخلافها.
وعلى هذا فآفة عبد الرزاق انه كان يتلقن ولم يوفق بمحدث واحد ثقة يلقنه.
روى الخطيب بإسناده عن إسحاق بن أبي إسرائيل قال: كان أصحاب الحديث يلقنون عبد الرزاق من كتبهم فيختلفون في الشيء فيقول لي: كيف في كتابك؟ فإذا أخبرته صار إليه لما يعرف أنني كنت أتعب في تصحيحها. وهذه القصة وما قبلها فيهما دلالة واضحة على أن عبد الرزاق ابتلي بمن يلقنه الباطل أو الضعيف من الحديث، وعليه يحمل تكذيب من كذبه، وما روى من الفضائل عنه حتى اتهم بالتشيع.
ومما أدخل على عبد الرزاق ما رواه ابن أبي حاتم في علله، قال:"سألت أبي عن حديث رواه أبو عقيل بن حاجب، عن عبد الرزاق، عن سعيد بن قماذين، عن عثمان بن أبي سليمان عن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن حبشي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تطرقوا الطير في أوكارها فإن الليل أمان لها".
قال أبي: يقال إن هذا الحديث مما ادخل على عبد الرزاق، وهو حديث موضوع".
وقد ذكر ابن رجب ضابطا لرواية الضرير والأمي فقال: وهذا يرجع إلى أصل وهو أن الضرير والأمي إذا لم يحفظا الحديث فإنه لا تجوز الرواية عنهما، ولا تلقينهما، ولا القراءة عليها من كتاب، وقد نص على ذلك أحمد - في رواية عبد الله - في الضرير والأمي لا يجوز أن يحدثا إلا بما حفظا، وقال: كان أبو معاوية الضرير إذا حدثنا بالشيء الذي نرى أنه لا يحفظه، يقول: في كتابي كذا وكذا.
ولقد أخذ على يزيد بن هارون أنه لما أضر كانت جاريته تحفظه من كتاب فيتلقن.
قال ابن رجب: "وحاصل الأمر أن الناس ثلاثة أقسام: حافظ متقن، يحدث من حفظه فهذا لا كلام فيه، وحافظ نسي فلقن حتى ذكر أو تذكر حديثه من كتاب فرجع إليه حفظه، الذي كان نسيه، وهذا أيضا حكمه حكم الحافظ، ومن لا يحفظ وإنما يعتمد على مجرد التلقين فهذا الذي منع أحمد ويحيى من الأخذ عنه.
السبب الخامس - قصر الصحبة للشيخ، وقلة الممارسة لحديثه:
أعطى المحدثون طول ملازمة الشيخ وممارسة حديثه أهمية كبيرة فرجحوا - من أجل ذلك - أسانيد كثيرة على أخرى، وأعانتهم معرفتهم بالصحبة والممارسة على تمييز كثير من الأوهام والعلل.
114 -
واهتمام النقاد بهذا الأمر جعلهم يتابعون الرواة عن شيخ ما فيقسمونهم فئات بين الأطول صحبة والأقصر، والأقل ممارسة والأكثر، وممن اعتنى اعتناء فائقا باختيار أكثر رجاله من بين الأوثق والأطول صحبة، الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، في كتابه الصحيح، وفي هذا يقول الإمام ابن رجب - في شرحه لعلل الترمذي - وأما البخاري فشرطه أشد من ذلك، وهو أنه لا يخرج إلا للثقة الضابط، ولمن ندر وهمه
…
ونذكر لذلك مثالا، وهو أن أصحاب الزهري خمس طبقات.
الطبقة الأولى: جمعت الحفظ والإتقان وطول الصحبة للزهري، والعلم بحديثه والضبط له، كمالك، وابن عيينة، وعبيد الله بن عمر، ومعمر، ويونس، وعقيل وشعيب وغيرهم، وهؤلاء متفق على تخريج حديثهم عن الزهري.
الطبقة الثانية: أهل حفظ وإتقان ولكن لم تطل صحبتهم للزهري، وإنما صحبوه مدة يسيرة، ولم يمارسوا حديثه، وهم في إتقانه دون الأولى، كالأوزاعي والليث، وهؤلاء يخرج لهم مسلم عن الزهري.
الطبقة الثالثة: لازموا الزهري وصحبوه ولكن تكلم في حفظهم، كسفيان بن حسين ومحمد بن إسحاق.
الطبقة الرابعة: قوم رووا عن الزهري من غير ملازمة، ولا طول صحبة، ومع ذلك تكلم فيهم مثل إسحاق بن أبي فروة، وهؤلاء قد يخرج الترمذي لبعضهم.
الطبقة الخامسة: قوم من المتروكين والمجهولين، كالحكم الأيلي وعبد القدوس بن حبيب.
ورجال البخاري - كما دل عليه الاستقراء - هم في معظمهم من الطبقة الأولى، طبقات الثقات ذات الصحبة والممارسة.
وهكذا نرى أن درجة الثقة وحدها لا تكفي لقبول الحديث، بل لا بد من
معرفة سياق السند ومعرفة ممارسة كل رجل من رجاله لحديث شيخه، ومعرفة هذه الممارسة تجعل نظرة المحدث تختلف - عما قبل المعرفة - وهو يرى حديث الأوزاعي عن الزهري، وحديث معمر عن الزهري، فمما لا شك فيه أن الأوزاعي أكبر وأجل، ولكن إسناد معمر أصح وأدق. إذ أن معمر عن الزهري من الطبقة الأولى، والأوزاعي عن الزهري من الطبقة الثانية لقصر صحبته وقلة ممارسته.
ومن أجل هذه الممارسة كان بعض المحدثين لا يرضى أن يسمع الحديث من الشيخ مرة واحدة. قال حماد بن زيد: ما أبالي من خالفني إذا وافقني شعبة، لأن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث مرة واحدة، يعاود صاحبه مرارا.
وتظهر هذه الممارسة في عبارات القوم وهم يقولون: ليس هذا الحديث من حديث فلان أو يقولون: هذا الحديث أشبه بفلان، إلى غير ذلك من العبارات التي تدل على خبرة واسعة بعلاقة الرواة، بعضهم ببعض.
والجدير بالذكر أن هذه الممارسة قد ترفع الراوي من رتبة الصدوق إلى رتبة الثقة، أو إلى رتبة أوثق الناس في هذا الشيخ، ومثاله حماد بن سلمة، فق اتفق النقاد أنه أوثق الناس في ثابت، بالرغم من أن حمادا بشكل عام كثير الوهم والخطأ.
قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في علله: "وسئل أبو زرعة عن حديث رواه القعنبي عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها، ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان" ورواه حماد بن سلمة عن ثابت، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو زرعة حماد أحفظ".
وقال أبو حاتم في علة حديث ذكره: المسعودي أفهم بحديث عون وأشبه.
وقال أبو زرعة: محمد بن يزيد عن أشبه لأنه أفهم لحديث أبيه.
وهذا كله في مجال تقديم إسناد على آخر إذ يتقدم الأفهم والأكثر ممارسة على غيره.
السبب السادس - اختصار الحديث أو روايته بالمعنى:
رأى الجمهور على أن الرواية بالمعنى جائزة وقد دلل ابن رجب على جوازها بأقوال بعض الصحابة والتابعين، وعلماء الحديث المتقدمين، وبأن الله يقص قصص القرون السالفة بغير لغاتها، وقد قيد العلماء هذا الجواز فاشترطوا فيمن يروي الحديث بالمعنى أن يكون عارفا بمواقع الألفاظ، بصيرا بدلالاتها، حتى لا يحيل الحلال حراما، أو يضع الدليل في غير مكانه. وفي شرح علل الترمذي تفصيل لهذا الموضوع، وعرض لأقوال العلماء فيه وأن الرواية بالمعنى، إن لم يلتزم راويها بشرطها الذي يضمن عدم الإحالة، فإن هذه الرواية تكون سببا في دخول العلة على الحديث.
وقد مثل ابن رجب لروايات بالمعنى أحال الرواة معناها، لاضطراب في المقدرة اللغوية، وعدم معرفتهم بلغة العرب، أو عدم إدراك المراد من الحديث وسببه الذي قيل فيه.
وفي هذا يقول ابن رجب: "وقد روى كثير من الناس الحديث بمعنى فهموه منه، فغيروا المعنى: مثل ما اختصر بعضهم من حديث عائشة في حيضها في الحج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها وكانت حائضا: "انقضي رأسك وامتشطي" وأدخله في باب غسل الحيض، وقد أنكر أحمد ذلك على من
فعله، لأن يخل بالمعنى، فإن هذا لم تؤمر به في الغسل من الحيض عند انقطاعه، بل في غسل الحائض إذا أرادت الإحرام.
وروى بعضهم حديث "إذا قرأ" يعني الإمام "فأنصتوا" بما فهمه من المعنى، فقال: إذا قرأ الإمام " (ولا الضالين) فأنصتوا، فحمله على فراغه من القراءة، لا على شروعه فيها.
وروى بعضهم حديث: كنا نؤديه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد زكاة الفطر، فصحف نؤديه، فقال نورثه، ثم فسره من عنده فقال الجد.
كل هذا تصرف سيئ لا يجوز مثله".
وقد يدخل هذا الوهم على كبار الثقات رغم يقظتهم، وذلك إما لانشغالهم أثناء التحديث، وإما لحضورهم بعض الحديث دون بعضه الآخر، ومثال ذلك:
ما رواه أبو داود في سننه "عن زيد بن ثابت قوله في كراء المزارع: يغفر الله لرافع بن خديج، أنا - الله - أعلم بالحديث منه، إنما أتاه رجلان، - قال مسدد: من الأنصار اتفقا، ثم اقتتلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع" زاد مسدد: فسمع قوله: لا تكروا المزارع"، فروى رافع ما سمعه من الحديث، علما بأن المنع مقيد بما إذا اقتتلوا فأخطأ في روايته.
ونقل مثل هذا عن عائشة - رضي الله عن ها - في إنكارها على ابن عمر روايته "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه".
فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه نسي
أو أخطأ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على يهودية يبكى عليها، فقال:"إنهم يبكون، وإنها تعذب في قبرها".
وقد ذكر الحاكم هذا الحديث وقول عائشة - رضي الله عن ها - في ردها على ابن عمر في موضوع معرفة الناسخ والمنسوخ وهو النوع الحادي والعشرون من كتابه. وأرى أن ذكر هذا الحديث ليس مناسبا في هذا النوع، وإنما هو إلى الرواية بالمعنى أقرب منه إلى النسخ، علما بأن ابن قتيبة في كتابه مختلف الحديث رد قول القائلين بوهم ابن عمر - رضي الله عن هما - مؤيدا قوله بروايات عدد من الصحابة لهذا الحديث.
السبب السابع - تدليس الثقات:
وقد يكون سبب العلة تدليسا أدركه النقاد فكشفوا فيه عن انقطاع في الإسناد أو رواية عن ضعيف غير اسمه أو كنيته. وغالبا ما تكون العلة في حديث الأعمش أو هشيم بن بشير أو إسحاق بن أبي فروة أو ابن جريح ناشئة عن التدليس.
والتدليس إما أن يكون تدليسا للإسناد، وهو أن يروي عمن لقيه ولم يسمع منه أو عمن عاصره ولم يلقه، أو عمن سمع منه شيئا ولم يسمع موضوع الرواية وفي كل هذا يوهم أنه سمع.
وتدليس الشيوخ: هو أن يسمي شيخه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف وقد أفرد ابن رجب الكلام عن التدليس بمبحث ذكر فيه أقوال العلماء، وشروطهم لقبول رواية المدلس.
السبب الثامن - الرواية عن المجروحين والضعفاء:
وقد تضمنت كتب العلل أحاديث ذكر أن علتها جرح الراوي، فكان هذا
الجرح سببا في العلة، وقد سبق وأن اشترطنا لدخول هذا الفرع في العلل أن يكون من الخفاء بحيث يغيب عن بعض الثقات الأعلام، كأن يروي مالك عن عبد الكريم أبي أمية والشافعي عن إبراهيم بن أبي يحيى. والأمثلة على هذا السبب من أسباب الجرح كثيرة سنذكر بعضها في هذه الدراسة، وينبغي التنبيه إلى أن الأغلب في العلل أوهام الثقات، حتى الرواية عن المجروحين كثيرا ما ترتبط بالثقة الذي روى الحديث. ***
وفي جعل الجرح سببا من أسباب العلة يقول ابن الصلاح:
"ثم اعلم أنه قد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث، المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف، المانعة من العمل به، على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل، ولذلك نجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب والغفلة وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح"