الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع علل الترمذي الكبير
اشتهر الترمذي رحمه الله ونبغ في هذا الفن من فنون الحديث حتى جاء كتابه الجامع كتابا معللا، فكانت ميزة خاصة له دون سائر كتب السنة، وقد ربط الإمام الكبير ربطا محكما بين الحديث وعلله فجعل لجامعه ملحقا سماه "العلل" وضمنه الكلام عن منهجه في الرواية والدراية، سندا ومتنا، وقد رأيت في هذا الكتاب - الصغير في حجمه، الكبير في أهدافه ومعارفه - فلسفة كاملة "للجامع" أولا وللحديث ثانيا، وفيه كشف الترمذي أسانيده وخطته ومصطلحاته ومذهبه في النقد والتعليل، وكما يصلح هذا الكتاب لجامع الترمذي فإنه يصدق في أكثر جوانبه على كتب الحديث الأخرى. وقد تكلمنا عن منهجه ومقاصده في المباحث السابقة.
على وجه الإجمال والاختصار، وذلك لأن "العلل الصغير" من خلال شرح ابن رجب، هو موضوع رسالتي هذه، فسأترك الكلام عليه لمن هو أهله، وكفى بابن رجب أهلا لذلك، وسنلتقي به - إن شاء الله - في ستمائة صفحة بعد هذه الدراسة. وأما العلل الكبير، فصفته الكبير تشير إلى أنه أكبر من سابقه وأشمل. وقد كان يظن إلى عهد قريب أنه مفقود، وجاء ذلك في كتاب الدكتور نور الدين العتر "الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين" والذي نال به درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين، جاء في هذا الكتاب قوله: "لكن يد الحدثان
طوت عنا هذا الكتاب، حتى لا نجد منه إلا النقول عنه، ولولا وفرة هذه النقول لما أمكن أن نكتب هذا البحث".
ولقد قادت هذه النقول الأستاذ الفاضل إلى القول: "وهذا كتاب صنفه أبو عيسى على الأبواب - فيما يبدو لنا".
وبحمد الله وجدت هذا الكتاب باسم:
"كتاب فيه علل الترمذي الكبير، رتبه على أبواب الجامع أبو طالب القاضي" وهو من مخطوطات مكتبة أحمد الثالث بتركيا وتحت رقم (530) .
وجاء في مقدمة هذا الكتاب: "قال الفقيه القاضي أبو طالب وفقه الله:
هذا كتاب قصدت فيه ترتيب كتاب العلل لأبي عيسى الترمذي رحمه الله على نسق كتاب الجامع له حتى يسهل فيه طلب الحديث، إذ الأحاديث فيه مفرقة منثورة، فلا تضبطها أبواب. فنظرت فيها فرددت أحاديث كتاب العلل إلى ما يليق بها من كتب الجامع، فجعلت الطهارة في كتاب الطهارة، وهكذا إلى آخر الجامع. إلا أن يكون كتاب لم يكن فيه في كتاب العلل حديث فأني أسقطه، وأدخلت أحاديث هذه الكتب تحت أبوابها التي هي تبويب الترمذي على ما أذكره، وذلك إما أن يكون الحديث المذكور في العلل مذكورا بعينه في ذلك الباب من كتاب الجامع، وإما بأن ينبه عليه أبو عيسى بأن يقول: في الباب عن فلان من الصحابة، ويكون الحديث في العلل مخرجا عن ذلك الصحابي، وإما أن يكون مطابقا للحديث الذي تضمنه الباب، وفي معناه فعلى هذا النحو جعلت الأحاديث تحت الأبواب وأسقطت من تراجم الأبواب ما لم يكن في كتاب العلل فيه أحاديث.
وقد تجيء في كتاب العلل أحاديث لا يذكرها أبو عيسى في الجامع ولا يبوب فيه بابا يقتضي أن تجعل فيه، فأفردت لما كان من هذا النوع فصولا في أواخر الكتب التي تكون تلك الأحاديث منها. ونبهت على أنها ليست في الجامع إذ تبين من مطالعة الكتابين ما زاد كتاب العلل على كتاب الجامع. وذلك هو الأقل. وما كان فيه من كلام على رجال جرى ذكرهم في سند حديث فإني سقته حيث سقت الحديث. وما كان من الكلام على رجال لم يقع ذكرهم في حديث، وإنما جاء ذلك منثورا في أثناء الكلام، فإني ذكرت ذلك في آخر الكتاب، في باب الجامع يأتي ذكره هنالك إن شاء الله.
ولقد كان يتجه أن يسقط من كتاب العلل ما كان مذكورا في الجامع، حتى لا يذكر فيه إلا ما ليس في الجامع، غير أنا كرهنا أن نسقط منه شيئا فتركناه على ما هو عليه فربما يجيء الباب ويكون فيه الحديث الذي في ذلك الباب من الجامع بنحو الكلام الذي تكلم عليه في الجامع بلا مزيد على ذلك".
وفي نهاية هذه المقدمة التفصيلية، التي بين فيها عمله ومنهجه، ذكر إسناد كتاب العلل إلى الترمذي والجدير بالذكر أنه رواه عن شيخه أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال0
ومن هذه المقدمة الوافية الضافية تبين لنا ما يلي:
1 -
إن الترمذي لم يرتب كتابه "العلل الكبير" على الأبواب، بل ترك مادته منثورة مفترقة.
2 -
إن الذي رتبه على الأبواب هو القاضي أبو طالب، وذلك ليسهل الرجوع إلى الحديث فيه.
3 -
إنه رتب كتاب العلل تماما على أبواب كتاب الجامع الصحيح، واحتفظ بعناوين الأبواب عند الترمذي كما هي في الجامع. فإذا كان باب من أبواب الجامع لا مادة فيه في كتاب العلل، فإنه يسقط الباب ولا يذكره.
وفيما يلي تمثيل لعمله من باب الطهارة مقارنا بجامع الترمذي:
رقم الباب أبواب جامع الترمذي/ أبواب علل الترمذي الكبير رقم الباب (1)(2)(3)(4)(5)(6)(7)(8)(9)(10)(11) باب / لا تقبل صلاة بغير طهور باب / فضل الطهور باب / مفتاح الصلاة الطهور باب / ما يقول إذا دخل الخلاء باب / ما يقول إذا خرج من الخلاء باب / النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول باب / الرخصة في ذلك باب / النهي عن البول قائما باب / الرخصة في البول قائما باب / في الاستتار عند الحاجة باب / كراهة الاستنجاء باليمين - باب / ما جاء في فضل الطهور باب / مفتاح الصلاة الطهور باب / ما يقول إذا دخل الخلاء - باب / الرخصة في استقبال القبلة - باب / الرخصة في البول قائما باب / في الاستتار عند الحاجة - (1)(2)(3)(4)(5)(6)
ومن هذه المقارنة يظهر الترتيب الذي سار عليه أبو طالب القاضي، والذي وافق ترتيب الجامع، مع إسقاط الباب الذي لم يذكر عنه شيء في كتاب العلل.
4 -
أما الأسس التي اعتمد عليها أبو طالب في إلحاق مادة العلل بالأبواب فهي ما يلي:
(أ) إذا كان الحديث المذكور في العلل مذكورا في كتاب الجامع فإنه يضعه تحت نفس العنوان.
(ب) إذا كان الحديث المذكور في الجامع قد أشار إليه الترمذي إشارة في الباب بقوله: وفي الباب عن فلان من الصحابة، وقد جاء هذا الحديث مفصلا في العلل فإنه يلحقه في الباب الذي أشار إليه.
(ج) إذا كان الحديث غير مذكور في الجامع ولكنه مطابق لباب من أبوابه فإنه يضعه تحت ذلك الباب.
5 -
أما الأحاديث التي ذكرت في "العلل" ولم ترد في "الجامع" فإن أبا طالب قد جعلها في فصول آخر الكتاب.
6 -
وأما الكلام عن الرجال فترتيبه على ضربين:
(أ) إذا كان ذكر هؤلاء الرجال متعلقا بحديث ما، فإنه يساق مع هذا الحديث في بابه.
(ب) وإذا كان الكلام عن الرجال عاما لا يرتبط بحديث معين موجود، فإنه يذكره في آخر الكتاب في باب جامع في الرجال.
ومن خلال قراءتي لهذا الكتاب أكثر من مرة بحثا عن النصوص التي أوردها ابن رجب عنه، وجدت فيه نموذجا يحتذى لمن يعزم على ترتيب بقية كتب العلل، والتي لا تجنى الفائدة الكاملة منها إلا بترتيبها، وأي كتاب سيكون علل أحمد لو قدر له أن يرتب بمثل هذا الترتيب، وبذلك تجتمع مئات الأحاديث المعلة في أبواب منظمة، وتفهرس أسماء الرجال الواردة فيه فتشكل مصدرا من أهم مصادر البحث في الرجال والتراجم، وبذلك يضاف إلى إمامة صاحبه سهولة تناوله.
لقد سبقت الإشارة إلى أن الدكتور العتر بحث عن نصوص من كتاب العلل فوجد نقولا في بعض الكتب، وكانت هذه النقول الأساس الذي بني عليه دراسته لهذا الكتاب.
وقد قابلت هذه النقول بمادة الأصل فوجدتها مطابقة تماما، مما يشهد للنسخة المخطوطة بالسلامة والدقة. ومن هذه النقول ما أخذه من "نصب الراية" وهو حديث عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمسا. قال الترمذي في العلل: سألت محمدا عن هذا الحديث فضعفه وقال: لا أعلم رواه غير ابن لهيعة.
وجاء هذا النص في العلل تحت عنوان "في التكبير في العيدين" وفيه: وسألته عن حديث ابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات". ورواه بعضهم عن ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن الزهري عن عروة عن عائشة، فضعف هذا الحديث، قلت له: رواه غير ابن لهيعة، قال: لا أعلمه.
أما مادة هذا الكتاب فأكثرها أحاديث ذكرت عللها، ومعظم هذه المادة موجود في كتاب الجامع، ويبدو أن الترمذي أراد من علله الكبير إفراد العلل بالتصنيف المستقل، ليكون نموذجا للبحث التطبيقي المتخصص في العلل. وقد اكتسبت هذه المادة أهمية كبيرة وذلك لأمور:
1 -
أنها في أكثرها آراء للبخاري في العلل ومعرفة الرجال حتى كأن الكتاب للبخاري وليس للترمذي، إذ لا يكاد يخلو حديث من قول الترمذي: وسألت محمدا عن هذا الحديث".
2 -
أن الذي يسأل البخاري هو من أرباب هذا الشأن العارف بمواطن الأوهام واللبس إذ هو ممن دار عليهم هذا العلم في زمنه إلا أنه الترمذي.
3 -
أن الأحاديث المعلة هنا هي في غالبها من الأحاديث المشهورة المتداولة بين الناس. وقد استعرضنا نماذج كثيرة من هذا الكتاب في أسباب العلل وأنواعها.
وفيما يلي نموذج من مادة الكتاب:
1 -
"حدثنا محمد بن بشار (نا) يحيى بن سعيد، عن أسامة بن زيد عن سالم بن خربوذ أبي النعمان، عن أم حبيبة، قالت: "ربما اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد" وهكذا روى أبو أسامة وغير واحد عن أسامة بن زيد. وقال وكيع: عن أسامة بن زيد، عن النعمان بن خربوذ قال: سمعت أم حبيبة: ربما اختلفت يدي. فسألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: وهم وكيع، والصحيح: عن أسامة بن زيد، عن سالم بن خربوذ، أبي النعمان.
قلت لمحمد: روى هذا الحديث قبيصة، عن سفيان عن أسامة، فقال عن أم حبيبة - فقال: أخطأ فيه قبيصة".
وفي هذا المثال نرى العلة في حديث رجلين من الثقات وكيع بن الجراح وقبيصة بن ذؤيب. أما الأول فقد وهم في تغيير اسم الراوي، وأما الثاني فقد أعل سنده بالانقطاع.
2 -
وفيما يلي نموذج من آخر الكتاب مما يتعلق بالرجال: "قال أبو عيسى: رأيت محمدا يثني على الأفريقي خيرا، يعني عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، ويقوي أمره، وسألت محمدا عن صالح المري، فقال: هو ضعيف الحديث، ذاهب الحديث، قال أبو عيسى: صالح المري رجل صالح ثقة تفرد بأحاديث عن الثقات يخاف عليه الغلط.